من بين نحو 100 ألف فلسطيني نزحوا من غزة إلى مصر هربًا من المحرقة الإسرائيلية الجارية في القطاع، منذ أكثر من تسعة أشهر، هناك ما يقرب من 21 ألف طالب في مرحلتي التعليم الأساسي والجامعي، بحسب مسؤول في قسم الشؤون الثقافية بالسفارة الفلسطينية، دون مدارس أو جامعات، أو حتى دخل يؤمن مصروفات الدراسة والمعيشة بشكل عام، خاصة أن الكثير منهم فقدوا عائلاتهم  في الإبادة الجماعية، ليُضاف القلق على المستقبل التعليمي إلى كرب الناجين من الحرب.

المسؤول الفلسطيني، الذي طلب عدم ذكر اسمه، قال، إن من بين الطلاب الذين نزحوا إلى مصر هناك 15 ألف تلميذ في مرحلة التعليم الأساسي «كانت المشكلة الرئيسية إلحاقهم بمدارس، لكن علشان نلحق السنة الدراسية الحالية عملنا مبادرة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم الفلسطينية لإلحاقهم بمدارس الضفة الغربية، عبر التعليم الأونلاين مع مدرسين بالضفة، ونستصدر لهم شهادات بدل اللي ضاعت بالحرب». لكن، ظلت هناك إشكالية متعلقة بامتحانات طلاب السنة النهائية في الثانوية العامة، والبالغ عددهم 1100 طالب، يجب أن تنعقد امتحاناتهم حضوريًا، لذلك «طلبنا من مصر إنها تعمل الامتحانات على أن تقوم السفارة بكل الترتيبات»، يقول المسؤول الفلسطيني، مضيفًا أن مصر خصصت بالفعل مدرسة لعقد امتحانات الثانوية العامة، وتكفلت السفارة ووزارة التربية والتعليم الفلسطينية بتوفير متطوعين من كادر الوزارة والأكاديميين الفلسطينيين لتسيير الأعمال اللازمة للامتحانات التي تم تحديد موعدها في الفترة ما بين 22 يونيو الماضي والثامن من يوليو الجاري.

رغم تمكن السفارة من تدارك أزمة العام الدراسي الماضي، يظل السؤال الأهم بشأن الأعوام القادمة. فإلى الآن لا أفق لانتهاء العدوان الإسرائيلي، وحتى حال توقفه، سيخلف غزة ورائه أرضًا خربة لا تصلح للمعيشة. 

يقول المسؤول الفلسطيني إن «الأولوية طبعًا لعودة الطلاب إلى غزة.. لكن هذا للأسف سيكون صعبًا واقعيًا، بالتالي طلب السفير من السلطات المصرية التوصل لصيغة ما تسمح بشكل مؤقت بإلحاق طلاب المدارس الفلسطينيين إلى المدارس المصرية، كإلغاء شرط الإقامة»، مضيفًا: «تم بالفعل عقد اجتماعات بين وزيرا الداخلية المصري والفلسطيني، وكذلك وزيرا [التربية و] التعليم المصري والفلسطيني لتنسيق ذلك الأمر، وجاري بحث الأمور، دون البت فيها بعد». 

إلى جانب الـ15 ألف تلميذ، كان هناك ستة آلاف طالب جامعي نزحوا إلى مصر بعد اندلاع الحرب. التحق هؤلاء بمبادرة «الطالب الزائر» التي أطلقتها جامعات الضفة الغربية لطلاب القطاع، خلال الأشهر الماضية.

وفرت مبادرة جامعات الضفة: بيرزيت والنجاح والقدس، مختلف المناهج الدراسية باستخدام تقنية التعليم عن بعد بشكل مجاني تمامًا للطلاب، مع تسجيل المحاضرات وتوفير المواد الدراسية إلكترونيًا. لكن، هذا النوع من الدراسة يحتاج إلى أدوات باهظة الثمن: لاب توب أو تابلت، ما دفع أغلبهم إلى تشارك تلك الأدوات، فمثلًا يستخدم أربعة طلاب لاب توب واحد بالتناوب، وهو ما وصفه طالب فلسطيني وأم آخر لـ«مدى مصر» بـ«انعدام الفعالية».

