بعد مرور أكثر من عقد على بداية الربيع العربي وعام على معركة طوفان الأقصى، لا تزال المنطقة العربية تعيش تداعيات تلك الثورات التي وعدت بتغيير الأنظمة السياسية والاجتماعية، لكنها في معظم الحالات تعثرت لأسباب عديدة ليس مقامها هنا الآن.
وكان من تجليات التعثر حالة الصمت الواضح ضد ما يحدث لأهلنا في غزة، نعم هناك جهود مقدرة تبذل ولكنها كانت دون مستوى المعركة، وهو ما فتح شهية الاحتلال للعربدة في عدة دول عربية دون رادع أو خوف، فالعديد من الأنظمة الاستبدادية استعادت قوتها، والشعوب أُعيدت إلى حالة من الإحباط.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الاستراتيجيات التي يمكن أن تساعد الشعوب على استعادة دورها الفعّال في مواجهة تلك الأنظمة؟
في هذا المقال نطرح بعض الأفكار في هذه المجال، وهي استكمال للسلسلة التي بدأناها بمقال "في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى.. لماذا تقاعسنا وكيف ننصرهم؟"، ثم تتالت المقالات بعد ذلك وهذا رابعهم.
1- استغلال وسائل الإعلام الجديد والرقمنة
لا يكفي أن توجَه الدعوات للتظاهر السلمي أو لأي أنشطة عبر منصات التواصل، ولكن لا بد من وجود خطة واضحة وتوحيد وتركيز للجهود ووجود لخبراء متخصصين في هذا المجال الذي يتطور بسرعة هائلة مع دخول الذكاء الصناعي وقواعد البيانات الكبيرة في الموضوع، فضلا عن الهندسة المجتمعية والاجتماعية ونحو ذلك من العلوم.
نعم توجد وسائل إعلامية لديها خبرات متزايدة في هذا المجال وهو أمر جيد، لكنها تُنشر بهدف الوصول للجمهور وليس الهدف "الحشد والتعبئة".
عندما يكون الحشد والتعبئة هو الهدف المقصود تختلف السياسات جذريا في هذه الحالة؛ لأنه حينها سيكون الإطار الضابط لكل الجهود على منصات التواصل الاجتماعي، وللتدليل على أهمية منصات التواصل في تشكيل الوعي والحشد والتعبئة تكاد غالبية الشعوب العربية تعلم جيدا قصة "الذباب الإلكتروني"، والذي هو عبارة عن جيوش من الموظفين الحكوميين المتفرغين في دول الخليج كالسعودية والإمارات ومصر وربما دول أخرى؛ لتوجيه الرأي العام أو إثارة البلبلة أو تحويل اهتمام الناس بعيدا عن قضية مركزية إلى قضية هامشية تافهة.
لذلك يجب أن نعي أن كثيرا من دعوات التظاهر أو التضامن لم تنجح بسبب غياب الاستراتيجيات الفاعلة في هذا المجال، فضلا عن توحيد وتنسيق الجهود بين كافة الجهات الفاعلة.
أيضا للتدليل على أهمية هذا الجانب، نذكر بأنه خلال "الربيع العربي" كانت وسائل التواصل الاجتماعي عاملا محوريا في تحفيز الجماهير وتوحيد صفوفها واستدعائها إلى الواجهة والنزول والاعتصام في الشوارع، ومواقع مثل تويتر وفيسبوك ساعدت الناشطين على تنظيم الاحتجاجات وجذب انتباه العالم إلى قضاياهم، والثورة المصرية (25 يناير) كانت المثال الأبرز على ذلك، حيث انطلقت من دعوات على منصات التواصل.
رغم أن الأنظمة استجابت بزيادة الرقابة الإلكترونية وحجب المواقع، إلا أن هناك فرصا جديدة لاستغلال وسائل الإعلام الرقمي من خلال استخدام أدوات مثل الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN) لتجنب الرقابة، إلى جانب بناء منصات إعلامية مستقلة، واستخدام الذكاء الاصطناعي كما أسلفنا والكثير من التقنيات والاستراتيجيات التي يعلمها أهل هذا المجال.
2- التحالفات الشعبية العابرة للحدود
"الربيع العربي" أظهر أن التحركات الجماهيرية في دولة واحدة يمكن أن تؤثر في دول أخرى؛ ولكن من المهم تحويل هذه الموجات المتتالية إلى تحالفات منظمة، فلا يمكن لأي حركة شعبية مواجهة الأنظمة القمعية بمعزل عن محيطها الإقليمي أو الدولي.
"الربيع العربي" أظهر أن التحركات الجماهيرية في دولة واحدة يمكن أن تؤثر في دول أخرى؛ ولكن من المهم تحويل هذه الموجات المتتالية إلى تحالفات منظمة وهو ما أسميته في مقال سابق بأقلمة الثورة أو تثوير الإقليم.
لذلك من المهم بناء تحالفات عابرة للحدود بين الناشطين لتبادل الأفكار والخبرات في آليات واستراتيجيات النضال السلمي الضاغط، خاصة في ظل توفر وسائل التواصل الاجتماعي التي تسهل أي عملية.
