اتخذت الحكومة المصرية مؤخرا عدة قرارات يعتقد أنها تؤثر سلبا على أكثر من 75 مليون مصري تنوعت بين رفع أسعار الخبز المدعم لثلاثة أضعاف وقطع الكهرباء لساعات يوميا وتكرار رفع أسعار الوقود وارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق وانخفاض الجنيه المصري لمستويات قياسية وتراكم الديون الخارجية والإقبال على بيع الأصول بشكل مضطرد.
هذه القرارات التي سبقتها إشارات وتعليقات من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أحاديث متلفزة، ولا يمكن أن تتخذ إلا بإيعاز مباشر منه، كانت تعتبر خطا أحمر لمن سبقوه من الحكام.
لكن هذه القرارات، التي وصفها السيسي نفسه بالـ "صعبة"، مُررت جميعا دون معارضة تذكر، رغم ما يتردد من انتقاد خافت أو ظاهر لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ويرجع خبراء ومتابعون للشأن المصري اختفاء الصوت المنتقد إلى "نجاح النظام السياسي المصري في تغييب تيار الإسلام السياسي المعارض عن المشهد خلال السنوات العشرة الأخيرة، واستهداف المعارضة المدنية الهشة بالأساس وتقييد حرية الرأي والتعبير وتبني سياسيات سلطوية يعد أبرزها تمرير قوانين تشرعن التقيد والمنع بشكل مطلق".
تسمح القوانين المصرية التي أقرت خلال السنوات الخمس الأخيرة للنظام السياسي باعتقال ومقاضاة من يقوم بانتقاده ولو كان ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وبحسب محامين ونصوص أحكام قضائية، هناك مئات يقبعون في السجون بتهم جميعها تتعلق بديباجة محفوظة وهي "الانتماء لجماعة محظورة ونشر أخبار كاذبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتحريض على ارتكاب أعمال إرهابية،" مع الإفراط في استخدام الحبس الاحتياطي والتدوير لإبعاد أي أمل للمحبوسين في الخروج أو للمعارضين في الإفلات إن ساروا على نفس النهج.
وأطلقت بعض المنظمات الحقوقية على المحبوسين في تلك الجرائم التي وصفوها بالمعلبة بـ "سجناء الولا حاجة".
الصحفي المصري مصطفى الأعصر أمضى نحو ثلاث سنوات في السجن، بتهمة "نشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي".
ألقي القبض على الأعصر عام 2018، وظل محبوسا احتياطيا لعامين، ثم أعيد تدويره بعد الإفراج عنه في 2020 ليمضي عاما أخر على ذمة قضية ثانية، حتى تم الإفراج عنه في 2021، غادر بعدها مصر.
يقول الأعصر لبي بي سي من مقر إقامته الجديد في كندا "أمضيت ثلاث سنوات في السجن عقابا لي على الإعداد لفيلم وثائقي عن آليات التحول الديمقراطي، لم يكن الفيلم قد نُفذ بعد، لكنهم عاقبوني على التفكير".
وثقت العديد من المنظمات الحقوقية دأب السلطات في مصر على حبس المعارضين احتياطيا لمدد طويلة، ثم "إعادة تدويرهم" على ذمة قضايا أخرى كوسيلة لإسكات المعارضين واستمرار حبسهم بالمخالفة للقانون، كما جاء بتقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن الوضع الحقوقي لمصر عام 2022.
يقول الأعصر عند سؤاله عن سبب الخروج من البلاد بعد الإفراج عنه "عقب الخروج من السجن، لم أستطع العودة لعملي، شعرت بتهديدات في كل لحظة، وعندما رأيت ما حدث لنشطاء آخرين من العودة للسجن بعد الخروج، جعلني أقرر اختيار المنفى الاختياري خارج مصر".
لكن يصر عضو مجلس النواب القريب من الحكومة مصطفى بكري على نفي تلك التهم، ويقول إن حبس المعارضين يأتي على ذمة قضايا جنائية إعمالا للقانون، وليس لأسباب سياسية.
ويقارن الأعصر بين عصر الرئيس السابق حسني مبارك وبين العصر الحالي قائلا: "الاختلاف بين مبارك والسيسي هو درجة التوحش، كان مبارك إلى حد ما عقلانيا في التعامل مع المعارضة حتى أثناء قمعها".
وتردد الحكومة المصرية أنها شددت من بعض القوانين من أجل مكافحة الإرهاب، وإعادة ضبط حالة الانفلات التي أعقبت حراكا شعبيا قويا في الفترة ما بين 2011 و2014.
"استهداف المنافسين"
تتفق كاثرين جروث، باحثة أولى بمنظمة فريدوم هاوس الحقوقية الأمريكية مع رؤية برتشينماتشير في تعدد التقنيات التي يتبعها نظام السيسي في تعقب المعارضة.
"يملك نظام السيسي نظاما متعددا لإبعاد المعارضة السياسية، هذا النظام يشمل التضييق الشديد على المعارضين من خلال الاعتقال لاستبعاد أي منافسة محتملة".