بالإضافة إلى ذلك، يواجه طلاب الكليات العملية مشكلة أخرى تتعلق بالجوانب التطبيقية في دراستهم، ما دفع السفارة لمحاولة عقد اتفاقات توأمة بين الجامعات الفلسطينية ونظيراتها المصرية لسد هذا النقص، لكن الأمر لم يُبت فيه أيضًا، بحسب مسؤول السفارة. 

***
بخلاف النازحين بعد الحرب، هناك 13 ألف طالب فلسطيني مسجلين في الجامعات المصرية، بينهم 11 ألف و507 طلاب مسجلين في الجامعات الحكومية المصرية، حسب المسؤول الفلسطيني، ويتوزع بقيتهم على جامعة الأزهر والكليات العسكرية والجامعات الخاصة.

توفر الجامعات المصرية -منذ سنوات- خصمًا للطلاب الفلسطينيين على رسوم الدراسة بقيمة 50%، رغم ذلك يواجه الطلاب مشكلة في سداد الرسوم الدراسية، والتي تتراوح -بعد الخصم- بين 3000-3500 دولار، حسب مجموعة من الطلاب الفلسطينيين ومسؤول بالسفارة ومسؤولين عن مبادرات أهلية لدعم الطلاب تحدثوا إلى «مدى مصر».

تقول غدير*، جدة فلسطينية تعيش في الشتات، على تواصل مع نحو 450 طالبًا فلسطينيًا في مصر، تساعدهم في توفير الحد الأدنى من الحياة: «الطلاب كلهم بيعانوا حتى لو أهاليهم في غزة لسة عايشين.. تخيلي اللي أهلهم استشهدوا؟».

قبل الحرب، كانت عائلات الطلاب الفلسطينيين في مصر تحوّل لهم مصروفًا شهريًا يتراوح بين 350-400 دولار لحاجات السكن والمعيشة، بالإضافة لمصاريف جامعاتهم. بعد الحرب التي اندلعت مع بداية العام الدراسي «معظم الطلاب مكنوش دفعوا رسومهم الدراسية، ومحصلش إعفاءات من الرسوم في [جامعات] مصر زي ما حصل في الجزائر والأردن أو حتى من جامعة الأزهر في مصر، فأغلبهم في مصر مديونين بأكثر من 3000 دولار لوزارة التعليم العالي»، تقول غدير.
وفرت جامعة الأزهر، مطلع ديسمبر الماضي، منحًا كاملة لجميع الطلاب الفلسطينيين المسجلين بالجامعة وكل مؤسسات الأزهر، البالغ عددهم 519 طالبًا، بخلاف ذلك يدين آلاف الطلاب الفلسطينيين لوزارة التعليم العالي بآلاف الدولارات في ظل معاناتهم من مشكلات مادية كبيرة جراء انقطاع الدخل عنهم، سواء لمقتل ذويهم أو توقف رواتبهم جراء الحرب. 

لم تقدم وزارة التعليم العالي أي إعفاءات أو منح للطلاب الفلسطينيين، وإنما اكتفت بالموافقة على طلب من السفارة الفلسطينية على تأجيل سداد أقساط الرسوم الجامعية للطلاب الفلسطينيين الدارسين من قطاع غزة، وتسليمهم شهادات القيد للتوجه بها إلى الإدارة العامة للجوازات والهجرة والجنسية لاستخراج الإقامات، حسبما أعلنت السفارة في 10 نوفمبر الماضي.

قيادي طلابي في الجالية الفلسطينية بإحدى جامعات الأقاليم، أكد لـ«مدى مصر» أن الجامعة لم تقدم لهم أي إعفاء أو تخفيض للمصروفات الدراسية، إلا أنها سمحت للطلاب الذين لم يتمكنوا من دفع المصروفات بالاستمرار في الدراسة والتقدم إلى الامتحانات والانتقال إلى السنة الدراسية التالية، مع تقديم الجامعة للطلاب إفادات بانتسابهم إليها، ما يمكّنهم من تجديد أوراق إقامتهم في مصر، حسب القيادي الطلابي، الذي أوضح أن ذلك لا يعني أي إعفاء للمصروفات وإنما تأجيلها كـ«دين» مستحق على الطالب لا يحصل على إفادة تخرج دون سداده.

