في بيان علني، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الثلاثاء (4 فبراير 2025)، إنه يريد "السيطرة" على قطاع غزّة "لتنظيف البيوت"، وجعل المنطقة "كوت دازور الشرق الأوسط"، من خلال نقل الفلسطينيين إلى الأردن أو مصر، من دون أن يعنيه أن الفلسطينيين الذين عادوا إلى أماكنهم المدمّرة نصبوا خيامهم فوق أنقاض بيوتهم، متمسّكين بأرضهم، ومستذكرين عام النكبة وما حلّ بهم بسبب التهجير القسري تجربةً تاريخيةً يجب ألا تتكرّر.
جاء ذلك في مؤتمر صحافي، وفي جانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية في مذكّرتَي اعتقال بحقّه وحقّ وزير الأمن السابق، يوآف غالانت، أشارتا إلى أن هناك "أسباباً منطقية" للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في قطاع غزّة.
من جانبه، اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أن هذه الرغبة الأميركية يمكن أن "تغيّر التاريخ" بالفعل، ووصفت مقرّرة الأمم المتحدة الخاصّة للأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، اقتراح ترامب بأنه "غير قانوني" و"سخيف تماماً".
والواقع أن هذا الاقتراح يتعارض مع مبادئ عدّة في القانون الدولي. وصدر استنكار للاقتراح من عديد من الدول العربية والعالمية.
من خلال إعلان عن هذا المشروع، أعطى ترامب نفسه الحقّ في أن يكون قادراً على التصرّف بهذه الأراضي على حساب سكّانها الأصليين.
وهو بذلك يخالف مبدأً من مبادئ القانون الدولي، يدافع عن "حقّ الشعوب في تقرير المصير"، وهذا المبدأ مكرّس في العديد من المعاهدات الدولية، بما في ذلك المعاهدة الدولية الخاصّة بالحقوق المدنية والسياسية، والمعاهدة الدولية الخاصّة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذه معاهدات دولية، أي ملزمة، لكن ترامب ونتنياهو خارجان على القانون.
كما أن هذا الحقّ مكرّس أيضاً في ميثاق الأمم المتحدة، إذ تنصّ المادة 1-2 على أن الغرض من الأمم المتحدة هو "تطوير علاقات ودّية بين الدول على أساس احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب وحقّها في تقرير المصير".
هذا ما أكّد عليه أيضاً مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في بيان: "الحقّ في تقرير المصير مبدأ أساس من مبادئ القانون الدولي، ويجب أن تحميه جميع الدول، كما أكّدت محكمة العدل الدولية أخيراً"، و"وتحظر اتفاقية جنيف الرابعة، المتعلّقة بحماية المدنيين وقت الحرب، فعلياً في المادة 49 النقل القسري، سواء بشكل جماعي أو فردي، وكذلك ترحيل الأشخاص المحميين".
وترحيل السكّان أو نقلهم القسري يُعدّ جريمةً ضدّ الإنسانية في المادة 7 (د) من نظام روما الأساسي، الذي تستند إليه المحكمة الجنائية الدولية.
وهكذا، فإن هذه المبادئ الدولية مكرّسة في القانون الدولي في العديد من النصوص الأساسية، لكن ترامب، رجل الصفقات الذي لا يمكن التكهّن بنيّاته، لا يتصرّف تجاه العالم مُجتمِعاً بنزعة استعلائية فحسب، إنما أيضاً بموقف عدائي قائم على افتراض يضمره في باله، ويصرّح به علناً، بأن كثيراً من الدول تستغلّ أميركا، ويرى أن أميركا هي الأقوى، ويريد أن يفرض ما يريد، وهو عادةً عندما يقرّر يفعلها.
لكنّه أيضاً يبدأ معركته بضربة شبه قاضية يجعل الخصم يطوش من ضربته ويستشعر الخطر، وبهذا يجرّه إلى المفاوضات، التي لا يمكن أن يخرج منها غير حائز على القدر الأكبر من المكاسب، هذا ما شاهدناه أخيراً في حربه التجارية مع المكسيك وكندا، وكيف جرّهما إلى ساحة التفاوض، التي في ملعبه، وانتزع منهما إجراءات إذعانية ليحقّق ما يراه في مصلحة أميركا.
كذلك موقفه من الاتحاد الأوروبي، الذي قال إن رفع الرسوم الجمركية على الواردات الأوروبية سيكون في الوقت القريب، ما أدخل الاتحاد الأوروبي في حالة من الإرباك واستعجال عقد مؤتمر في بروكسل من أجل مناقشة ردٍّ أوروبي موحّدٍ ضدّ إجراءات ترامب فيما لو فعلها، فهم يدركون تماماً أنهم أمام إصرار رجل لديه كثير من الاعتداد بالنفس، والجنوح في قراراته نحو مستويات غير متوقّعة، على قاعدة إيمانه بأن أميركا هي الأقوى، ويريد أن يفرض ما يريد.
في الوقت نفسه فإن أوروبا تعاني مشكلات جوهرية على صعيد دول الاتحاد، وشروخاً يسعى ترامب إلى توسيعها، لا ننسى أنه شجع البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، فهناك انقسامات حول قضايا محورية، كالدفاع الذي لم تكن دول الاتحاد تعيره كثير اهتمام بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الأمر يريح الولايات المتحدة، بما أنه يحقّق شعوراً لدى الأوروبيين بالحماية الأميركية، وبالتالي لم تشجّع على أن تطوّر أوروبا منظومتها العسكرية، إلى أن فرضت عليها الحرب الروسية في أوكرانيا إعادة النظر في هذا الأمر، والاختلافات الأيديولوجية بين يمين شعبوي يصعد إلى مستوى اتخاذ القرارات أو ترؤس حكومات، كما في إيطاليا على سبيل المثال، وهذا اليمين يفضّله ترامب، ويسعى إلى التحالف معه أو تأييده.
