تعاني العديد من الأسر من ظاهرة كذب الأطفال، ويلجأ بعض الآباء والمهات إلى معالجة هذه الظاهرة معالجة خاطئة إما بالنهر الشديد أو الضرب المبرح، خلافًا للأساليب التربوية والنفسية الصحيحة.

ويشير علماء النفس لأسباب عديدة قد تدفع الأطفال والأبناء للكذب، بل إنهم يرون أن هناك أحيانًا أسبابًا إيجابية للكذب، منها أنّ الكذب قد يعكس النماء الإدراكي السليم لطفلك، ورغبته بأن يختبر ردّة فعلك حيال كذبه وتحايله.

لكن هذا ليس السبب الوحيد للكذب، أحيانًا قد تكون أنتَ السبب في اضطراره للكذب، وأحيانًا يجب أن نُميِّز بين الخيال والكذب.

 

ماذا أفعل حين يقوم طفلي بالكذب؟

أولًا - كُن قدوة وعزّز أهمّية الصدق

يجدر بالآباء معرفة أن الطفل لا يرى الكذب من المنطلق الأخلاقي نفسه الذي يراه الكبار، لأن فهم أهمية الحقيقة يتكوّن تدريجيًا لدى الطفل. تلعب البيئة المحيطة دورًا كبيرًا في تحويل الكذب من عادةٍ سيئة إلى سلوك يَومي اعتيادي. بحسب نظرية التعلّم المُكتسَب، يتعلّم الطفل معظم سلوكياته من خلال ملاحظة ومراقبة الأشخاص الذين يُحيطون به.

ببساطةٍ شديدة: يتدرّب الطفل على الكذب حين يرى والدَيه يكذبان، فحينًا يوصيانه بقول الحقيقة، وحينًا آخر يطلبون منه أن يُجيب طارق الباب بأنّهما خارج المنزل للتهرّب منه، وبهذا يعلّمانه انتفاء ضرر الكذب طالما أنّ أحدا لن يتمكّن من اكتشافه. لذا يحتاج الطفل في البداية للإجابة عن سؤال: لماذا عليه ألَّا يكذب؟ هل لأن الحقيقة مهمة، أم لأن قول الصدق هو الأهم مهما كلف الأمر؟

ليس المطلوب أن يتوقف طفلكَ عن الكذب، بل أن تتعزز لديه مفاهيم الصدق والشجاعة والثقة والقدرة على حل المُشكلات التي يواجهها دون التهرّب منها بالكذب. وهو يكتسب هذه الصفات عبر مراقبة سلوكك ومحاكاة أساليبك في حلّ المشكلات وعاداتك اليومية بالتواصل الاجتماعيّ.

 

ثانيًا - أبقِ الحِوار هادئًا عند اكتشاف الكذبة

ابقَ هادئًا حين تكتشف أنّ ابنك يكذب، لأنّ الصُراخ سيخيفه، كما أن الغضب سيترك آثارًا يترتّب عليها عواقب أكثر تعقيدًا. حين تهدأ الحادثة، حاوره ووضِّح عقبات الكذبة والمساوئ المترتّبة عليها والتي قد تؤثر في مشاعر النّاس الذين يهتمّون لأمره، الأمر الذي سيساعده على تطوير ذكائه العاطفي وقدرته على رؤية الموقف من زوايا مختلفة.

من المهم كذلك ألا تنعته بالكذَّاب، واطلب منه أن يُخبركَ الحقيقة بهدوء، لأنّك حين تنعته بالكذّاب مِرارًا وتِكرارًا، سيُصدّق ذلك، وسيرى نفسه أسيرًا لهذه العادة، وسيستمرّ في الكذب وسيَصعب تقويم سلوكه فيما بعد. وما يحدث في كثير من الأحيان، أنّ الطفل يبرع في التصرّفات السيئة حين يقتنع أنّه ما من تصرفٍ سيُرضي والدَيه، وأنّه ما من طريقة ممكنة ليَحظى بحُبِّهم، لأنّهم يواصلون نعته بالذنب الذي اقترفه مرارًا وتكرارًا.

 

ثالثًا - حدّد مَنبع الكذبة

اطرح عليه أسئلةً تُساعدك في فهم دوافع الكذب من وجهة نظره؛ لماذا يُؤكّد لكَ أنّه قد غسل أسنانه بالرغم من أنّه لم يَفعل ذلك؟ حاول العثور على ما دفعه لإخفاء الحقيقة، هل هو خائفٌ منك أم أنّه لا يحب غسل أسنانه لأنّه لا يستسيغ طعم المعجون مثلًا؟ أم أنّ كلّ ما يُريده هو أن يلفت انتباهك ولا يجد طريقة تدفعك للحديث معه إلّا من خلال هذا السلوك.

تلعب التجارب السابقة أيضًا دورًا مُهمًّا في تحديد السلوك الحالي، هل يكذب الطفل بسبب خوفه من ردّ فعلك نتيجةً لتجربةٍ ما سابقة، أيّ حين وبّخته على الإفراط في هدر الماء بطريقة عنيفة؟

 

رابعًا - لا تنصب له فخًا

يقع كثير من الآباء في خطأ تربوي شائع، عند محاولة جرّ الطفل للاعتراف بكذبته، واستدراجه لفضحه أو جعله في مَوقف مُحرِج أمام نفسه. إذ لا يعدّ اجترار الطفل الوسيلة المُثلى لمواجهة الكذب، بل من الأفضل أن تقول له قبل سؤالك "عِدني بأنّك ستقول الحقيقة"، حيثُ يزيد قطع هذا الوعد من مَيل الطفل إلى الصدق. لكن لا تُرغمه على قول الحقيقة، إذ سيزيد هذا من خوفه وقلقه.

