أعلن البنك المركزي المصري يوم الثلاثاء أن العجز في ميزان المعاملات الجارية لمصر ارتفع بشكل كبير ليصل إلى 20.8 مليار دولار في العام المالي 2023-2024، مقارنة بنحو 4.7 مليارات دولار في العام المالي السابق.

هذا التوسع الكبير في العجز يمثل تحدياً رئيسياً للاقتصاد المصري، الذي يواجه ضغوطات متعددة من ارتفاع أسعار الواردات إلى انخفاض إيرادات قناة السويس، ما يعكس التوترات الإقليمية وتأثيرها على مصادر الدخل القومي الرئيسية.

أسباب العجز: تراجع التجارة وإيرادات قناة السويس
وفقًا لبيانات البنك المركزي، يُعزى هذا العجز أساساً إلى زيادة العجز في الميزان التجاري، حيث ارتفعت الواردات بشكل ملحوظ بينما تراجعت الصادرات، لا سيما الصادرات البترولية.

وأفاد البنك أن إيرادات قناة السويس، التي تُعتبر إحدى الركائز الأساسية في الاقتصاد المصري، انخفضت إلى 6.6 مليارات دولار في 2024 مقارنة بـ 8.8 مليارات دولار في العام المالي السابق.

هذا الانخفاض الحاد في الإيرادات تمحور في النصف الثاني من العام المالي، حيث هبطت إيرادات القناة بنسبة 61.7% لتصل إلى 1.8 مليار دولار فقط. ووفقًا للبنك، فإن "التوترات في حركة الملاحة بالبحر الأحمر" كانت العامل الرئيسي وراء هذا التراجع، حيث تسببت هجمات الحوثيين في منطقة البحر الأحمر بتغيير مسار العديد من السفن التجارية، مما قلل من حركة المرور عبر القناة.

تداعيات إقليمية على الاقتصاد المصري
بالإضافة إلى التوترات في البحر الأحمر، تزامن هذا التدهور مع تصاعد التوترات الإقليمية، خاصة مع الدعم الذي تقدمه جماعة الحوثي للفلسطينيين في النزاع القائم مع الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وقد أثر هذا الوضع بشكل سلبي على حركة الملاحة والشحن في البحر الأحمر، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على إيرادات قناة السويس.

الاستثمار الأجنبي والتحديات الاقتصادية
على الرغم من التحديات المتعددة، شهد الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر زيادة ملحوظة خلال العام المالي 2023-2024، حيث بلغ صافي التدفق للداخل 46.1 مليار دولار، مقارنة بـ 10 مليارات دولار في العام السابق.

هذه الزيادة الكبيرة تُعزى بشكل رئيسي إلى بيع مصر لحقوق تطوير منطقة رأس الحكمة على ساحل البحر المتوسط لأبوظبي مقابل 35 مليار دولار في فبراير 2024، بالإضافة إلى توقيع برنامج دعم مالي بقيمة 8 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي في مارس من العام نفسه.

ورغم هذا الارتفاع في الاستثمارات، إلا أن التحديات الاقتصادية الأخرى تظل قائمة. فقد تراجعت تحويلات المصريين العاملين بالخارج إلى 21.9 مليار دولار، بعد أن كانت 22.1 مليار دولار في العام السابق.

كما أن عائدات السياحة، التي تعتبر قطاعاً حيوياً في الاقتصاد المصري، سجلت ارتفاعاً طفيفاً، حيث بلغت 14.4 مليار دولار مقارنة بـ 13.6 مليار دولار في العام السابق، مما يعكس تعافياً طفيفاً في القطاع بعد التأثيرات السلبية للجائحة والأوضاع الإقليمية المضطربة.

التحديات في قطاع الطاقة
شهدت مصر خلال العام المالي 2023-2024 تراجعاً في صادراتها البترولية، بما في ذلك صادرات الغاز الطبيعي. ووفقاً للبيانات الرسمية، فقد انخفضت صادرات الغاز الطبيعي بـ937 مليون دولار لتصل إلى 1.12 مليار دولار. في المقابل، زادت الصادرات غير البترولية بقيمة 811 مليون دولار، حيث بلغت 7.23 مليارات دولار.

من جهة أخرى، شهدت الواردات زيادة ملحوظة، حيث ارتفعت إلى 19.2 مليار دولار في الربع الثاني من العام المالي، مقارنة بـ 16.1 مليار دولار في الفترة نفسها من العام السابق. ويُعزى هذا الارتفاع في الواردات إلى زيادة الواردات غير البترولية، التي ارتفعت بمقدار 2.7 مليار دولار.

التحديات النقدية وتأثيرات خفض العملة
أظهرت بيانات البنك المركزي المصري ارتفاع المعروض النقدي بنسبة 28.691% على أساس سنوي في أغسطس 2024، حيث بلغ المعروض النقدي 10.896 تريليونات جنيه مصري (226.15 مليار دولار)، مقارنة بـ 8.467 تريليونات جنيه في العام السابق. ويُعتبر هذا الارتفاع أحد انعكاسات التضخم المتزايد في البلاد، بالإضافة إلى التحديات المتعلقة بخفض قيمة العملة المحلية في إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

كما أدت عملية خفض العملة إلى إحجام بعض المصريين في الخارج عن إرسال تحويلاتهم المالية إلى مصر، مما أثر سلباً على تحويلات المصريين العاملين بالخارج. ويعد هذا الأمر عاملاً إضافياً في التحديات المالية التي تواجهها البلاد.
ختاما ؛ في ظل هذه التحديات، تروج الحكومة المصرية لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة كحل لتخفيف الأزمات المالية المتفاقمة. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة تُعد محاولة لتغطية الفشل المتواصل في إدارة الاقتصاد الوطني، حيث يتم بيع أصول الدولة الاستراتيجية وتقديم تنازلات للأطراف الأجنبية دون تحقيق عوائد مستدامة للشعب المصري.

كما أن الحكومة تعتمد على الدعم الخارجي والمؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، مما يزيد من التبعية ويعمق الأزمة بدلاً من حلها.

وبينما تلقي الحكومة اللوم على الأوضاع الإقليمية مثل الصراع في اليمن والتوترات في غزة، فإن الحقيقة تكمن في أن فشل السياسات الاقتصادية المحلية وغياب الإصلاحات الجذرية هو السبب الرئيسي وراء تفاقم الأزمات.

إذا استمرت الحكومة في تجاهل هذه التحديات الحقيقية واتباع سياسات البيع والاستدانة دون تحسين أوضاع المصريين، فإن مستقبل الاقتصاد المصري سيكون أكثر اضطراباً ولن يحقق استقراراً مالياً أو نقدياً حقيقياً.