لقد جاء الإسلام الحنيف بالفطرة السوية والمحجة  البيضاء نقية لا تشوبها شائبة، فأقبل عليه الأسوياء واستضاء بنوره  الأنقياء، وشرح الله به صدر كل طالب للحقيقة وكل مستجيب لما غرسه الله في  قلبه من خير مركوز، ولهذا اختار الحبيب- صلى الله عليه وسلم- في رحلة  الإسراء والمعراج اللبَن عندما خُير  بينه وبين الخمر والعسل؛ فاختار اللبن  استجابة لنداء الفطرة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وابن حبان عن  أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أن نبي الله- صلى الله عليه  وسلم- حدثهم عن ليلة أسرى به فقال: ".. ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ  خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ  فَقَالَ هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ ...".

ويقول أديب الدعوة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه  (فقه السيرة): "إنّ سلامة الفطرة لُبّ الإسلام، ويستحيل أن تفتح أبواب  السماء لرجل فاسد السريرة، عليل القلب، إنّ الفطرة الرديئة كالعين الحمئة،  لا تسيل إلا قذرًا وسوادًا، ربّما أخفي هذا السواد الكريه وراء ألوان  زاهية، ومظاهر مزوّقة، بيد أنّ ما ينطلي على الناس لا يخدع به ربّ الناس".

إن صاحب الفطرة السليمة والأخلاق السوية يجد في نفسه لذة  العدل والصدق والعلم والإحسان ما لا يجده من الظلم والكذب، فيسر عندما يرى  مصارع الطغاة، ويسعد عندما ينجلي الظلم، ويستريح فؤاده عندما يقترب الناس  من مظان العدالة والرحمة.

 

بين الشام ومصر.. هكذا دأب الطغاة!

لقد أسعد سقوط طاغية الشام كل صاحب فطرة سوية وكل  مخلص لدينه محب لوطنه حريص على حرية شعبه، حيث تحررت سوريا من المستبد الذي  أهلك الحرث والنسل، وتسبب في مقتل مئات الآلاف من الشعب السوري، وتشريد  الملايين خارج أوطانهم وحرمانهم من أموالهم وديارهم، إضافة إلى الممارسات  القمعية والاستئصالية التي مارسها في السجون والمعتقلات وخاصة سجن صيدنايا  حيث احتجز مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الذين ولد بعضهم داخل  أقبية الزنازين ولا يعرف لأحدهم نسب، ومورست ضدهم كل وسائل التعذيب النفسي  والبدني والقتل الممنهج، بما يعد علامة بارزة على حقبة إجرامية فاشية بل  وسُبة في جبين الإنسانية.

والحقيقة فإن الجرائم التي ارتكبها بشار لم يكن متفردًا بها،  فقد كان لطاغية مصر المنقلب نصيب وافر منها، فسجونه تعج بعشرات الآلاف من  الأبرياء، ويده ملطخة بالدماء حيث أزهق آلاف الأرواح في الشوارع بالتصفية  المباشرة تارة، وعلى أعواد المشانق تارة، وبالقتل بالإهمال الطبي تارة  أخرى، إضافة إلى حالات الإخفاء القسري بعشرات الآلاف، والذين لا يعلم  مصيرهم ولا مكانهم أحد، بل ولم تكن يده ملوثة بدماء المصريين فقط، ولكنها  امتدت لجيوبهم وأموالهم فصادرت وتحفظت على الممتلكات، وباعت أجزاء عزيزة من  الوطن بثمن بخس مقابل البقاء في الحكم بالقهر والإرهاب، وأهدرت الأموال في  مشروعات فاشلة وقصور مشيدة، حتى أعمى الله بصيرته ليستشهد في ردهاتها  بقوله تعالى على لسان فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ  الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، ولتعمى بصيرته  عن العاقبة التي توعد الله تعالى بها أمثال هؤلاء الطغاة المتجبرين فيما  تلاها من آيات كريمة: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ  فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا  لِّلْآخِرِينَ} (سورة الزخرف: 55-56).

وإننا في هذه المرحلة التي زال فيها طاغية الشام نشد على يد  الشعب السوري الحبيب أن يعض على ثورته بالنواجذ، ويحمي تضحياته ومكتسباته  الغالية، ويحافظ على وحدة ترابه ووحدة كيانه، ويتصدى لكل من يسعى لإفشال  نضاله وإجهاض تجربته، أملًا أن يمنَّ الله على أمتنا بالخلاص من كل جبار  غشوم.

 

في غزة.. الطوفان لن ينزوي خلف الأحداث

وفي غزة العِزة التي غابت عنها أعين الناظرين،  وتراجعت من حولها تغطيات الإعلام إلى حين، فإننا نؤكد أنها وفلسطين العزيزة  هي قلب الأمة النابض، وبوصلة اهتماماتها، وقضيتها المركزية التي لا تغيب  عنها القلوب، ولا تبرح بعيدًا عنها المشاعر، ولا ينزوي التعلق بها خلف  الأحداث، فإنما نحن أمة واحدة تتكافأ دماؤها وتلتحم قضاياها ولا يشغلنا  فيها حدث عن حدث ولا مأساة عن مأساة.

إننا ونحن نقترب من ذكرى الإسراء والمعراج نؤكد على أن فلسطين  قضية إسلامية، وتحريرها واجب كل مسلم أبي، وصونها مهمة كل مخلص تقي، فهي  مسرى نبينا- صلى الله عليه وسلم- ومنطلق معراجه إلى السماوات العلى ومهبط  الرسالات والنبوات.