إن التصرّف الأمثل حين يرفض الطفل الاعتراف بخطئه أو عند امتناعه عن قول الحقيقة هو ببساطة إخباره أنك متأكد أن ما يفعله خاطئ، وطمئنه أنّ الأمر بسيط وأنّه بإمكانكما حلّ المشكلة معًا، لكنّ الضغط والتحقيق والصراخ سيعقّد المسألة وسيزيد من إصرار الطفل على إخفاء الحقائق، وسيُعزّز من كذبه عند وقوعه بمَآزق أخرى في المُستقبَل.

 

خامسًا - لا تُبالغ في العقاب

التهذيب لا ينتج عن العقاب كما هو شائع، بل تُشير الدراسات إلى أنّ نشأة الطفل في بيئةٍ تستخدم العقاب كوسيلةٍ للإصلاح، لا تُحقق هدفها في معظم الأحيان. إذ أنّ الاستخدام المُتواصل للعقاب كأسلوب للتربية داخل الأُسرة، يقود إلى التمرّد والغضب والنفور عند بلوغ الابن لمرحلة يشعر فيها باستقلاليته، أو حين تنقلب موازين السُلطة في العائلة وحين يجدُ الابنُ نفسَه قادرًا على التحدّي والرفض. لذلك يكون استيعاب الابن، والحوار الهادئ، أحد الطرائق المُثلى لاحتواء الكذب وتقليله.

 

سادسًا – شجّعه على قول الحقيقة

امتدحه كلما أجابكَ بصدقٍ حتى وإن كانت الإجابة مُزعجة، بل أظهر له احترامَك لشجاعته، وقُم بتعزيز هذا السلوك بمكافآتٍ رمزية، مثل أن الخروج سويّةً لتناول وجبةٍ لذيذة بينما تظهر له امتنانك للثقة المتبادلة بينكما بالرغم من المشكلات والمآزق والأخطاء التي يرتكبها. كذلك قُصَّ عليه حكايا تبين إيجابيات الصدق، وليس العكس، فالقصص التي تُظهر سلبيات الكذب وعواقبه الوخيمة تُشجّع الطفل على تطوير مهارته في صياغة قصّته الكاذبة بشكل أكثر مهارة في كلّ مرّة، لذلك تعوّد أن تشجّع على الصدق وتمتدحه، أكثر ممّا تنتقد الكذب وتهاجمه.

 

سابعًا: ضع خطًا فاصلًا بين الحقيقيّ والمتخيل

الخيال هو عالَم الطفل الخصب للتسلية والاستمتاع، وهو جزء مهم في نمو إبداع الطفل وقدراته الإدراكية، ودوركَ كمسئول عن رعايته، يقع في شحذ مُخيّلته وتشجيعه على الانطلاق بعقله، لكن دوركَ أيضًا هو توضيح الفرق بين الحقيقي والخيال، ينطبق ذلك أيضًا على قصص ما قبل النوم أو في الدروس المدرسية، تحديدًا للأطفال ما قبل الرابعة. على سبيل المثال، إن قصَّ عليك طفلكَ أنّه قد تمكّن من دخول شاشة التلفاز ومُقابلة المُذيع، أخبره أن خياله خصب، وأن قصته رائعة وعليه أن يكتبها في كتاب لتُشجعه، وفي نفس الوقت أعِدْه إلى أرض الواقع عبر أخذه في زيارة إلى محطّة التلفاز –إن كان هذا مُمكنًا- ليرى عالَمها الحقيقي، وليُدرِك أنّ التلفاز مُجرّد وسيط ناقل للصوت والصورة.

يُشير الكذب في حالاتٍ نادرة إلى علّةٍ نفسية جوهرية، لكنّ الكذب المَرَضي يُصاحبه عادةً أعراضٌ أخرى؛  فإذا كان الطفل يكذب على الدوام في جميع ما يُسأل عنه وفي كلّ تفاصيل حياته ويلجأ للكذب بطريقة غير مُبرّرة حتّى في أبسط المواقف، ويتحوّل الكذب إلى نهج يَومي عبر تزييف الحقائق وليس تهرّبًا من عقوبة أو تحقيقًا لغاية، فسيكون من الجدير بك استشارة مختصٍّ نفسيّ لكيّ يُقيِّم الحالة. عدا ذلك، تذكّر أنّ الكذب هو وسيلة الطفل الأولى لمُجاراة الحياة الاجتماعية، ويُمكن ضبط عادة الكذب عن طريق خوض نقاشات ناضجة وهادئة عن أهمية قول الحقيقة والمصارحة ومنحه الثقة للإفصاح عن مشاعره وأفكاره دائمًا دون أن يخشى عقابًا أو حرمانًا، وهو ما سوف يساعد الطفل على عدم اعتياد قول الأكاذيب حين يكبر، وسيمكّنه الصدق والإفصاح الناضج من تطوير مهاراتٍ اجتماعية إيجابية.