ممدوح الولي

كاتب وخبير اقتصادي - نقيب الصحفيين سابقًا

 

في مؤتمر عُقد بمعهد التخطيط القومي قبل سنوات تحدث عدد من المشاركين، حول زيادة استهلاك المصريين من القمح إلى معدلات مرتفعة قياسًا بدول عديدة، ليرد عليهم أستاذ اقتصاد من الجيل القديم: قبل أن تلوموا المواطن على كثرة استهلاكه للقمح، قارنوا بين مكونات إفطار الشخص في أي بلد أوروبي وبين مكونات إفطار المصري.

ستجدون على مائدة الأوروبي عبوة من الزبدة أو المربى وبيضًا وكوبًا من العصير وربما قطعة لحم، وبالتالي فإن حاجته إلى الخبز ستكون قليلة، أما المصري فليس باستطاعته شراء تلك السلع وبالتالي يتركز إفطاره على الخبز والفول أو الطعمية، وبعد ارتفاع أسعار الفول والطعمية فإنه سيعوض ذلك بالمزيد من الخبز حتى يسد جوعه.

ويرتبط بذلك تسمية الخبز لدى المصريين بالعيش أي أنه سبب رئيسي في الحياة حيث يتكرر استخدامه في الوجبات الثلاث؛ ولهذا حرصت الحكومات المتعاقبة على دعم رغيف الخبز للحفاظ على الحالة الغذائية لعموم المصريين، حتى يستطيع التلاميذ استيعاب دروسهم وحتى يستطيع العامل والمزارع ممارسة عمله، حيث يحتوي الخبز على مواد نشوية وبروتينية ومعدنية، منها الحديد والزنك والكالسيوم والفوسفور.

ومع وجود بعثة صندوق النقد الدولي حاليًا بمصر لمراجعة برنامج الصندوق مع مصر لمنحها قسطًا جديدًا من القرض بقيمة 820 مليون دولار، مهّدت الحكومة قبل أيام لذلك برفع سعر الخبز وسعر المشتقات البترولية وسعر الكهرباء، وبنيتها التحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي وكلها مطالب مُعلنة من قبل الصندوق، لكن كالعادة شاب حديث الحكومة للجمهور لإقناعه برفع الأسعار، العديد من المغالطات، وسنركز هنا على رفع سعر الخبز فقط، حيث قال رئيس الوزراء في تبريره لرفع سعر الرغيف البلدي المدعم من خمسة قروش إلى 20 قرشا إن سعر الخبز البلدي ظل أكثر من ثلاثين عاما بلا تغير.

وباستعراض تطور مسيرة سعر الخبز البلدي نجد أن سعره كان خمسة مليمات (القرش يساوي عشر مليمات) في عام 1961، وزاد إلى عشر مليمات فأصبح قرشًا واحدًا عام 1980، ثم إلى قرشين عام 1984 ثم خمسة قروش عام 1988، وهو التاريخ الذي يقصده رئيس الوزراء بثبات السعر منذ ذلك الحين، لكنه ينسى أنه تم في عهد النظام الحالي خفض وزن الرغيف البلدي من 130 جراما إلى 120 جراما عام 2014، ثم خفضه إلى 110 جرامات عام 2016، ثم تم خفض الوزن مرة ثالثة عام 2020 إلى 90 جراما.

وفى عام 2022 تم تعديل نوعية الدقيق المستخدم من دقيق استخراج 82% إلى دقيق استخراج 87.5%، ذي مكون الردة الأكثر والأقل تكلفة من نوعية الدقيق السابق استخدامه، وبالتالي فإن تكلفة الرغيف الحقيقية على الدولة تناقصت عدة مرات منذ عام 2014، وهو ما يعني أن السعر الحقيقي لم يكن ثابتًا.