لم تقتصر مشكلات الطلاب المادية على توفير الرسوم الدراسية، بحسب غدير، التي يسكن معظم الطلاب الذين تتكفل بهم في منازل يؤجرها أصحابها لهم بالدولار دون عقود، وإن كان بعض المصريين يتبرعون في حالات قليلة لهؤلاء الطلاب بالمكوث دون دفع إيجار مطلقًا تضامنًا مع أوضاعهم الأخيرة.

ضخامة العبء المادي لم تمكّن غدير، رغم محاولاتها الحثيثة في جمع تبرعات من معارفها في الشتات، إلّا من توفير الحد الأدنى لإبقاء هؤلاء الطلاب على قيد الحياة. «ما بقدر اساعد الطالب للأسف بأكثر من إني أدفع له إنه ميترماش في الشارع.. وياكل وجبة واحدة في اليوم وأحيانًا بيوفروا منها علشان يقدروا يبعتوا القليل لأهاليهم في القطاع»، تقول غدير.

حنين*، طالبة دراسات عليا بمعهد البحوث، جاءت إلى مصر قبل الحرب بسنوات، بتحويل طبي لغرض العلاج، تقول: «الأوضاع المادية وقفت على الكل.. كنا عايشين بنَفَس اللي هناك، لما نَفَسهم وقف نَفَسنا وقف». تصف حنين الوضع المادي لعائلتها بعدما انقطع مصدر دخل والدهم جراء الحرب، والذي كان متكفلًا بجميع مصاريف المعيشة والدراسة. 

مشكلة حنين يواجهها أغلب الطلاب الفلسطينيين في مصر، ما حفّز مصريين على إنشاء شبكات تضامن غير رسمية، من الطلاب وغيرهم، والتي تطورت بدورها في بعض الأحيان لتأخذ شكلًا شبه منظم في تقديم الإعاشة والدعم المادي لهؤلاء الطلاب.

تقول أميرة*، طالبة مصرية بكلية طب في إحدى جامعات الأقاليم: «بعد الحرب، كان ليا زميلتين [فلسطينيتين] في الجامعة كنت بتحسس في البداية إني أسألهم بشكل مباشر، وحاولت أعرف ظروفهم على استحياء، وبعد كده بقيت بجمع من الناس اللي حواليا بحيث إني أقدر أوفر لهم احتياجاتهم الأساسية بشكل شهري.. وربنا بيسد عنهم وعننا كل شهر لغاية دلوقتي»، مضيفة: «في البداية كانت التبرعات أكتر من دلوقتي، لكن كل ما وقت الحرب بيزيد كل ما التبرعات بتقل والوضع بيبقى أصعب».

عمر*، مهندس مصري، اشترك مع مجموعة للتنسيق من أجل مساعدة الطلاب الفلسطينيين في مصر، محاولًا إرساء منهجية منظمة وإعداد قوائم للطلاب في مختلف الجامعات ثم تقسيمهم إلى شرائح تبعًا لظروفهم المادية والصحية واحتياجاتهم الأساسية، وبناءً على ذلك يتم توزيع التبرعات التي يجمعونها من معارفهم وتوجيهها للفئات الأكثر احتياجًا، لكن المجموعة بدأت هي الأخرى تلمس تراجع التبرعات مع استمرار الحرب. «التبرعات قَلّت أوي مقارنة بفترة بداية الحرب لدرجة إن معظمنا بقى خايف إن ده يبقى آخر شهر نقدر نكفي فيه الناس اللي معانا»،  يقول عمر.

***
السعي اليائس وراء تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة تحت وطأة اللجوء، كثيرًا ما يحجب وجهًا آخر لمعاناة شباب وشابات بالكاد يغادرون مرحلة المراهقة وسط مآسي حربٍ عنوانها الإبادة الجماعية، فقد خلالها الكثير منهم أحبائهم ومنازلهم وتاريخهم كله، وباتت أرواحهم مثقلة بكرب لا يُحتمل، في وقتٍ مطلوب منهم فيه مواصلة الدراسة من أجل المستقبل.

