السبت 6 يوليو 2024 09:20 م

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة:36).

         الحمد لله الذي منَّ على عباده بمواسم يستكثرون فيها من العمل الصالح، ويتنافسون فيها فيما يقربهم إلى الله، فتتابع مواسم الطاعات رحمة للمسلم وحماية له من الوقوع في الشهوات واتباع هوى النفس، فهذه الأيام المباركة إنما تذكرنا بالطاعات، وتحثنا على الاستزادة من النوافل، والمضي قُدُمًا في درب العبادات.

فلنتأمل- أيها اﻷحباب الكرام- الأيام الماضية التي كنا نستقبل فيها شهر رمضان، ثم ما أسرع أن انقضى، فاستقبلنا عشر ذي الحجة ويوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة؟! ثم ما أسرع أن انقضت هذه الأيام المباركة، وها نحن على مطلع شهر الله المحرم ويوم عاشوراء، فوَطِّنْ -أيها الحبيب- نفسك على الطاعة وألزمها العبادة؛ فإن الدنيا أيام قلائل والمتفكر في كل هذه المواسم المتتابعة يشعر أنها ما لبثت أن انقضت سريعًا، وكأننا استقبلناها بالأمس واليوم نودعها.

 ولا بد أن يكون للمتأمل وقفة في تأمل دورة الأيام، وأن يستوحش سرعة مرورها ، قال الله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُون} (المؤمنون: 112 - 114).

ويقول الحسن البصري: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب بعضك أن يذهب كلك"، فلنعملْ -أيها الإخوة والأخوات- لهذه الدار، ولنفرَّ إلى الله ونفزع إليه بالتوبة وصدق الالتجاء إليه عز وجل، ولنستمسكْ بحبل الطاعة والاعتصام بالله تعالى، ولنتمثلْ حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ" (رواه البخاري ومسلم).

وفي هذا الشهر المبارك نستلهم من صبرِ يومٍ عظيم وقع فيه حدث فاصل، نَصَرَ اللهُ فيه الحق وأزهق الباطل، أنجى الله نبيه موسى -عليه الصلاة والسلام- وقومه، وأغرق فرعون وقومه، وهو يوم عاشوراء، العاشر من شهر الله المحرم، فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود صيامًا فيه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟"، قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه (رواه البخاري).

فهذه فرصة أخرى لكل الطاعات والمكرمات، وتنمِّية رصيدنا في ميزان العمل الصالح، فرصة لتزكية الروح، وتهذِّيب النَّفْس وتقوِّية الإيمان، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (البقرة: 148) واشحذوا الهمم؛ فلهذه الأمة نفحات في أيام دهرها، يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "اطلبوا الخيرَ دهرَكم كلَّه، وتعرَّضُوا لنفحات رحمة الله تعالى، فإن لله -عز وجل- نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده".

أين نحن من الطوفان؟

        الإخوة والأخوات الكرام: إن ثقتنا في نصر الله لدينه وتمكينه للفئة المؤمنة وعباده الصالحين ثقة راسخة في الوجدان، لا تشوبها شائبة ولا يعتريها شك؛ لأنها يقين نتعبد به لله تعالى، وجزء من إيماننا العميق بقدرة الخالق المتعدية لحدود العقول البشرية وطاقات الكون كله، فهو سبحانه الذي تعهد بذلك {كَتَبَ الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا۠ وَرُسُلِي} (المجادلة: 21) . ولكن يبقى السؤال الذي يجب ألَّا يفارق نفس كل مؤمن في جميع أوقاته، وهو: أين أنا من نصرة دين الله تعالى ودعم عباده المجاهدين؟

        نعم أيها الأحباب ..إن إخواننا في فلسطين الأبية يجاهدون نيابة عن الأمة بأسرها، فعلينا أن نبحث لأنفسنا عن دور وجهد لدعم هذا الجهاد العظيم والمشاركة في معركة العزة، التي تدور رحاها في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، حتى وإن لم نستطع الجهاد والتضحية بالنفس على أرض النزال، فإن الثبات على مقاطعة كل من يدعم العدو بمال أو جهد أو إعلام أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه وسيلة فاعلة نافذة مؤثرة وموجعة للأعداء وأذنابهم في ربوع الأرض، وشتى المجالات، فقد بلغت خسائر بعض الداعمين للكيان الصهيوني مليارات الدولارات وانخفضت قيمة أسهم بعضهم بنسب غير مسبوقة، حتى بدأت بعض هذه الكيانات الداعمة للاحتلال في إغلاق فروعها والانسحاب من الأسواق العربية والإسلامية.

