قال رفيق هودزيتش، إنه كان واضحًا منذ البداية أن عملية الإبادة في غزة، التي أطلقتها إسرائيل، كانت إبادة جماعية في نيّتها وسلوكها ونتائجها، رغم أنها حاولت التذرّع بما قامت به “حماس”، في السابع من أكتوبر 2023.

ويُشبّه هودزيتش في مقال له بموقع “ميدل إيست أي” حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، بتلك التي نفذها الصرب بحق المسلمين في البوسنة والهرسك، في الوقت الذي قامت فيه صربيا بتزويد إسرائيل بالسلاح.

 ويضيف الكاتب: “بالنسبة لي، كانت العناصر الرئيسية للإبادة الجماعية واضحة، بعد أسابيع فقط من حملة إسرائيل المدمرة. كان معظم خبراء القانون الدولي الذين أعرفهم، في ذلك الوقت، لا يزالون متردّدين في وصف تصرفات إسرائيل بأيّ شكل من الأشكال بأنها  أعمال خارجه عن حقها في الدفاع عن النفس، أما اليوم فإن معظمهم ليس لديهم مثل هذه الشكوك. فلقد قدمت جنوب إفريقيا وعدد من البلدان الأخرى قضية موثقة أمام “محكمة العدل الدولية” مفادها أن جرائم إسرائيل تشكّل بالفعل إبادة جماعية، في حين يواجه كبار المسؤولين الإسرائيليين محاكمة محتملة في “المحكمة الجنائية الدولية”.

ويضيف الكاتب: لم تسترشد تقييماتي للحالة بأكثر من 25 عامًا من الخبرة في العمل، في سياقات مختلفة، معاناة من عنف الإبادة الجماعية فحسب، بل الأهم من ذلك، بمصير شعبي. فنحن بصفتنا بوسنيين، عانينا أيضًا، ونجونا من حملة سعت إلى إبادتنا من أراضينا  التي يطالب بها الآخرون.

ومن الواضح أن السياقات التي ارتكبت فيها هذه الجرائم مختلفة. وللصراعات أسباب تاريخية وجذرية مختلفة، ولكن هناك العديد من القواسم المشتركة، خاصة عندما يتعلق الأمر بعناصر الجرائم المرتكبة في كل من البوسنة وغزة.

ومنذ البداية، استُخدمت نفس الحجج لتبرير ممارسة العنف ضد الفلسطينيين في غزة. فقيل (من قبل إسرائيل): لم يعد الفلسطينيون بشرًا. توقف الأطفال عن أن يكونوا أطفالًا؛ لقد أصبحوا جميعًا “حماس”، وعلى أقل تقدير، تم اعتبار الفلسطينيين تهديدًا أمنيًا يجب إزالتهم. وفي أسوأ الأحوال، كما عبّرَ بوضوح عن ذلك أمثال رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي، كانوا عماليق بشرية، ولن يكون هناك رحمة في التعامل معهم.

ويستعرض الكاتب ما حصل من مقابر جماعية للفلسطينيين، وقال: “بينما كان العالم يشاهد قتل الآلاف والآلاف من المدنيين بشكل عشوائي بأسلحة عالية التقنية ودقيقة، قدّمتها إلى حد كبير الولايات المتحدة وبلدان غربية أخرى، قُصفت العمارات السكنية ودُمرت بأكملها وحُوّلت إلى غبار، مع بقاء الناس تحت الأنقاض في الداخل. واكتشفت مقابر جماعية تحت أنقاض المستشفيات، ومات الأطفال من الجوع تحت حصار لا يرحم. كذلك انتشرت صور لعشرات الرجال الفلسطينيين الذين تم تجريدهم من ملابسهم تحت تهديدهم بالقتل بقوة السلاح، وأعادت هذه الصور إلى الأذهان ذكريات معسكرات الاعتقال في أومارسكا وكيراتيرم، حيث اقتيد رجالٌ من مسقط رأسي برييدور للتعذيب والقتل أثناء “الاستجوابات”، بعد أن اتهمتْهم قواتُ صرب البوسنة بأنهم “جهاديون وإرهابيون ومجاهدون”. وكذلك كان الأمر بالنسبة لمقاطع فيديو الاحتفالات البهيجة بالفظائع الجماعية التي صوّرَها الجنود الإسرائيليون في منازل الفلسطينيين قبيل هدمها، ممزوجة بما أعلنه القادة الإسرائيليون الذين يبرّرون المذبحة في غزة، بحجة أنه لم يكن هناك أبرياء، وأن الفلسطينيين صوّتوا لـ”حماس” للوصول إلى السلطة، لذلك كانوا جميعًا، برأيهم، إرهابيين، إن لم يكن اليوم، فغدًا”.

