فجَّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قنبلة تهجير الشعب الفلسطيني من غزّة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي (يناير)، ثم أعاد التأكيد عليها في مناسبات لاحقة بإصرار شديد على أنه سيَجري إفراغُ قطاع غزّة من أهله، وأنّ مصر والأردن هما الوجهة، ثم واصل ترامب وقاحته التي توسّعت فطالت السعودية، حين قال نتنياهو إنّها المكان المناسب لإقامة دولة فلسطينية.
ذلك كله، ولم يفكّر العرب في عقد قمّة طارئة لمناقشة هذا الجنون إلا في نهاية الأسبوع الأوّل من فبراير/ شباط، إذ حدّدوا لها السابع والعشرين من الشهر نفسه، لتدور عجلة الاجتماعات التحضيرية فتبدأ معها العراقيل المُفتعلة من أطراف عربية كانت طوال الوقت أقرب إلى الانحياز إلى الجانب الإسرائيلي الأميركي في العدوان على غزّة.

   كانت الطعنة الأولى من تلك العاصمة الخليجية التي نفّذت محاولة مبكّرة لتفجير القمّة العربية الطارئة، بإصرارها على تغيير صيغة قرار عربي موحّد برفض مُطلق لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، فاشترطت إضافة كلمة "القسري" ليكون المرفوض عربيّاً هو التهجير القسري فقط، بينما لا غضاضة في التهجير الطوعي.

   فيما بعد، بدأ الحماس لعقد القمة يفتر شيئاً فشيئاً، بالتزامن مع ما يشبه حملةً غريبة في سياقها ضدّ المقاومة الفلسطينية يشنّها دبلوماسيون رسميون عرب، وسياسيون مقرّبون من أنظمة تطالب حركة حماس بالخروج من المشهد في غزّة، وتعتبرها عقبةً في طريق إعادة الإعمار واستئناف الحياة في غزّة، وهو ما تطرّق إليه على استحياء أمين عام جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، ثم قاله بوضوح شديد المتحدّث باسم الجامعة حسام زكي: "مصلحة فلسطين تقتضي خروج حماس من قيادة القطاع في الفترة الحالية"، وهو المعنى الذي ذهب إليه بفجاجة أكبر الرئيس التنفيذي للشركة المتحدة المهيمنة على الإعلام المصري، عبد اللطيف المناوي، الذي ذهب إلى تحميل "حماس" والمقاومة المسؤولية عن الوضع العربي الراهن.

   على أنّ ما يجعل القمّة العربية التي يتحدثون عنها لا قيمة أو أهمية لها، أو أنها أقرب إلى التهريج في موضع الجدّ هو أنّ موعد انعقادها نفسه لم يعد معروفاً أو محّدداً، بعدَ أن قرّر الفاعلون في النظام العربية تأجيلها مجدّداً لتكون في الرابع من مارس/ آذار، بالنظر إلى أنّ الخلافات حول جدول الأعمال والقرارات لا تزال قائمة، فضلاً عن أنّ عديد القادة غير مهتمين بالحضور.

   الشاهد أن تراجع ترامب التكتيكي عن تصريحاته الوقحة في موضوع امتلاكه غزّة وتهجير الشعب الفلسطيني منها، وجد استجابة فورية من حكام عرب فترت همّتهم لعقد القمة (الطارئة بعد شهر ونصف الشهر من الحدث الداعي لعقدها)، ليبدأ الحديث عن قمم رباعية بين أطراف عربية بعينها، وأخرى عربية أميركية.

   يؤكّد ذلك كلّه أنّه لم يبق من أمل في وقف مذبحة ترامب التي تستهدف تاريخ وجغرافيا فلسطين، سوى أن تدرك الشعوب العربية أن لها أدواراً وجودية أخرى غير لعن حكّامها المتخاذلين المفرّطين المنبطحين، الذين يقولون شيئاً في العلن ويفعلون عكسَه في السر.

   كلُّ معطيات اللحظة الراهنة تقول إنّه لم يعد ثمّة أحد لفلسطين إلا الشعوب العربية، وبالتالي يصبح الاكتفاء بالأنين العاجز المكتوم من ضعف الحكّام، أو ادعاء الضعف، أمام الإهانة الأميركية والجريمة الصهيونية، هو بحدّ ذاته شكلاً من أشكال التواطؤ والإسهام في خذلان فلسطين، كون هذه الشعوب لا تمارس ضغطاً يُذكر، يمكن أن يؤثّر على حكّام يتماهون مع المشيئة الأميركية، ولا يملكون أمامها سوى أنهم سيفكّرون في كيفية تنفيذ هذه المشيئة بما يخدم مصلحة الجميع، على نحو ما فعل عاهل الأردن بين يدي دونالد ترامب، جالساً على مقعد نتنياهو أمام مدفأة الرئيس الأميركي التي يصنع على وهجها شرقَ أوسَطِهِ الجديد.