تشهد مصر تراجعًا غير مسبوق في معدلات النمو السكاني، مسجلةً أدنى نسبة زيادة سكانية منذ نصف قرن. هذه الظاهرة، التي بدت للبعض نجاحًا حكوميًا في مواجهة الزيادة السكانية، يراها آخرون نتيجة مباشرة للأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد. فهل هو إنجاز تخطيطي أم انعكاس للأوضاع المعيشية المتردية؟
 

أرقام تكشف التراجع
   
كشف تقرير صادر عن وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية أن معدل النمو السكاني في مصر انخفض بنسبة 4.6% بين عامي 2017 و2023، ليصل إلى 1.4% في 2023، وهو الأدنى منذ 50 عامًا، وسجل عدد المواليد حوالي مليوني مولود خلال العام الماضي، بانخفاض بلغ 7% مقارنة بعام 2022.

كما أشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى انخفاض معدل المواليد إلى مولود واحد كل 16 ثانية، بعد أن كان يُسجل مولودًا كل أربع ثوانٍ في العقود الماضي،  ورغم ذلك، بلغ عدد سكان مصر أكثر من 107 ملايين نسمة، مع تسجيل أكثر من 1.4 مليون مولود خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2024.
 

الحكومة: نجاح لجهود تنظيم الأسرة
   من جهتها، تؤكد وزارة الصحة والسكان أن تراجع معدل الإنجاب يُعزى إلى جهود تنظيم الأسرة والتوعية المجتمعية.
وأشادت الوزارة بالبرامج الحكومية والمبادرات التي ساهمت في تحقيق هذا الانخفاض، مؤكدة أن مصر سجلت أدنى معدل إنجاب خلال 17 عامًا.

رئيس هيئة الاعتماد والرقابة في وزارة الصحة أحمد طه، يرى أن هذه النتائج الإيجابية هي ثمرة الجهود الحكومية والمبادرات التوعوية المستمرة، والتي حظيت بإشادة دولية، مشيرًا إلى أن الأمر لا يتعلق فقط بعوامل اقتصادية بل بتحسن الوعي العام بأهمية تنظيم الأسرة.
 

اقتصاديون: الأزمة المالية وراء التراجع
   على الجانب الآخر، يرى خبراء الاقتصاد أن العامل الأساسي وراء انخفاض معدل النمو السكاني هو التدهور الاقتصادي الذي يواجهه المصريون، ويشير أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة رشاد عبده إلى أن ارتفاع معدلات التضخم، التي تجاوزت 30%.
وتراجع القدرة الشرائية دفع العديد من الأسر إلى إعادة التفكير في الإنجاب، كما أدى ارتفاع تكاليف الزواج إلى تراجع نسب الزواج، ما انعكس مباشرة على معدلات الإنجاب.

ويضيف عبده أن معظم الأسر، خصوصًا في الدلتا والصعيد، كانت تنجب في السابق أربعة إلى خمسة أطفال في المتوسط، لكن هذا النمط تراجع بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة، ويرى أن الحكومة تستخدم قضية الزيادة السكانية لتبرير الأزمات الاقتصادية بدلًا من العمل على استثمارها في التنمية.
 

تشكيك في فاعلية حملات تنظيم الأسرة
   في السياق ذاته، يشكك مستشار وزير الصحة والسكان الأسبق عبد الحميد فوزي في دور حملات تنظيم الأسرة، مؤكدًا أنها لم تعد فعالة كما كانت قبل 2011، وأنها تستهدف الفئات الأقل تعليمًا ووضعًا اقتصاديًا، وهي الفئات التي لا تستجيب لهذه الحملات.

ويرى فوزي أن السبب الحقيقي لتراجع معدلات الإنجاب هو الأزمة الاقتصادية، حيث لم تعد الأسر قادرة على تحمل تكاليف المعيشة الأساسية، ما دفعها إلى تجنب الإنجاب أو الاكتفاء بطفل أو طفلين.
 

الزيادة السكانية بين "النعمة" و"النقمة"
   تاريخيًا، كانت الزيادة السكانية تُعتبر في بعض الدول رافدًا مهمًا للنمو الاقتصادي، كما حدث في الصين والهند وإندونيسيا. إلا أن في مصر، سوء التخطيط الاقتصادي جعلها عبئًا بدلًا من أن تكون طاقة منتجة.

وفي هذا السياق، يستشهد رشاد عبده بما قامت به المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل عندما فتحت أبواب الهجرة لتعويض نقص الأيدي العاملة، مؤكدًا أن مصر كان يمكنها استغلال النمو السكاني في دعم الإنتاج بدلاً من اعتباره مشكلة.