ويمكن استلهام الكثير من الدروس من التاريخ الحديث، فحركة مناهضة الفاشية في أوروبا تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الأولى وامتدت عبر عدة قارات لمواجهة صعود الأنظمة الفاشية وضمت الحركة: منظمات عمالية وأحزاب اشتراكية وشيوعية وفوضوية وقوى ليبرالية وديمقراطية، ونسقت بشكل كبير فيما بينها لتحقيق أهدافها، كذلك تجربة مناهضة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والتحالفات العالمية الشعبية التي تشكلت لتحقيق ذلك.
هذه النماذج وغيرها قد تُستلهم في المنطقة العربية من خلال تشكيل تحالفات تنسيقية بين الحركات الشعبية والسياسية من أجل مواجهة الأنظمة الاستبدادية التي تعيق نصرة غزة، بل تساهم في الإبادة، وخلق صوت موحد من المحيط للخليج داعم للقضية وللتحرر الوطني.
3- استدامة الحركة من خلال الاقتصاد الذاتي
أحد العوامل الرئيسية في إضعاف الحركات الشعبية هو اعتمادها على التمويل الخارجي، مما يجعلها عرضة للضغوط السياسية، وفي هذا السياق، تظهر أهمية الاقتصاد الذاتي كوسيلة لتحقيق استقلالية الحركات.
الحركات الشعبية التي تعتمد على مواردها الذاتية تكون أقل عرضة للتأثر بالعوامل الخارجية، سواء كانت تلك الموارد مالية أو بشرية، ولتخفيض تكاليف العمل، يبرز التنسيق وتوحيد الجهود وتوزيع الأدوار كاستراتيجية فاعلة وناجعة لتخفيف الضغوط والاستغلال الأمثل للموارد المالية والبشرية، ويبرز الوقف الإسلامي بثقافته وتاريخه كحل مثالي لمن يحسن فهمه.
كما أن الاقتصاد الذاتي يعتمد كذلك على فكرة المقاطعة الإيجابية والتي لا تكتفي بمقاطعة البضائع الصهيونية، ولكنها توفر بديلا محليا وتشجعه وربما تروج له مقابل جزء من الأرباح يعود لصالح مشاريع دعم القضية.
ومن الأمثلة التاريخية الناجحة على ذلك، تجربة الحركات المناهضة للاستعمار في الهند بقيادة المهاتما غاندي. غاندي شجع على مبدأ "السوادشي" أو الاعتماد على المنتجات المحلية لمقاومة الهيمنة البريطانية الاقتصادية، وهذا ساعد في تمويل الحركات الشعبية والاستمرار في مواجهة الاستعمار.
4- التعليم السياسي ومعركة الوعي
التعليم السياسي المنهجي هو أحد العوامل الأساسية التي تحتاجها الشعوب لاستعادة قوتها في مواجهة الأنظمة.
هناك جهود معتبرة في هذا المجال نظرا لتوفر عناصره وأدواته، ولكنه يظل عشوائيا بين العاملين فيه، لا توجد خطط مثلا بين أهم قنوات البرودكاست على يوتيوب للتركيز على قضايا بعينها من زوايا مختلفة وبقوالب بصرية مختلفة، ولا توجد روابط تنسيقية للمؤثرين على منصات التواصل للعمل وفق أولويات محددة في معركة الوعي عموما وبناء الوعي السياسي خصوصا.
الوعي الصحيح ليس فقط مفتاحا لفهم الشعوب لحقوقها، بل هو أيضا وسيلة لتنظيم حركات أكثر فعالية.
خلال "الربيع العربي"، كانت هناك فجوة كبيرة بين القاعدة الشعبية والقيادات السياسية المعارضة ولا تزال، حيث لم تكن غالبية الشعوب على دراية كافية بالآليات السياسية اللازمة لتحقيق مطالبهم ولا قيادات المعارضة قادرة على التواصل الفاعل البنّاء مع شعوبهم.
تُعد تجربة جنوب أفريقيا في مكافحة نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) مثالا على أهمية التعليم السياسي؛ فنيلسون مانديلا كان من الذين عززوا الوعي الشعبي حول أهمية النضال السلمي والمقاطعة الاقتصادية لتحقيق التغيير، من خلال التعليم السياسي المكثف، استطاعوا توحيد المجتمع وتحقيق انتصار ضد النظام العنصري.
5- دور الجاليات العربية والإسلامية والضغوط الدولية
الجاليات العربية والإسلامية تشكل قوة كبيرة في الخارج، خاصة مع تزايد أعداد العرب المهاجرين والمغتربين بعد الثورات والحروب.
هؤلاء المهاجرون والمغتربون يمكن أن يلعبوا دورا محوريا في دعم القضايا الوطنية لبلدانهم من خلال تشكيل جماعات ضغط (لوبي) في الدول التي يقيمون فيها.
التاريخ يظهر أن الحركات الاحتجاجية السلمية، رغم أنها قد تبدو أبطأ في تحقيق التغيير، تكون أكثر استدامة على المدى الطويل
دعني أخبرك بمعلومة صادمة نشرتها جامعة إنديانا الأمريكية عن حجم أموال الزكاة التي أخرجها المسلمون في الولايات المتحدة في عام 2021 وفقا للجامعة، فقد بلغت 1.8 مليار دولار في عام واحد!!