        ومن العجيب أن نرى أن بعض الكيانات الاقتصادية العربية والإسلامية تدعم الكيان المحتل بمنتجاتها بكل وضوح ودون خجل أو مواربة، كما نشرت بعض وسائل الإعلام الإقليمية والعالمية.  فعلى الرغم من حصار الكيان الصهيوني لإخواننا في غزة وإغلاق جميع المعابر؛ مما فاقم من شدة المجاعة التي طالت الجميع، في مشهد يدل على عجرفة هذا الكيان وعدم مبالاته بكل القوانين الدولية؛ فإن هناك عددًا من الشركات في ست دول عربية تقوم بتصدير قرابة 320 منتجًا للكيان الصهيوني، كما تصدر بعض الدول الإسلامية ما يفوق 2900 منتج للكيان الصهيوني أيضًا في مشهد مخزٍ وفاضح لن ينساه التاريخ ولن تنساه الشعوب الحرة الواعية.

        ولا شك لدينا أن هذه الشركات هي الأولى بالمقاطعة قبل أي شركات أخرى،  وكل هذا يحتم علينا أن نكشف هؤلاء الذين يبيعون دماء إخوانهم بأبخس الأثمان، كما أننا لا نريدها مقاطعة وقتية انفعالية عاطفية وفقط، بل نريدها مقاطعة دائمة مستمرة حتى تخرج كل هذه الكيانات من أوطاننا ونستبدل بها منتجات وطنية ندعم بها بلادنا العربية والإسلامية.

        ومع المقاطعة الاقتصادية لن نعدم الوسائل التي نعين بها إخواننا بإذن الله، ومن أهمها الدعم والتبرع؛ فالمسلمون "تتكافأُ دماؤهُم ويسعى بذمَّتِهم أدناهُم ويردُّ عليهم أقصاهُم وهم يدٌ على من سواهم"، كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال أيضا : "سبَق دِرهمٌ مِئةَ ألفِ دِرهمٍ"، والأمة سبّاقة في دعم وإمداد إخوتها على أرض غزة الأبية، ومهما حاولوا منع المعونات؛ فإننا -بإذن الله تعالى- لن ندخر جهدًا ولا مالًا ولا وسعًا ولا طاقة في إغاثة إخواننا ودعمهم بكل ما أوتينا من قوة وعزيمة.

        ويبقى الدعاء سلاح المؤمن الماضي الذي لا ينفك عنه أبدًا، وإننا لنرى من توفيق الله لإخواننا المجاهدين في ساحة الجهاد ما نحسب أنه - بفضل الله تعالى- إجابة دعوات اﻷمة بكل أطيافها، فلا تنسوا إخوانكم من دعواتكم الصالحات ولا تنشغلوا عن الدعاء لهم بالنصر والتثبيت؛ حتى يتحقق النصر بإذن الله تعالى {وَیَوۡمَىِٕذ  یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِنَصۡرِ ٱللَّهِ  * بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ یَنصُرُ مَن یَشَاۤءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیمُ} (الروم: 4-5).

 

طاجيكستان ومحاولات طمس الهوية

        وفي طاجيكستان آلمنا وآلم كل مسلم يهتم بأمر إخوانه ما يتعرض له الشعب الطاجيكي المسلم من محاولات محمومة لطمس هويته وعزله عن قيمه وتراثه ومبادئه الإسلامية، من خلال حزمة من القوانين التي أصدرتها الحكومة الطاجيكية مؤخرًا وبلغت 35قانونًا، تسعى من خلال تمريرها وفرضها لسلخ الشعب، الذي يبلغ تعداده 10 ملايين نسمة (96% منهم مسلمون) عن دينهم. وتحظر هذه القوانين الحجاب الشرعي وتتعامل معه على أنه "زي دخيل على الثقافة الوطنية"، وتحظر احتفالات الأطفال بالأعياد الإسلامية، وتصادر حق الوالدين في تربية أبنائهم على قيم الإسلام وأخلاقه وتوطينهم على العبادة الصحيحة، بزعم حماية حقوق الطفل وحرياته وتربيتهم على روح الإنسانية والفخر الوطني واحترام القيم الوطنية!

        وإمعانًا في محاولة سلخ الشعب عن دينه فرضت هذه القوانين غرامة على المخالفات بارتداء الحجاب الشرعي والاحتفال بالأعياد الإسلامية تبدأ بما يعادل 700 يورو لعموم الشعب، وتزيد على ما يعادل 4000 يورو لمن يخالف من المسؤولين الحكوميين، وتصل إلى ما يقارب 5000 يورو لعلماء الدين.

 وقد جاءت هذه الإجراءات الأخيرة استمرارًا لسياسة قديمة اتبعتها الحكومة الطاجيكية، حيث حظرت منذ سنوات على الآباء إرسال أطفالهم إلى مؤسسات دينية خارج البلاد، وحظر دخول من هم دون سن 18 سنة إلى المساجد دون إذن مسبق من ذويهم، ثم تزايدت حدة الإجراءات في عام 2017 ليتم إغلاق 1938 مسجدًا خلال عام واحد  وتحويلها إلى مراكز طبية، وذلك وفقًا لتقرير صادر عن لجنة الشؤون الدينية في طاجيكستان:

        إننا نؤكد لكل من يبذلون الجهود والمحاولات الدؤوبة والمستمرة؛ لحرف مجتمعاتنا عن هويتها الإسلامية وقيمها التي تستقيها من ديننا الحنيف، أن جهودهم جميعا ستبوء بالفشل ولن تنجح في تحقيق أهدافها أو الوصول لغايتها، فتاريخنا يشهد عددًا من شعوبنا الإسلامية تم عزله لسنوات طوال عن منابع الدين وحقائق الإسلام، وتغييبه عن مصدر عزته وهُداه - القرآن الكريم - ثم لا تلبث هذه الشعوب أن تعود إلى أصولها وتحافظ على منهجها وتتمسك بعقيدتها وتتعلق بكتاب ربها؛ حفظًا ودراسة وفهمًا، سرًّا وعلانية.

