دأبت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون على الترويج لما يُسمى النظام العالمي القائم على القواعد، وهو المصطلح الذي استخدمه مسؤولون أمريكيون وأوروبيون، على رأسهم الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، والعديد من السياسيين الأوروبيين، ومنهم المستشار الألماني أولاف شولتز.

ولا شك في أن سؤالا يُطرح حول ماهية هذا النظام العالمي القائم على القواعد.

بالرجوع قليلا إلى الوراء، ربما تقدم لنا تصريحات الساسة الأمريكيين والغربيين الإجابة عن ماهية هذا النظام.

بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، عللت واشنطن دعمها لكييف بأنه للدفاع عن النظام العالمي القائم على القواعد، وهذا ما عبر عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث أشار إلى أن هذه الحرب هي “معركة بين الديمقراطية والاستبداد، وبين الحرية والقمع، وبين النظام القائم على القواعد ونظام تحكمه قوة غاشمة!”.

وفي كلمته في بروكسل ببلجيكا في الرابع من مارس/آذار 2022، قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن: “إن النظام الدولي القائم على القواعد، الذي يشكل أهمية بالغة للحفاظ على السلام والأمن، يتعرض للاختبار بسبب غزو روسيا غير المبرر لأوكرانيا”.

وفي مقاله المنشور في مجلة فورين أفيرز، في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2022، بعنوان “نقطة تحول عالمية.. كيفية تجنب حرب باردة جديدة في عالم متعدد الأقطاب”، يبين المستشار الألماني أولاف شولتز بصورة أوضح ماهية هذا النظام القائم على القواعد.

ففي مقاله، ذكر شولتز أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشنّ حربا على النظام العالمي الذي تمثل فيه واشنطن قوّة حاسمة؛ ولأجل ذلك دعا كل من يؤمنون بالنظام العالمي القائم على القواعد إلى أن يتحدوا ضد روسيا.

وعلى جانب آخر، أشار شولتز إلى أن متطلبات الدفاع عن النظام العالمي القائم على القواعد تقتضي التعاون مع “الدول التي لا تعتمد المؤسسات الديمقراطية، ولكنها تدعم نظاما دوليا قائما على القواعد وتعتمد عليه”.

صراع بين النظام القائم على القواعد والقانون الدولي

إن هذا النظام القائم على القواعد ليس المعني به النظام الذي يلتزم قواعد القانون الدولي، ولكنه النظام الذي يمثل الرؤية الأمريكية الغربية التي ترى أنهم فوق القانون الدولي ومعفون منه، حيث يعملون وفقا لقواعدهم الخاصة، وما يحقق مصالحهم وأهدافهم، بما يعني أنهم يتمتعون بكافة الحقوق ويتحللون من أي واجبات والتزامات أقرتها القوانين الدولية.

لا نبالغ عندما نقول: إن النظام الدولي بمؤسساته التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية يعيش أسوأ أزماته منذ أن تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية رأس هذا النظام.

إن “الظلم العالمي القائم على القواعد” هو التعبير الأصدق عن “النظام العالمي القائم على القواعد” الذي يروج له المسؤولون الأمريكيون والغربيون.

إن العالم اليوم يعيش صراعا بين نظام قائم على القواعد من جهة -وفقا للرؤية الأمريكية الغربية- والقانون الدولي من جهة أخرى.

ويمثل الموقف الأمريكي والغربي اتجاه ما تقوم به إسرائيل في غزة من حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية أوضح صورة لهذا النظام القائم على القواعد “الظلم القائم على القواعد”، حيث أُطيح بكافة قواعد القانون الدولي والمبادئ التي أقرتها المواثيق الدولية.

ويتجسد المثال الأبرز لهذا “النظام العالمي القائم على القواعد” في الردود الأمريكية والغربية على إعلان المدعي العام للجنائية الدولية السعي لاستصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، وما أعقب ذلك من إقرار مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يسمح بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وذلك إذا حققت مع أشخاص محميين من واشنطن أو حلفائها أو حاكمتهم؟!

