في السنوات الأخيرة، شهدت مصر أزمة اقتصادية حادة تتجلى في ارتفاع معدلات التضخم، انخفاض قيمة العملة المحلية، وزيادة الديون الخارجية بشكل غير مسبوق.
ومع تفاقم هذه الأزمات، تبدو الحكومة المصرية غير قادرة على تقديم حلول فعالة لتحسين الوضع، بل تسعى في الوقت نفسه إلى تهميش الكوادر الاقتصادية والخبراء الذين يقدمون رؤى بديلة أو ينتقدون السياسات الحكومية. في ظل هذا الوضع، لم تعد مصر مجرد دولة تعاني من فشل اقتصادي، بل أصبحت أيضاً دولة تُحارب عقولها الاقتصادية من خلال اعتقالهم، التضييق عليهم، ودفعهم إلى الهجرة القسرية.


حملة ضد الخبراء الاقتصاديين
     في هذا السياق، يبرز اعتقال الخبير الاقتصادي المصري الدكتور عبد الخالق فاروق كدليل واضح على تعامل النظام مع الكوادر الاقتصادية التي تتحدث بصراحة عن الأزمات التي تمر بها البلاد.
الدكتور عبد الخالق فاروق، الذي يُعد من أبرز المحللين والباحثين في المجال الاقتصادي، اعتُقل مؤخراً على خلفية انتقاداته للسياسات الاقتصادية الحكومية.
فاروق سبق أن نشر العديد من الدراسات والمقالات التي تكشف عن أوجه القصور في الإدارة الاقتصادية المصرية، وكان آخرها تحذيراته من تداعيات ارتفاع الديون الخارجية على الاقتصاد الوطني.
فاروق ليس حالة فردية، فخلال السنوات الماضية، شهدت مصر اعتقال أو ملاحقة العديد من الاقتصاديين والخبراء الذين عبروا عن آرائهم المناهضة للسياسات الاقتصادية الحكومية. هؤلاء الخبراء غالباً ما يتعرضون للضغط والتهديد، سواء من خلال الملاحقات القانونية أو من خلال التضييق الإعلامي، ما يدفع بعضهم إلى اختيار الهجرة أو الصمت خوفاً على حياتهم.


أمثلة على تهميش الكوادر الاقتصادية
إلى جانب عبد الخالق فاروق، يمكن ذكر العديد من الشخصيات الاقتصادية البارزة التي تعرضت لمضايقات أو اضطرت إلى مغادرة البلاد بسبب مواقفها الناقدة؛ على سبيل المثال:
عمر الشنيطي: أحد رجال الأعمال والمحللين الاقتصاديين المصريين المعروفين، اعتُقل لفترة وجيزة في عام 2019 بعد أن أعرب عن انتقاده لبعض السياسات الاقتصادية للحكومة.
                      الشنيطي، الذي كان يدير صندوق استثمار ناجحاً في مصر، اضطر إلى تقليص نشاطه الاقتصادي داخل البلاد بعد الإفراج عنه.
أيمن هدهود: وهو مستشار اقتصادي بارز ومستشار لبعض الشخصيات السياسية، اعتُقل في ظروف غامضة، وتوفي لاحقاً في أحد مراكز الاحتجاز.
                     ورغم مزاعم السلطات بأنه توفي لأسباب صحية، فإن عائلته أكدت تعرضه للتعذيب والإهمال الطبي، ما يسلط الضوء على مدى المخاطر التي يواجهها الخبراء الاقتصاديون في مصر.
عائشة الشاطر: ابنة خيرت الشاطر، القيادي في جماعة الإخوان المسلمين ورجل الأعمال البارز، تعرضت للاعتقال أيضاً بسبب نشاطاتها الاقتصادية والاجتماعية.
                       ورغم أن حالتها مرتبطة بشكل أساسي بالسياسة، إلا أن توقيفها يعكس تأثير السياسات الاقتصادية والأمنية على المجتمع الاقتصادي في مصر.


التهجير الاقتصادي: هروب العقول
مع تزايد الضغوط على الخبراء والمحللين الاقتصاديين في مصر، يلجأ الكثيرون إلى الهجرة بحثاً عن بيئة أكثر أماناً تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم بحرية أو استكمال أبحاثهم بعيداً عن التهديدات الحكومية.
هذا الهروب الجماعي للكفاءات الاقتصادية يشكل تهديداً مباشراً لمستقبل الاقتصاد المصري، حيث تفتقر البلاد إلى الخبرات والتوجيهات الضرورية للخروج من أزمتها الاقتصادية الحالية.
تشير الإحصائيات إلى أن العديد من الاقتصاديين المصريين المتميزين الذين قدموا إسهامات هامة في مجالاتهم، فضلوا الانتقال إلى دول أجنبية حيث يمكنهم العمل بحرية ودون قيود.
هذه الهجرة الاقتصادية تعد واحدة من أبرز الأزمات التي تواجه مصر اليوم، حيث تُحرم البلاد من العقول التي يمكن أن تساعدها في تجاوز أزماتها.
 

الاقتصاد بين الفشل والتهميش
لا يمكن فصل القمع الذي يتعرض له الخبراء الاقتصاديون عن الفشل الاقتصادي الذي تمر به مصر، فالسياسات الحكومية التي تعتمد بشكل كبير على القروض الخارجية والإعانات الأجنبية أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية، كما زادت من الأعباء على المواطنين.
في المقابل، يتم تجاهل أو قمع أي محاولات جادة لتقديم حلول بديلة أو الانتقاد البناء.
وبدلاً من السعي إلى تحسين الوضع الاقتصادي عبر الاستماع إلى الخبراء والاستفادة من رؤاهم، يبدو أن حكومة الانقلاب تتبنى سياسة قمعية تهدف إلى إسكات الأصوات الناقدة بأي ثمن.
هذا النهج يزيد من تعميق الأزمة، حيث يفتقر النظام إلى الخبرات اللازمة لإدارة الأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
 

تداعيات هذه السياسات على المستقبل
مع استمرار ملاحقة الكوادر الاقتصادية وتهميش دورهم، يبدو أن مستقبل الاقتصاد المصري يزداد قتامة. فالخبراء الذين يمكنهم تقديم رؤى جديدة أو حلول مبتكرة إما يُسجنون أو يُدفعون إلى الهجرة، ما يترك البلاد دون الكفاءات الضرورية لمواجهة التحديات الاقتصادية المتزايدة.

إضافة إلى ذلك، فإن هذا القمع يخلق بيئة من الخوف والانغلاق على الذات، حيث يتجنب الكثيرون التعبير عن آرائهم خوفاً من الملاحقة، هذا يؤدي إلى ضعف في النقاش العام حول القضايا الاقتصادية الهامة، ويحد من فرص إيجاد حلول فعالة للأزمات.

ختامًا؛ مصر ليست فقط في مواجهة فشل اقتصادي غير مسبوق، بل هي أيضاً في معركة ضد عقولها الاقتصادية.
مع استمرار اعتقال الخبراء مثل عبد الخالق فاروق وتهميش العديد من الكفاءات الأخرى، يبدو أن الحكومة تفضل الحفاظ على سياساتها الاقتصادية الفاشلة بدلاً من فتح باب الحوار والاستفادة من آراء الخبراء. هذه السياسة القمعية لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد، وتدفع المزيد من الكوادر الاقتصادية إلى الهجرة أو الصمت القسري.