لا تكفّ مصر الجديدة كلياً عن إثارة الدهشة لدى من ينظر إليها من بعيد، ولا تتوقّف عن تقديم كلّ ما هو عجيب وغريب ومليء بالمتناقضات، مثلاً بعد أن حشد أهل السلطة الجموع، وسيّروا قوافل الغضب ضدّ أميركا الاستعمارية والمنحازة للعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وبعد أن التهبت الأكفّ بالتصفيق، والحناجر بالصراخ، تأييداً لدعوات الصمود والتحدّي للعدو"الأميركيصهيوني"، وهتافات سقوط "كامب ديفيد"، أقدمت السلطة نفسها في اللحظة ذاتها على تكريم أحد رموز أميركا  الشريرة، ومهندس "كامب ديفيد" التي منحت الصهاينة مفاتيح الهيمنة على الشرق الأوسط، بإطلاق اسم جيمي كارتر على شارع بمنطقة مركز مصر للمعارض الدولية.

تقول صحيفة الشروق المصرية، إذ تزفّ الخبر "ظهر اسم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي وافته المنية مؤخراً على اللافتات الإرشادية في منطقة القاهرة الجديدة، بمحيط محور المشير، حيث أطلقت السلطات المختصة اسم جيمي كارتر على الشارع المجاور لمركز مصر للمعارض الدولية، ومركز المنارة للمؤتمرات، ومسجد المشير طنطاوي".

مصر الجديدة، التي استضافت أسرى فلسطين المحرّرين في عاصمتها الزجاجية الجديدة، واستقبلت رموز "حماس" للاحتفال بتحرير الأسرى، هي نفسها التي لم تكتب برقية عزاء في استشهاد رئيس "حماس"، ورمز المقاومة الخالد يحيى السنوار، في وقتٍ سالت دموعها ساخنةً، وبلّلت برقية رثاء  كارتر، الأميركي الذي منح إسرائيل ما تمكّنت به من إخضاع الشرق الأوسط، وهي نفسها، مصر الجديدة، التي لم تسمح لنقابة أو حزب سياسي بإقامة حفل تأبين لقائد المقاومة، ولم تكلّف نفسها عناء التعزية في استشهاد سلفه إسماعيل هنيّة.

لعلّها المرة الأولى في التاريخ المصري أن تطلق الحكومة اسم رئيس أميركي على أحد شوارعها وميادينها، على الرغم من وفرة أسماء الزعماء الأجانب التي يطالعها المارة في الشوارع والميادين، وهي الأسماء التي تكمن خلف اختيار كل منها إشارات ودلالات سياسية، وفي ذلك لا تزال واقعة إزالة اسم السلطان العثماني سليم الأول، في العام 2018، في الأذهان، عندما كانت العلاقات الرسمية بين القاهرة وأنقرة في أسوأ مراحلها، وهنالك قررت محافظة القاهرة تغيير اسم شارع سليم الأول في حى الزيتون، بناءً على ما قدمه أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، محمد صبري الدالي، بأنه لا يصح إطلاق اسم أول مستعمر لمصر، والذى أفقدها استقلالها وحوَّلها مُجرَّد ولاية من ولايات الدولة العثمانية.

يلفت النظر أن إطلاق اسم زعماء أجانب على شوارع مصرية ارتبط بمعارك تحرّر وطني ضدّ الاستعمار والهيمنة الأميركية ، وعلى سبيل المثال أطلق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اسم الزعيم الهندي نهرو على الشارع الذي كان يسكن به معظم قيادات مجلس قيادة ثورة 1952، بحي مصر الجديدة، كما أطلق اسم الزعيم اليوغسلافي جوزيف تيتو على أحد الميادين بالحي نفسه، وذلك بعد تشكيل مجموعة عدم الانحياز.

يدهشك أكثر أن مصر اختارت اسم زعيم فنزويلا، المناضل ضدّ الإمبريالية الأميركية، الراحل سيمون بوليفار، لتطلقه على الميدان المؤدّي إلى  مقرّ السفارة الأميركية في القاهرة.

لكلّ ذلك، تبدو ساخرةً للغاية خطوة إطلاق صانع"السلام الإسرائيلي"، جيمي كارتر، في الوقت الذي كان يردّد فيه نواب برلمانيون وسياسيون هتافات عند معبر رفح تتوعّد إسرائيل وترامب بالاجتياح، وتعلن أن صلاة الجمعة هذه المرّة في رفح، والجمعة التي تليها، ستكون في تل أبيب (!). هكذا، مرّة واحدة، ليأخذ المشهد طابع الكوميديا السياسية الزاعقة، التي سرعان ما خمدت بعد اتصال هاتفي بين ترامب والسيسي، ليعود مجدّداً حديث الكيمياء المشتركة بين الاثنين، ومدى أهمية هذه الكيمياء لمصر، ليقول عمرو أديب، كما قال آخر في بداية رئاسة ترامب الأولى، إن هناك "كيمياء جيدة بين الرئيسين السيسي وترامب.. وأجواء المكالمة كانت إيجابية".

يا لها من كيمياء مجنونة المعادلات والتفاعلات الغريبة، في التوقيتات الأغرب!