تعيش مصر في السنوات الأخيرة سلسلة من الأزمات الاقتصادية المتتالية، نتيجة سياسات إنفاق غير مدروسة واستثمارات في مشاريع غير ذات جدوى اقتصادية، إلى جانب الاعتماد المفرط على الاقتراض الداخلي والخارجي. هذا النهج أدى إلى تفاقم أزمات مالية توصف بأنها "هيكلية خطيرة"، ما يهدد استقرار البلد الأكثر سكانًا في العالم العربي والقارة الإفريقية. يتزامن هذا مع تراجع واضح في أداء الاقتصاد المصري الذي يصنف كثاني أكبر اقتصاد في القارة الإفريقية.
الفجوة التمويلية وتأزم الوضع الاقتصادي
آخر التقارير التي تشير إلى تأزم الوضع الاقتصادي المصري جاءت الأحد الماضي على لسان مسؤول حكومي تحدث إلى "الشرق مع بلومبيرغ"، مؤكدًا أن الحكومة المصرية تواجه فجوة تمويلية تقدر بنحو 10 مليارات دولار خلال السنة المالية الحالية 2024-2025. هذا النقص الكبير يثير التساؤلات حول الوسائل الممكنة لسد تلك الفجوة في ظل ضغوط اقتصادية متزايدة.
ومن بين الحلول التي تسعى الحكومة المصرية إلى تبنيها لتقليل هذه الفجوة التمويلية، هي العودة إلى إصدار صكوك وسندات دولية، وبيع ديون مقومة بالدولار (يورو بوندز). يأتي هذا التوجه بعد فترة توقف منذ أواخر عام 2021، حين باعت الحكومة المصرية سندات دولارية بقيمة 6.75 مليار دولار.
وفقًا لتصريحات أحمد كجوك، وزير المالية، فإن الحكومة تدرس بيع ديون خارجية تقدر بحوالي 3 مليارات دولار خلال السنة المالية الحالية. يأتي هذا في الوقت الذي تم تداول السندات المصرية المستحقة في عام 2047 بأكثر من 80% من قيمتها الاسمية، مما يعكس تراجع الثقة في الاقتصاد المصري.
الطروحات الحكومية كأحد الحلول
إلى جانب إصدار السندات، تتجه الحكومة المصرية إلى تنفيذ خطط لطرح حصص في شركات حكومية في قطاعات الاتصالات والغاز والبنوك، بهدف جمع نحو 2.5 مليار دولار بحلول يونيو 2025. هذه الإجراءات تأتي في إطار وثيقة ملكية الدولة التي صدرت في يونيو 2022، والتي تقضي بتخارج الحكومة من بعض الأنشطة الاقتصادية لصالح القطاع الخاص، وتراقبها المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.
وفي هذا السياق، أعلنت الحكومة عن نيتها بيع آخر حصصها في بنك الإسكندرية، والمقدرة بـ20%، لصالح بنك "إنتيسا سان باولو" الإيطالي الذي يمتلك بالفعل 80% من أسهم البنك. كما تم الإعلان عن طرح 30 إلى 45% من المصرف المتحد المملوك للبنك المركزي المصري بالبورصة المحلية في الربع الأول من عام 2025، بدلاً من بيعه لمستثمر استراتيجي.
بيع الأصول الوطنية
علاوة على ذلك، تسعى الحكومة المصرية لبيع حصص إضافية في شركات استراتيجية أخرى مثل "المصرية للاتصالات" التي تمتلك الحكومة 70% من أسهمها، وشركة "غاز مصر"، التي تسعى صناديق استثمار خليجية للاستحواذ على حصة فيها. تأتي هذه الطروحات في ظل سعي الحكومة لجمع الأموال اللازمة لتغطية الفجوة التمويلية المتفاقمة.
إضافة إلى بيع حصص في الشركات، تعتزم الحكومة طرح مناطق كبيرة على البحر الأحمر للاستثمار، بما في ذلك مناطق ذات أهمية استراتيجية مثل رأس بناس ورأس جميلة. هذه المشاريع تهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية والعربية، وخاصة من دول الخليج التي أبدت اهتمامًا كبيرًا بالاستثمار في السوق المصري.
تداعيات بيع الأصول
بينما تواصل الحكومة المصرية الاعتماد على بيع الأصول لسد الفجوة المالية، تطرح تساؤلات حول مدى فعالية هذه السياسات في تحسين الوضع الاقتصادي على المدى الطويل. الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار يرى أن الحكومة ليس أمامها خيار سوى الاعتماد على بيع الأصول وإصدار السندات لسد العجز المالي. ويشير إلى أن الفشل في جذب تدفقات مالية كافية سيجبر الحكومة على تخفيض الإنفاق العام ووقف بعض المشروعات المخططة.
في هذا السياق، يعتبر الباحث الاقتصادي محمد نصر الحويطي أن هذه الحلول قد تكون ناجعة إذا تم توجيه الأموال الناتجة عن بيع الأصول نحو مشروعات إنتاجية تساهم في تحسين إيرادات الدولة. ويؤكد الحويطي أنه لا توجد بدائل حقيقية أمام الحكومة سوى اللجوء إلى بيع الأصول وإصدار السندات في ظل التراجع الواضح في إيرادات القطاعات الاستراتيجية مثل قناة السويس.
الضغوط الاقتصادية على المواطن المصري
في المقابل، يعاني المواطن المصري من تداعيات هذه السياسات الاقتصادية، حيث تشهد البلاد زيادات مستمرة في أسعار السلع والخدمات الأساسية. فقد ارتفعت أسعار الوقود، والخبز، وتذاكر المواصلات، كما تم رفع أسعار الغاز والكهرباء ومواد البناء. هذه الزيادات تزيد من معاناة المواطنين وتؤجج الغضب الشعبي.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة، تتزايد وتيرة الاحتجاجات والإضرابات في العديد من القطاعات الاقتصادية، حيث يطالب العمال بتحسين أوضاعهم المالية والمعيشية. من أبرز الاحتجاجات التي شهدتها مصر مؤخرًا تلك التي نظمها عمال شركة "وبريات سمنود"، وعمال شركات "النصر للغزل والنسيج" و"فينيسيا للسيراميك".
ختاما ؛ في النهاية، يبدو أن الحكومة المصرية تواجه تحديات اقتصادية هيكلية تتطلب حلولًا جذرية. وبينما تواصل الاعتماد على بيع الأصول وإصدار السندات، يبقى السؤال حول ما إذا كانت هذه الحلول قادرة على إنقاذ الاقتصاد المصري من أزمته المتفاقمة، أم أنها مجرد مسكنات قصيرة الأجل.