وترى جروث أن إحكام السيطرة على العملية الانتخابية من أبرز الوسائل التي يتم استخدامها، ما يجعل أي فرصة للمعارضة لتولي الحكم "مستحيلة".
يرصد تقرير عن منظمة فريدوم هاوس أبرز التقنيات التي تستخدم للتلاعب بالعملية الانتخابية، ومنها ترتيب ظهور المرشحين على أوراق الترشح، تغيير القواعد الحاكمة للترشح، استخدام الإعلام للهجوم على المنافسين، وأخيرا الملاحقة القانونية.
في الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية عام 2023، برز عضو مجلس النواب المصري السابق أحمد الطنطاوي كونه المنافس الأبرز للسيسي.
انسحب الطنطاوي من المنافسة بعدما فشل في جمع التوكيلات الشعبية اللازمة لترشحه وتوثيقها في مكاتب الشهر العقاري الحكومية، بعد اتهامه للحكومة بوضع عقبات أمام أنصاره تمنعهم من توثيق توكيلات له.
والآن ينفذ حكما بالسجن مع الحرمان من الترشح للانتخابات النيابية لمدة 5 سنوات بعد اعتبار المحكمة طلبه لجمع توكيلات شعبية غير موثقة "غير قانوني"، وكانت تهمته "طبع وتداول أوراق العملية الانتخابية دون إذن من السلطة المختصة".
"هذه القضية عقاب لأحمد الطنطاوي، فهي قضية سياسية هدفها فرض الصمت بقوة القانون،" هكذا يرى خالد علي محامي الدفاع عن أحمد الطنطاوي.
بل ووصف أستاذ علم الاجتماع السياسي والمعارض عمار علي حسن الحكم بأنه "استمرار لغلق المجال العام، ومنع الفرص والحقوق الطبيعية التي يكفلها الدستور والقانون، ورفض أي قواعد عادلة ليس لمنافسة مطلوبة ومرغوبة شعبيا، بل لمجرد تمثيل الناس والتعبير عنهم".
إلا أن رئيس حزب الثورة القريب من السلطة في مصر المستشار سيد حسن قاسم يرفض في حديثه لبي بي سي وصف الحكم بالمسيس وقال إنه "تطبيق لبنود القانون التي تمنع جمع توكيلات خارج الإطار الذي رسمه القانون".
وأضاف قاسم أن القانون لا يتجزأ وأن الطنطاوي خالف القانون بالفعل ومن ثم يجب معاقبته.
واجه مرشحون سابقون للرئاسة مصائر شبيهة بمصير الطنطاوي، وعلى رأسهم المرشحان المحتملان السابقان سامي عنان وأحمد شفيق ووكيل حملة عنان والرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة.
قضى رئيس أركان الجيش المصري الفريق سامي عنان عامين في السجن بعد أيام قليلة من إعلان ترشحه لانتخابات الرئاسة عام 2018، وتوقفت حملته الانتخابية.
حُكم على جنينة بالسجن 5 سنوات بعد تصريحات قال فيها إن رئيس أركان الجيش السابق يملك وثائق تدين قيادات بالدولة فيما يتعلق بأحداث تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011.
كذلك أعلن رئيس الوزراء المصري السابق الفريق أحمد شفيق منعه من العودة إلى مصر بواسطة السلطات الإماراتية في 2017، بعد أيام قليلة من إعلانه الترشح أمام السيسي في الجولة الانتخابية ذاتها، عام 2018.
ثم انسحب شفيق من السباق الانتخابي بعد عودة شابها الغموض لمصر بأيام لأنه رأى "أنه لن يكون الشخص الأمثل لقيادة الدولة خلال الفترة القادمة" كما جاء بيان عبر صحفته على تويتر. 
هشاشة المعارضة
لا يعفي عمار علي حسن المعارضة في مصر من المسؤولية بالكامل، فيقول إن المعارضة في مصر "معارضة هشة غير منظمة، ترسم لها الدولة توجهاتها، وبالتالي لا يمكن أن تخرج من المعارضة الموجودة داخل مصر الآن معارضة حقيقية".
لكن هناك شكلا مختلفا من المعارضة يراها حسن فيقول "المعارضة التي نراها الآن هي معارضة المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعي وهي معارضة لاذعة، ساخرة في أحيان كثيرة، لكنها لاذعة".
كذلك ترى برتشينماتشير، الزميلة ببرنامج الديمقراطية والحكم بمؤسسة كارنيغي للسلام، أن إحكام السيطرة من قبل السلطات المصرية لم يوقف المعارضة السياسية والاجتماعية أو الرغبة في التغيير.
"مثَل الدعم الذي حظي به أحمد الطنطاوي دليلا على رغبة شعبية في التغيير، لكن في ظل غياب قنوات فاعلة لممارسة تلك الرغبة، سواء من خلال مجلس النواب أو الأحزاب السياسية المعارضة، فإن النظام لا يملك إلا مزيدا من القمع للتعامل مع حالة عدم الرضا".