شهدت الأيام الماضية تصاعد الجدل حول مؤسسة "بهية لعلاج سرطان السيدات"، التي كانت تُعد من أبرز رموز العمل الخيري في مصر، بعد تداول تقارير وشهادات وشبهات قوية تتعلق بفساد مالي وإداري داخل إدارة المستشفى، وتتركز الاتهامات حول وجود شركات وهمية، مناقصات بالأمر المباشر، وتبرعات ضخمة يُزعم أنها تم توجيهها لغير أغراضها المعلنة، وسط اتهامات صريحة لطرفين بارزين: د. جيلان البسطويسي ود. أحمد البسطويسي.

 

بنك مصر والتبرعات "الموجهة"

في نوفمبر 2023، أعلن بنك مصر عن تبرع قدره 50 مليون جنيه لصالح مستشفى بهية، ضمن حملة ترويجية تبنتها الإدارة العليا للبنك كجزء من مسؤوليته المجتمعية، إلا أن تقارير لاحقة نشرتها جهات رقابية مستقلة، وأكدتها تسريبات حصلت عليها جهات إعلامية، كشفت أن جزءاً كبيراً من هذه الأموال يُقدر بحوالي 70% منها لم يُستخدم فعلياً في عمليات تطوير أو شراء معدات طبية كما أُعلن، بل تم توجيهها عبر عقود "صيانة وهمية" لشركات لا وجود لها على أرض الواقع.

واحدة من هذه الشركات، حسب ما ورد في تقرير لجنة رقابية داخل وزارة التضامن في مارس 2024، تُدعى "أفق الرعاية الطبية"، ومسجلة باسم قريب مباشر لأحد أعضاء مجلس الإدارة بالمستشفى. المثير للريبة أن هذه الشركة تم تأسيسها قبل التعاقد بشهرين فقط، دون سجل فعلي للأنشطة.

 

أدوار مشبوهة في الإدارة.. البسطويسيون تحت المجهر

برزت الدكتورة جيلان البسطويسي، العضو السابق في مجلس أمناء المؤسسة، كأحد الأسماء المتداولة في ملفات التحقيق، لكونها من بين من صدّقوا على صرف دفعات مالية ضخمة لشركات بدون تدقيق كافٍ، وقد أظهر تحقيق داخلي أجرته جهة محاسبية مستقلة أن توقيعها على أكثر من 14 أمر صرف مباشر تم دون مناقصة أو إعلان مسبق، بالمخالفة للقانون 182 لسنة 2018 الخاص بتنظيم التعاقدات الحكومية.

من جهته، فإن الدكتور أحمد البسطويسي، الذي شغل منصب استشاري التخطيط الطبي بالمستشفى، متهمٌ بتضخيم موازنات شراء الأجهزة الطبية، حيث تم إدراج أجهزة علاج إشعاعي بأسعار تفوق السوق بنسبة 220%، وتبين أن المورد الوحيد كان شركة أنشئت حديثاً في أكتوبر 2022، ويرأسها نسيب له من الدرجة الثانية.

 

شركات وهمية ومناقصات مغلقة

وفقاً لتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات في يناير 2025، فقد تم رصد ما لا يقل عن 11 عقداً بالأمر المباشر أُبرمت خلال عامين، دون توافر أي وثائق توضح معايير التعاقد، أو حتى تقديم أكثر من عرض سعر كما ينص القانون.

الأمر الذي دعا النائب البرلماني المستقل هشام السعيد إلى التقدم بطلب إحاطة في مجلس النواب في فبراير 2025، مطالباً بإجراء تحقيق موسع في آليات إنفاق أموال التبرعات بمستشفى بهية.

وأشار السعيد في كلمته إلى أن "العمل الخيري لا يجب أن يكون غطاءً لممارسات مالية مريبة، خصوصاً في مؤسسات تحظى بتعاطف مجتمعي واسع وتُدعم من الدولة".

 

الرأي الاقتصادي.. نزيف الثقة وضياع الشفافية

يرى الخبير الاقتصادي د. مصطفى كمال، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن "قضية مستشفى بهية تمثل كارثة أخلاقية قبل أن تكون مالية"، مضيفاً أن "الفساد في المؤسسات الخيرية يُفقد المجتمع ثقته في آليات التضامن المدني، ويُسهم في تقلص معدلات التبرع".

وأضاف كمال أن تحويل المؤسسات الخيرية إلى أدوات لجني الأرباح أو تمرير المناقصات، خاصة بالأمر المباشر، يُظهر ثغرات قانونية وتنفيذية كبيرة، أبرزها غياب الرقابة المسبقة، واعتماد الجهات الرقابية على بلاغات ما بعد الكارثة.

 

رد المستشفى الرسمي

في بيان مقتضب أصدره مجلس أمناء مستشفى بهية في 19 يونيو 2025، تم نفي "وجود فساد ممنهج"، مؤكداً أن "كل العقود تمت وفق الأطر القانونية وبشفافية"، مشيرًا إلى أن الهجوم الإعلامي الممنهج تقوده جهات وصفها بأنها "مغرضة"، دون تسميتها، إلا أن البيان ذاته لم يوضح تفاصيل التعاقدات محل الاتهام، ولم يردّ على ما نُشر من وثائق وأرقام.

ونفى الدكتور محمد عمارة، الرئيس التنفيذي لمستشفيات بهية، هذه الاتهامات، مؤكدًا أن المستشفى تخضع لرقابة مالية صارمة من الجهات الحكومية، وأن جميع التبرعات يتم إنفاقها بشفافية لصالح المرضى.

إلا أن هذه التصريحات لم تهدئ الشارع، خاصة بعد ظهور مطالبات بفتح تحقيقات موسعة حول شبهات الفساد داخل المستشفى، وتخصيص لجنة مستقلة لمراجعة كافة التعاملات المالية والإدارية.

وطالبت منظمات حقوقية، أبرزها "شركاء من أجل الشفافية"، في بيان صادر مطلع يوليو 2025 بفتح تحقيق قضائي عاجل، وتجميد أي تبرعات حكومية أو مصرفية لمستشفى بهية حتى انتهاء التحقيقات، كما دعت إلى نشر تقارير مراجعة سنوية للمؤسسات الخيرية الكبرى على مواقعها الرسمية، تحقيقاً لمبدأ الشفافية.

وأخيراً.. تتجاوز قضية مستشفى بهية حدود المؤسسة ذاتها، لتسلط الضوء على أزمة شاملة في الرقابة والشفافية بالقطاع الخيري المصري، حيث الثقة المجتمعية أصبحت في مهب الريح، والتبرعات الموجهة لإنقاذ الأرواح باتت عرضة للتلاعب.