ويدعو الكاتب إلى إعلاء الصرخة دفاعًا عن الفلسطينيين. وقال: “إذا لم يكن هناك شيء آخر يمكننا القيام به، فيجب على البوسنيين وجميع ضحايا الإبادة الجماعية في كل مكان، بعد كل ما عانيناه، أن يتحدثوا عن الضحايا في فلسطين، فنحن البوسنيين نعرف هذه اللغة جيدًا. ومنذ تلك الأيام الأولى، ازدادت أوجه التشابه بين الإبادة الجماعية في البوسنة وغزة، وأصبحت أكثر وضوحًا، ومنها ترويع المدنيين لإجبارهم على الخضوع، وإنشاء “مناطق آمنة” تتحوّل فيما بعد إلى حقول قتل، ومهاجمة المستشفيات والمدارس والقوافل الإنسانية.. رأينا كل ذلك خلال تسعينيات القرن العشرين.

ويعطي الكاتب مثالًا ما حصل في سريبرينيتسا، التي كانت تحت الحصار خلال حرب البوسنة، ويقول: “برّرَ صرب البوسنة ارتكاب الإبادة الجماعية بزعم الانتقام من الهجمات التي شنّها الجيشُ البوسني من هناك. مثل هذه الأقوال كانت لتبرير الإبادة الجماعية، ولكن الاقتباس عن “حرب تهدف إلى إنقاذ الحضارة الغربية… من إمبراطورية الشر” لا ينتمي إلى كراديتش، بل إلى إسحاق هرتسوغ رئيس إسرائيل. ومن المثير للقلق أن هذه الرسالة لها جمهور كبير وقوي في الغرب اليوم، كما يتضح من كيفية التعامل مع الاحتجاجات ضد جرائم إسرائيل، من شوارع المدن الألمانية إلى حرم الجامعات الأمريكية “.

 ويرى أنه لا تقتصر أوجه التشابه بين غزة والإبادة الجماعية في البوسنة على مسألة التجريد من الإنسانية، بل تشمل أيضًا إلحاق الضرر بالمجتمع (الفلسطيني) المستهدف، بحيث لا يمكنه التعافي منه أبدًا، ما يتيح الاستيلاء الدائم على الأراضي المحتلة.

وبالعودة إلى المقارنة بين البوسنة وغزة، يقول إنه عند تحديد أن الإبادة الجماعية وقعت في سريبرينيتسا، حكم قضاة “المحكمة الجنائية الدولية” ليوغوسلافيا السابقة بأن “قوات صرب البوسنة كانت على علم، عندما شرعت في مغامرة الإبادة الجماعية هذه، وأن الضرر الذي تسبّبوا فيه سيستمر في حياة مسلمي البوسنة، وكذلك فإن القادة السياسيين الإسرائيليين وقطاعًا كبيرًا من الجمهور الذي يؤيد أعمالهم في غزة لا يحاولون حتى إخفاء نفس النيّة لضمان أن يكون الضرر الذي يعاني منه الفلسطينيون في غزة من النوع الذي لا يمكنهم التعافي منه في المستقبل المنظور. ويشهد على ذلك مستوى الدمار؛ الجروح والصدمات التي لحقت بجميع سكان غزة، ويشهد على ذلك العنوان المشؤوم لتقرير مؤسسة كارنيغي، الذي جاء فيه: “قد لا يكون هناك يومٌ تالٍ في غزة”.

ويضيف الكاتب: “لا ترتكب أيّ إبادة جماعية دون الهدف النهائي المتمثّل في إبعاد مجموعة ما نهائيًا عن منطقة معينة بجميع مظاهرها، السياسية والاقتصادية والثقافية، وفي نهاية المطاف، المادية والبيولوجية”.

ويختم الكاتب: “قد استغرقت هذه الإنسانية ما يقرب من 30 عامًا للاعتراف بضحايا الإبادة الجماعية في سربرنيتسا في قرار للأمم المتحدة تم تبنّيه في مايو. بينما أكتب هذه السطور، فإن الإنسانية نفسها غير قادرة على وقف الإبادة الجماعية الإسرائيلية، ناهيك عن الاعتراف بضحاياها الفلسطينيين، ومعالجة الضرر الذي لحق بهم، وتقديم الجناة إلى العدالة. هذا يجعل التضامن مع الضحايا أكثر أهمية.

وإذا لم يكن هناك شيء آخر يمكننا القيام به، يجب على البوسنيين وجميع ضحايا الإبادة الجماعية في كل مكان، بعد كل ما عانيناه، أن يرفعوا أصواتهم نيابة عن الضحايا في فلسطين. فنحن هم الإنسانية التي تكلم عنها قضاة “المحكمة الجنائية الدولية” ليوغوسلافيا السابقة.