هل أمريكا والغرب وإسرائيل فوق القانون؟

مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، وتفاعلاتها العديدة والمستمرة إقليميا ودوليا، هناك سؤال يطرح نفسه، هو: هل أمريكا والغرب وإسرائيل فوق القانون؟

هذا السؤال تردد كثيرا من قبل، ولكنه أصبح الآن أكثر إلحاحا، وعندما نطرحه فليس ذلك للبحث عن إجابة شافية، ولكن لإعادة التذكير بالمفاهيم والاقتناعات التي تنطلق منها السياسات الأمريكية والغربية والإسرائيلية، حيث ترى النخب الحاكمة أمريكا وحلفاءها الغربيين والإسرائيليين فوق كل قانون، والواقع يؤكد ذلك ولا يشكك فيه.

في حديثه على قناة “سي إن إن”، ذكر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أن بعض القادة المنتخبين -في إشارة إلى القادة الغربيين- اتصلوا به وأخبروه “أن هذه المحكمة بُنيت لأجل إفريقيا، ولأمثال بوتين”؟!

“سيادتنا لا تخضع للقانون الدولي”، هذا ما قاله مايك جونسون.

“الاضطهاد لا يُحاكم بشأنه الإسرائيليون”، هذا ما صرح به السيناتور ليندسي غراهام.

إن مساعي خان لإصدار أوامر لإلقاء القبض على مسؤولين إسرائيليين كبار “مخزية”، هذا ما صرح به علنا الرئيس الأميركي جو بايدن.


أمريكا فوق كل قانون؟!
في عام 2002، وبعد عام واحد من غزو أفغانستان، أصدرت أمريكا قانون حماية أعضاء الخدمة العسكرية وغيرهم من المسؤولين المنتخبين والمعينين من حكومة الولايات المتحدة، من الملاحقة الجنائية.

في هذا القانون بلغ الاستعلاء الأمريكي مستوى غير مسبوق، إلى الحد الذي منح فيه القانون الرئيس الأمريكي سلطة استخدام كافة الوسائل اللازمة والمناسبة لإطلاق سراح الأمريكيين أو أحد الأشخاص المحتجزين بناء على طلب المحكمة الجنائية.

إضافة إلى ذلك فقد أعطى القانون الرئيس سلطة اتخاذ الإجراءات العسكرية، مثل غزو هولندا حيث مقر المحكمة الجنائية الدولية، لمنع الملاحقة القضائية بحق المسؤولين والعسكريين الأمريكيين، وبالطبع يشمل ذلك حلفاء أمريكا وعلى رأسهم إسرائيل؟!

والحقيقة أن هذه الرؤية الاستعلائية التي ترى أمريكا فوق كل قانون، تقوض النظام الدولي، الذي توافقت على قواعده ضمنيا دول العالم المنتظمة تحت الأمم المتحدة.

خلاصة القول، أن النخبة الأمريكية الحاكمة لا ترى أمريكا وحلفاءها الغربيين والإسرائيليين فوق كل قانون عادل فحسب، ولكنهم يؤكدون للعالم أنهم على استعداد لتدمير القانون، والإطاحة بالعدالة، حيث يرون العالم أجمع عمقا استراتيجيا لأمريكا.

إن “الظلم القائم على القواعد” هو “النظام العالمي القائم على القواعد” الذي تحرص أمريكا والغرب على الحفاظ عليه، وهو ما يستوجب الوقوف في وجه هذا النظام.

ولا شك أن ما يحدث من تفاعلات دولية يؤكد أن هناك لحظة انهيار قادمة لهذا النظام القائم على القواعد وفقا للرؤية الأمريكية الغربية، حيث يجب أن يأخذ القانون الدولي مجراه الصحيح، لينتهي هذا الظلم القائم على القواعد.

محمد الشبراوى حسن