لقد تزايدت خلال المرحلة الماضية العمليات الفدائية وأبلى  المجاهدون في لقاء عدوهم بلاءً حسنًا؛ ليعود للمواجهة الفاصلة زخمها،  وللإثخان في العدو أوجُه، رغم قلة العتاد والمؤونة وإمعان العدو في أهل غزة  قتلًا وتنكيلًا، إلا أنها القلة المؤمنة التي تحمل على مدار تاريخ الأمة  من تبوك إلى الطوفان مشعل الهداية وعزمة الصمود، فتقتحم الصعاب وتتقدم  الصفوف غير آبهة بقوة العدو وما يملكه من مقومات ومن يقف وراءه من أهل  الأرض، فعيونهم على الدوام متجهة صوب السماء، يتلقون من الله المدد وقلوبهم  مطمئنة إلى نصره المؤزر وفرجه القريب، وما هو عن غزة ببعيد: {وَيَوْمَئِذٍ  يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (سورة الروم: 4-5).

 

رسالة إلى الطغاة

إن نداء الفطرة السوية يأبى على كل مسلم أن يطالع هذه  المظالم التي ذاق ويلاتها إخوانه دون أن ينحاز إلى الحق، ويركن إلى نصاعته  ويلتحم بنقائه، وينطق قلبه وعقله قبل لسانه برسالة إلى الطغاة- وفي القلب  منهم طغاة العرب الذين فقدوا بوصلة الفطرة السوية وتخاصموا مع الرحمة  والعدالة- ليؤكد لهم أن من تجبّر على شعبه ولم يسمع لصوت الحق ولم يحافظ  على مقدرات وطنه وكرامة أبنائه؛ فإن مصيره إلى زوال لا محالة، إما لاجئاً  أو مطاردًا من جموع شعبه.

إن امتلاء السجون والمعتقلات بشرفاء الوطن وأصحاب الفكر ورواد  العلم بغير وجه حق ومصادرة الأملاك وتكميم الأفواه والتضييق على الشعوب في  مصادر عيشها وموارد حياتها لن يضمن لهؤلاء المستبدين استمرارًا في مقاعدهم  أو بقاءً على عروشهم، ناهيك بأنها ستكون وبالًا على حاضر الأمة ومستقبلها،  ونزفًا في جسد الأوطان العليلة التي تئن تحت وطأة فسادهم وطغيانهم.

لقد كشف سقوط بشار الغطاء عن كثير من وقائع الفساد والقهر  للشعوب، بل والخيانة للوطن، بعدما أعلنت وكالة الأنباء الروسية أنه قام قبل  هروبه بإمداد العدو الصهيوني بكافة تمركزات ومواقع الجيش الاستراتيجية؛  ليسهل عليهم ضربها، ثم تأتينا الأخبار من فلسطين الحبيبة ومن جنين الصامدة  حيث نجد من أبناء جلدتنا من يتواطأ مع العدو ويطارد المقاومة ويسعى  لاجتثاثها وتعطيل مسارها، وفي مصر حيث يتم تسليمها إلى المؤسسات الدولية  تدير شؤونها وتبيع أصولها، ويتم التفريط في مقدراتها وإغراقها في مستنقع  الديون ووحل الخيانة.

إن الجرائم التي يرتكبها هؤلاء الطغاة والمستبدون لن يفلتوا  بها من صحوة الشعوب في الدنيا، ولن يفلتوا بها في الآخرة من  مصير الظالمين  وجزاء المفسدين: {وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَٰفِلًا عَمَّا يَعۡمَلُ  ٱلظَّٰلِمُونَۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمۡ لِيَوۡمٖ تَشۡخَصُ فِيهِ  ٱلۡأَبۡصَٰرُ * مُهۡطِعِينَ مُقۡنِعِي رُءُوسِهِمۡ لَا يَرۡتَدُّ  إِلَيۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَآء} (سورة إبراهيم: 42-43).

إن المكر الذي يمكرون والكيد الذي يكيدون لن يصل إلى مبتغاه  ولن يتخلف وعد الله فيهم، فصدق وهو أصدق القائلين: {وَقَدۡ مَكَرُواْ  مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ  مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ * فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ  رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ} (سورة إبراهيم: 46-47).

 

من أخبار الجماعة

دشنت جماعة الإخوان المسلمون الجمعة 26 جمادى الآخرة 1446ه، الموافق 27 ديسمبر 2024م  مشروع "رسوخ" الذي يتبنّى التعريف والتأصيل لثوابت الجماعة، ومرتكزات  العمل من خلالها، ومقومات البناء والالتزام والاستمرارية للدعوة.

وقد انطلق المشروع بمؤتمر تعريفي بثه تليفزيون وطن لتستمر فعاليات مرحلة التعريف والإعلان حتى منتصف شهر يناير 2025م، على أن تبدأ بعدها الفعاليات الخاصة بالصف؛ للتأكيد على ثوابت الجماعة وتعميقها لدى الأفراد والقيادة.

 

واللهُ أكبرُ  وللهِ الحمد

 أ. د. محمود حسين

القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "

الثلاثاء 30 جمادى الآخرة 1446 هجرية - الموافق 31 ديسمبر 2024م
 

https://x.com/ikhwanonline/status/1874125949677039995