لذلك، فإن أوروبا ليست في موقع قوي اليوم يؤهّلها كي تكون فاعلةً في القرارات الدولية، ومنها قضية فلسطين، وحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وتأييد حلّ الدولتَين، حتى لو صدرت التصريحات باستهجان، ورفض اقتراح ترامب الأخير من أعلى المستويات القيادية، كما صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على سبيل المثال.
أوروبا ليست في موقع قوي اليوم يؤهّلها كي تكون فاعلةً في القرارات الدولية، ومنها قضية فلسطين، وحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
لم يعد النظام القائم على التوازنات هو المعتمد، بل القائم على القوة المُكرِهة، والولايات المتحدة لديها هذه القوة، يمارسها ترامب بشكل سافر يصل إلى حدّ الوقاحة في كثير من الحالات، كما في اقتراحه بالنسبة إلى تهجير الفلسطينيين من القطاع والضفة الغربية، ضارباً عُرْض الحائط بمواقف أصحاب الشأن، من الفلسطينيين والمصريين والأردنيين.
مثل هذا البيان يثير قلق الخبراء القانونيين، الذين يأملون ألا يلهم القادة الآخرين في العالم. "الطريقة غير الرسمية التي يناقش بها ترامب أشياء مثل السيطرة على منطقة ما، وتشريد السكّان، تعطي الانطباع بأنه يمكن كسر القواعد الدولية بسهولة"، كما عبّر تامر موريس، خبير القانون الدولي في جامعة سيدني بأستراليا.
وفي السياق ذاته، تقول الباحثة في القانون الدولي في المركز الوطني للأبحاث، التابعة لجامعة باريس 1 بانتيون السوربون، كاثرين لو بريس، "في القانون الدولي، لدينا العديد من مصادر القانون.
هناك معاهدات، ولكن هناك أيضاً أعراف. يتم إنشاء واحد منها من قبل الولايات ولكي يتم إنشاء العرف، يجب أن تكون هناك ممارسة مستمرّة.
من الواضح أن هذا يحدث على مدى عقود، إنه وقت طويل جدّاً، ولكن بحكم تكرار أشياء معيَّنة، ينشأ عرف".
ووفقا لها، فإن الخطر يكمن في ظهور قاعدة جديدة في القانون الدولي، قريبة من تلك التي أصدرها دونالد ترامب.
هذا الأمر معروف ومتّبع في القضاء أيضاً، كأن تُتَّخذ مرافعةٌ أو قرارٌ قضائي سابق مقياساً يُبنَى عليه فيما لو كان هناك خلاف حول قضية ما.
انطلاقاً من هذا الوضع الراهن، لو باشر ترامب فعلياً بتطبيق قراره من طريق دعم حكومة نتنياهو في المضي قدماً بعرقلة المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار، وعرقلة الاتفاق كاملاً، والعودة إلى ما قبله، ليستمرّ في حربه الممنهجة ضدّ سكّان القطاع، وتقدّمت إحدى الدول بطلب اجتماع لمجلس الأمن من أجل اتخاذ إجراء بحقّ إسرائيل ووقف خطّتها التطهيرية، هل يمكن أن يمرّ القرار من مجلس الأمن وأميركا صاحبة الحقّ في النقض (فيتو)؟
في الواقع إن ترامب ماضٍ في مشروعه لحلّ معضلات أميركا وحليفتها إسرائيل بسرعة كبيرة، مستغلّاً ولايته الرئاسية الأخيرة، وفرض أجندته على العالم، ومن ضمن مشاريعه المتحالفة بقوة مع إسرائيل منطقة الشرق الأوسط، التي يريدون رسم خريطتها الجيوسياسية والبشرية من جديد، وليست سورية بمعزل عن هذا المشروع، بل إنها في بؤرته، ولا يمكن عزل التحوّلات الماضية عن مرامي أميركا وإسرائيل، فإذا كان الضوء الأخضر قد مُنِح لتركيا بأن تكون فاعلاً رئيساً في رسم معالم المنطقة، بأن يسمح لها بأن تكون قوّةً فاعلةً في سورية، وإقامة قواعد عسكرية، والإشراف على تأسيس الجيش الجديد، فهذا في مقابل التخلّي عن دعم أميركا لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وقيام تركيا بحماية المنطقة من التسلّل الإيراني إليها.
في الوقت نفسه، فإن إسرائيل تتسلّل إلى العمق السوري مدّعيةً (كالعادة) بأن وجودها مؤقّت، وما كان مؤقّتاً خلال تاريخها صار دائماً باستمرار.
أمام هذا الجموح الأميركي، والأزمات التي يحدثها في العالم كلّه، ربّما أكثرها توازناً حربه مع الصين، وأمام هذه الوقاحة التي يتحدّث بها ترامب، ويطلق التصريحات والاقتراحات، فإن وحدة الموقف العربي أمر في غاية الأهمية في الوقت الحالي، سيرسم مستقبل المنطقة.
ليس وحدة الموقف فحسب، إنما اتّخاذ إجراءات عملية تشكّل قوّةً وازنةً في تحقيق العدالة في المنطقة كلّها.