في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر وتزايد الضغوط المالية نتيجة تدهور احتياطيات العملة الصعبة، وارتفاع معدلات التضخم، وتدهور قيمة الجنيه المصري، اضطرت الحكومة المصرية إلى اتخاذ تدابير جذرية للتعامل مع أزمة الديون السيادية. أحد أبرز هذه التدابير كان اللجوء إلى بيع الأصول العامة للدولة في محاولة لتعزيز التدفقات النقدية وتخفيف الضغط على الدين العام. الدين العام في مصر: أرقام وتحديات أعلنت وزارة المالية المصرية في تقريرها الأخير أن الدين العام للبلاد انخفض إلى 12.52 تريليون جنيه (ما يعادل نحو 258.7 مليار دولار) بنهاية الربع الأخير من السنة المالية 2023/2024، بعد أن كان 12.78 تريليون جنيه في الربع الثالث من نفس السنة. يعكس هذا الانخفاض تراجعا بنسبة 2.1%. ويأتي هذا التراجع الطفيف في سياق أزمة ديون خانقة أثرت على جميع القطاعات الاقتصادية، حيث ارتفع الدين المحلي إلى 8.72 تريليون جنيه (180 مليار دولار) في نهاية الربع الأخير، مقابل 8.96 تريليون جنيه في الربع السابق. التعويم وارتفاع الفائدة شهدت مصر في مارس 2023 تحريراً جديداً لسعر الصرف، مما أدى إلى انخفاض قيمة الجنيه بنسبة 40%، حيث تراجع سعر الجنيه من 30.95 إلى 50.3 جنيه مقابل الدولار. هذه الخطوة جاءت في إطار محاولات البنك المركزي لاستعادة الثقة في الاقتصاد وجذب "الأموال الساخنة" عبر رفع الفائدة إلى 27.25%. تهدف هذه السياسات إلى تعزيز الاستثمار في أدوات الدين الحكومية من خلال تقديم عوائد مرتفعة، إلا أن هذا التدخل أدى إلى تضخم كبير، تجاوز 40% في يونيو 2023. صفقة رأس الحكمة والاقتراض الدولي في مارس الماضي، عقدت مصر صفقة ضخمة مع الإمارات لتطوير مدينة رأس الحكمة بقيمة 35 مليار دولار، والتي كانت إحدى الخطوات الهامة في تحسين الوضع المالي، كما تم الإعلان عن زيادة القرض الممنوح من صندوق النقد الدولي لمصر من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات، بالإضافة إلى تمويل بقيمة 1.2 مليار دولار من صندوق الاستدامة، مما يرفع إجمالي القروض الدولية إلى نحو 57 مليار دولار. على الرغم من هذه الجهود، فإن البلاد لا تزال تواجه تحديات كبيرة في سداد الديون. وفقًا لبيانات وزارة المالية، يتوجب على مصر سداد نحو 1.6 تريليون جنيه من القروض المحلية والأجنبية خلال السنة المالية 2024/2025. برنامج بيع الأصول العامة: حل مؤقت؟ تحت ضغوط صندوق النقد الدولي، تسرع الحكومة المصرية في برنامج بيع الأصول العامة، وهو أحد شروط الإفراج عن دفعة رابعة بقيمة 825 مليون دولار من القرض المتفق عليه مع الصندوق. تأتي هذه الخطوة في ظل فجوة تمويلية تقدر بنحو 40 مليار دولار في نهاية السنة المالية 2024-2025، ما يضع الحكومة أمام خيارات محدودة ويجعل بيع الأصول العامة خيارًا يفرضه الواقع. انتقادات وتحذيرات على الرغم من محاولات الحكومة المصرية للتعامل مع الأزمة من خلال بيع الأصول والتوسع في الاقتراض، إلا أن الانتقادات تزداد حول هذه السياسات. أفاد تقرير صادر عن معهد التمويل الدولي بأن مصر قد سددت نحو 25 مليار دولار من ديونها العامة المحلية والخارجية منذ مارس 2023، إلا أن هذه الأرقام لا تخفي التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد في المستقبل القريب. وفقًا لتقرير "الموقف الخارجي للاقتصاد المصري" الصادر عن البنك المركزي، يتعين على مصر سداد دفعات ضخمة من الديون الخارجية المتوسطة وطويلة الأجل حتى عام 2071، مما يعني أن عبء الديون سيظل قائمًا لفترة طويلة. أشار التقرير أيضًا إلى أن القروض التي حصلت عليها مصر لم تأخذ في الاعتبار تفاوت آجال سدادها، مما يزيد من الضغط على الأجيال القادمة. تداعيات الاقتراض والبيع على الأجيال القادمة تعتبر مصر واحدة من أكبر الدول المقترضة من صندوق النقد الدولي، وتحتل المرتبة الثانية بعد الأرجنتين. يُقدَّر نصيب الفرد من الدين الخارجي في مصر بنحو 1444 دولارًا، مما يشير إلى عبء ديون كبير على المواطنين. ويرى خبراء اقتصاديون أن استمرار الحكومة في سياسة الاقتراض وبيع الأصول العامة يمكن أن يؤدي إلى تداعيات سلبية على الأجيال القادمة، التي ستتحمل فاتورة الديون المتراكمة بالإضافة إلى التضخم المستمر وانخفاض مستوى المعيشة. ختاما؛ في ظل أزمة الديون السيادية التي تعصف بمصر، اتخذت الحكومة خطوات عدة للتخفيف من حدة الأزمة، أبرزها بيع الأصول العامة وتحرير سعر الصرف. إلا أن هذه الحلول لا تعد مستدامة على المدى الطويل، فالتحديات المالية ما زالت قائمة، والضغوط الدولية والمحلية قد تستمر في التأثير على الاقتصاد المصري في السنوات المقبلة. على الرغم من التحسن الطفيف في الدين العام، إلا أن البلاد تواجه مستقبلاً غامضًا في ظل التزامها بسداد ديون كبيرة وضغوط خارجية للإسراع في تنفيذ برامج بيع الأصول. تظل هذه السياسات محل جدل بين الخبراء والمراقبين، فيما يتعلق بقدرتها على تحقيق استقرار اقتصادي دائم.