الناجون من الحروب يعانون من «اضطراب كرب ما بعد الصدمة» Post-traumatic stress disorder، حسبما قالت لـ«مدى مصر» الطبيبة عايدة سيف الدولة، إحدى مؤسَسات مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، مضيفة أن «التجارب التي واجهها النازحون من غزة تتنوع ما بين فقد ودمار ونزوح وخطر، وبالتالي كلها خبرات قريبة من الموت Near Death experience».

قد لا يتمكن الأفراد من التعبير عن تلك الصدمات بشكل لحظي، حسب سيف الدولة، فيختلف أثر الصدمة باختلاف نوعية التجارب التي عايشها كل منهم، وباختلاف مراحلهم العمرية.
«الأطفال بتعبر عن الصدمات بشكل سلوكي أكتر، ممكن غضب، وقلق وتظهر بردو بشكل جسدي، في صورة أوجاع ملهاش تفسير عضوي، أرق، أو مغص، وحالات من التبول اللا إرادي، جزء من ده بسبب إنهم مش بيبقى عندهم القدرة على التعبير، وإن كان فيه حالات كتير من شابات بيتكلموا عن أزواجهم إنهم بردو مش بيعبروا وبيتكلموا عن اللي حصل وبيحاولوا يتعاملوا إنه خلاص خلص وإننا نركز دلوقتي في مشاكل الحياة الأساسية اللي مش قادرين نوفرها، سواء السكن أو الأكل لأن الصدمة دي مالهاش حاليًا حل». 

لاحظت سيف الدولة خلال تواصلها مع عدد من النازحين إلى مصر حالة من الصمت حول ما عايشوه خلال الإبادة: «مش عاوزين يتكلموا خالص عن اللي حصل بعد ما وصلوا.. ممكن يتكلموا عن اللي حصل لناس تانية، بس كله مركز في الكلام حوالين  صعوبة العيش في مصر، والاغتراب».

عدم التعرض للإبادة بشكل مباشر لم يقِ هؤلاء من الاضطرابات النفسية، وإنما أصابهم بنوع آخر من الأزمات تعرف بمتلازمة الناجي Survival guilt، وهي عبارة عن شعور مستمر بالذنب للناجين من كارثة أو صدمة رهيبة جدًا حدثت لآخرين قريبين منهم ونجوا منها. توضح سيف الدولة: «في الحالة دي الشباب أو الأفراد بيسألوا نفسهم طول الوقت ليه مش أنا اللي مُت؟ جايز لو مكنتش سافرت علشان أتعلم كنت مت مع أهلي؟ ليه أنا متوفر ليا طعام وهما جعانين؟ ليه بيوتهم اتدمرت وأنا فوق راسي سقف.. فدايمًا بيكون عنده إحساس بالذنب لكونه عايش والناس التانية ماتت، فالحياة نفسها بتكون عبء».

يحتاج هؤلاء الضحايا، حسب سيف الدولة، إلى التعاطف الرسمي العام والفردي بشكل دائم، بخلاف تدريب وتأهيل وتربية كل من يتعامل مع هؤلاء الضحايا في مصر: «دي ناس تعرضوا لصدمات بشعة، إحنا بنتكلم عن أفراد عايشوا الموت بشكل يومي، أو أهلهم بيعايشوا الموت بشكل يومي، معندهم أكل أو علاج أو أي شيء»، مطالبة بأن «الإعلام لازم يتبنى رسالة عامة بتقول إن دول أهلنا.. ودول ضحايا حرب ظالمة، لكن للأسف الإعلام في مصر مش بيتداول الحرب واللي بتعمله في الناس، فبنلجأ إننا نعرف اللي بيحصل في غزة من قنوات مش مصرية غالبًا». 

انتقدت سيف الدولة رفض إدارات بعض المستشفيات في مصر تقديم الدعم النفسي للضحايا والاكتفاء بتقديم الخدمات العلاجية الجسدية. «فيه عائلات كاملة دخلت مستشفيات في مصر، وكذا حد متخصص حاولوا بشكل تطوعي ينظموا مجموعات دعم نفسي للأطفال بشكل مجاني.. الطلب اتقدم لثلاثة مستشفيات، ومفيش مستشفى من الثلاثة وافقت على الطلب ده».