على الجانب الآخر ميزانية اللوبي الصهيوني الرسمية نحو 50 مليون دولار أمريكي، ومصاريف الدورة الانتخابية لعام 2021-2022، أنفقت AIPAC ما يقارب 30 مليون دولار على الحملات الانتخابية عبر صندوق العمل السياسي التابع لها، والمصاريف من مصادر غير مباشرة لا تتجاوز في معظم السنوات حاجز المئة مليون دولار!!
أي أن حجم أموال الزكاة للمسلمين في أمريكا المنفقة سنويا تكفي لبناء لوبي قوته المالية تعادل قوة اللوبي الصهيوني عشرين ضعفا!!
ولنا أن نتخيل حجم التقصير الحاصل من قبلنا في هذا الجانب وكم الدماء التي كان يمكن حقنها، ولو تم استغلال هذه الموارد بالشكل الأمثل في دعم قضايانا داخل المؤسسات الأمريكية وكله وفقا للقانون.
كما يجب الاستفادة من تجربة الشتات الفلسطيني والتي تعد نموذجا ناجحا لاستغلال القوة الناعمة في الخارج.
الفلسطينيون المقيمون في أوروبا وأمريكا الشمالية ساهموا في تشكيل جماعات ضغط سياسية وثقافية لدعم القضية الفلسطينية على المستوى الدولي.
لذلك، يمكن استخدام نفس الاستراتيجية من قبل شعوب المنطقة العربية الأخرى لبناء دعم دولي لقضاياهم الوطنية والضغط على الأنظمة الاستبدادية.
6- الثورات القائمة على اللاعنف
التاريخ يظهر أن الحركات الاحتجاجية السلمية، رغم أنها قد تبدو أبطأ في تحقيق التغيير، تكون أكثر استدامة على المدى الطويل؛ الثورة التونسية والمصرية ونموذج الهند بقيادة غاندي، ونموذج جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا.. تثبت أن المقاومة السلمية يمكن أن تكون فعّالة جدا في مواجهة الأنظمة القمعية.
اللاعنف يمنح الحركات الشعبية الشرعية الدولية، ويجذب الدعم من المجتمع الدولي، خصوصا مع الاختلال الكبير والهائل في موازين القوى بين الأنظمة والشعوب.
في مقال سابق من هذه السلسلة تكلمت بالتفصيل عن حرب اللاعنف وأهميتها في المرحلة الحالية والقادمة، وأرجو ألا تدفعنا إحباطات مآلات ثورات الربيع العربي الحالية إلى اليأس، فتاريخ الثورات ممتلئ عن آخره بموجات متعددة من الارتفاع والهبوط بفواصل زمنية سنوات وأحيانا عشرات السنوات، حتى تستقر الأوضاع ويتحقق التخلص الكامل من النظام القديم وتستقر الأمور للنظام الجديد المنشود، وأحسب أن طوفان الأقصى كان بمثابة المسرّع لهذه النقلة المنتظرة لشعوبنا، فالوقت أحسبه يقاس حاليا بالشهور وليس السنين الطوال.
7- الديناميات الدولية ودورها في التغيير
لا يمكن إغفال دور الديناميات الدولية في دعم أو إعاقة الحركات الشعبية.
الأنظمة القمعية في العالم العربي تحصل على دعم من قوى دولية -مصر نموذجا- سواء من خلال المساعدات العسكرية أو الاقتصادية، لذلك يجب على الحركات الشعبية أن تكون واعية بأهمية كسب الدعم الدولي أو على الأقل تحييد تأثير القوى الداعمة للأنظمة.
نموذج الثورة الإيرانية في 1979 يظهر كيف يمكن أن تتغير موازين القوى العالمية عندما تضعف علاقات الأنظمة مع حلفائها الدوليين.
عند فقدان الشاه دعم الغرب، أصبح النظام الإيراني عرضة للسقوط.
تحتاج الشعوب العربية اليوم إلى فهم أعمق للعلاقات الدولية وكيف يمكن استغلالها لتحقيق مطالبهم.
إعادة إحياء الحركات الشعبية في العالم العربي لنصرة فلسطين والتخلص من الأنظمة الاستبدادية يتطلب استراتيجيات جديدة ومتكاملة وفق خطة واضحة ونخبة ممتازة قادرة على قيادة التغيير والشعوب.
وأنوّه في النهاية أن فهم الإطار العام الجامع للفكرة لا يمكن أن يكون مكتملا أو ناضجا إلا بقراءة السلسلة كاملة وما تلاها من مقالات كما أوضحنا في بداية المقال، وهي محاولة متواضعة لتفكيك التساؤل الأهم لدى الجميع، ما العمل لنصرة غزة وفلسطين؟ فهل نكون على مستوى المسؤولية؟
* للنقاش حول المقال:
x.com/Mamdouh_Almonir
t.me/Mamdouh_Almoner
facebook.com/@Mamdouh.Almonir