        وبالمقابل نبشر شعوب الأمة الإسلامية أن هذه الممارسات التي تنتهجها مثل هذه الحكومات الخاطئة ستذهب أدراج الرياح ولن يكتب لها النجاح، بإذن الله تعالى، طالما ظلت الأمة وقواها الحية واعية بما يحاك لها، مدركة لما يخطط لسلخها عن هويتها، وساعية بكل جهدها للتمسك بدينها وحمايته ونشره في العالمين، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (الشعراء: 227).

 

إلى مصرنا الحبيبة .. نداء للوحدة ودعوة للإصلاح والتمسك بقيم الحرية والعدالة

        يا شعبنا المصري الحبيب: إننا اليوم أمام مرحلة حاسمة ومصيرية تمر بها مصرنا الحبيبة، إنها لحظة تاريخية تحمل معها تحديات كبيرة، ومعاناة أشد في ظل استمرار تدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أزمات متجددة لا تنتهي؛ من انقطاع مستمر ومتكرر للكهرباء ونقص إمدادات الغاز الطبيعي، وما نتج عنه من  إعلان شركة أبو قير للأسمدة وشركة سيدي كرير قبل بضعة أيام توقف مصانعهما عن العمل، وأزمة مستمرة للدولار وسط أنباء عن عودة السوق الموازية للعملة، وما نتج عنها من تكدس الكثير من الواردات في الموانئ المصرية. يضاف إلى ذلك زيادة القروض الأجنبية والديون؛ بما يثقل كاهل المواطن المصري والأجيال القادمة، مع استمرار زيادة الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة،  وكل هذه الأزمات وغيرها الكثير، والتي تسببت فيها سلطة الانقلاب العسكري الفاسدة والفاشلة، تضعنا أمام تحديات كبيرة تتطلب منا التحرك العاجل لإنقاذ وطننا وإصلاح ما أفسده هذا الانقلاب وبناء ما هدمه.

        مع هذا، فإن من أسوأ ما تقوم به الديكتاتوريات في العالم هو الاستهانة بحرية الإنسان وكرامته وحياته،  وهو ما نراه سلوكًا ثابتًا للسلطة القائمة، التي جثمت على صدور المصريين فحرمتهم حريتهم، وأهدرت كرامتهم، وتسببت بهلاكهم بطرق متعددة، والتي كان أقربها فقدان 672 من الحجاج المصريين هذا العام بسبب الفشل الإداري لهذه السلطة التي عجزت عن التقنين والتنظيم والرقابة.

        إن مسرحية 30 يونيو 2013، وما تبعها في 3 يوليو 2013م من انقلاب عسكري على أول رئيس مدني منتخب في انتخابات شهد بنزاهتها العالم كله، والقضاء على التجربة الديمقراطية الوليدة، كان الهدف الحقيقي منها بث روح اليأس في الشعب المصري حتى لا يمتلك إرادته الحرة في التغيير؛ فهم يدركون تماما أنه إذا امتلكت مصر إرادتها، وتبوأت مكانتها الحقيقية الإقليمية والدولية، ما كان يحدث أبدًا ما تم من تنازل عن تيران وصنافير في يونيو 2017 بما لها من قيمة استراتيجية  (أصدرت الجماعة بيانًا في هذا الصدد يمكن قراءته هنا)، وما تم التنازل عن حق المصريين في مياه النيل وآثاره المدمرة على مستقبل الشعب المصري، وما كان هذا الموقف المخزي من حرب غزة والذي لن ينساه التاريخ لهذا النظام الانقلابي!

        إننا في جماعة "الإخوان المسلمون"، وانطلاقًا من مسؤوليتنا الأخلاقية والدينية والوطنية، نكرر دعوتنا إلى ضرورة توحُّد كل أحرار الشعب المصري، فرادى وأحزاب وجماعات -على اختلاف توجهاتهم- خلف حقوقنا ومطالبنا المشروعة بدولة ديمقراطية مدنية حديثة، والعمل على إنقاذ مصرنا الحبيبة من أيدي هذه السلطة المستبدة الفاسدة، التي أهلكت الحرث والنسل؛ لأن ذلك هو السبيل الوحيد لإعادة بناء الدولة على أسس العدالة والحرية، مصداقًا لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } (الرعد: 11).

والله أكبر ولله الحمد

أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "

السبت 30 ذو الحجة 1445 هجرية - الموافق 06 يوليو 2024م