وهنا نشير إلى أن مواصفات الرغيف المنتج قد تراجعت أيضًا حيث كان الرغيف البلدي عام 1945 وزنه بالدرهم المستخدم حينذاك، الذي يتراوح بين 165 و206 جرامات حاليًا مع تخصيص الوزن الأعلى بمحافظات الصعيد خاصة أسيوط والمنيا والفيوم لمعالجة معدلات نقص التغذية بها، مع إلزام المخابز بوجود ميزان بكل منها حينذاك ومن لا يوجد لديه ميزان يمكن أن تصل عقوبته إلى أسبوع من الحبس، كما كان قُطر الرغيف في عام 1954 كان بين 18 و19 سنتيمترًا.

ونعود إلى السبب الرئيس لرفع سعر الرغيف حسب الحكومة وهو كبر قيمة الدعم، ورغم التصريح قبل أيام بأن رغيف الخبز المدعم يكلف البلاد 130 مليار جنيه، فقد أشار البيان المالي لموازنة العام المالي الجديد الذي سيبدأ أول يوليو إلى أن قيمة دعم الخبز تصل إلى أقل من 91 مليار جنيه، كما تم التصريح بأن الخبز يحتاج إلى ما بين 11 و12 مليون طن قمح بينما ذكرت بيانات المالية أنها 7.7 ملايين طن، والأهم من كل ذلك أن قيمة الدعم الغذائي شاملًا رغيف الخبز ودعم البطاقات التموينية معًا يبلغ بالموازنة الجديدة 134 مليار جنيه، وهو ما يمثل نسبة 2.4% من مجمل الإنفاق بالموازنة الجديدة البالغ 5.5 تريليونات جنيه.

وهنا يبدو سؤال أهم للحكومة ولصندوق النقد الدولي، في ظل الدور الغذائي والصحي الذي يحققه الدعم الغذائي لعموم المصريين خاصة الفقراء منهم الذين لم تعلَن نسبتهم الحقيقية من السكان، حيث حصلت فوائد الدين الحكومي من الإنفاق على تريليون و835 مليار جنيه، كما حصلت أقساط الدين الحكومي على تريليون و606 مليارات جنيه، بإجمالي 3.441 تريليونات جنيه تمثل نسبة 62% من الإنفاق، فلماذا لم تتجه جهود الحكومة والصندوق إلى خفض مخصصات الدين الحكومي الضخمة التي لا يستفيد منها أحد، بدل أن تتجه إلى لتقليص الدعم الذي يسهم في تحقيق السلام والاستقرار الاجتماعي ويقلل من الجرائم؟

وبحسبة بسيطة نجد أن الأسرة المكونة من خمسة أفراد التي كانت تدفع 37.5 جنيهًا شهريًا للحصول على الخبز المدعم، فإنها ستتكلف 150 جنيها شهريا حسب الأسعار الجديدة، وهو ما يعني اقتطاع جزء كبير من دخل الأسرة في ضوء بلوغ أعلى قيمة شهرية لمعاش الضمان الاجتماعي 745 جنيهًا بعد كل الزيادات، ولمعاش تكافل 736 جنيهًا للأسرة، و708 جنيهات لمعاش كرامة، فكيف يدبر هؤلاء تكاليف باقي أصناف الطعام إلى جانب الخبز؟

وبالإشارة إلى كون تكلفة القمح هي المسؤولة الأساسية عن رفع أسعار الخبز، تشير بيانات جهاز الإحصاء إلى بلوغ الإنتاج المحلي من القمح 9.623 ملايين طن عام 2022 واستيراد 9.167 ملايين طن خلال العام، لتصل نسبة الاكتفاء الذاتي إلى 50.6%، بينما كانت نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح 55.7% عام 2012 و56.7 % عام 2013، رغم ما يسمعه الجمهور عن مشروعات زراعية واستصلاح أراض وافتتاحات لزراعات للقمح، حيث تشير بيانات جهاز الإحصاء إلى أن كمية إنتاج القمح المحلي قد زادت من 9.460 ملايين طن عام 2013 إلى 9.623 ملايين طن عام 2022 بزيادة 163 ألف طن خلال تسع سنوات.

والنتيجة تراجع كمية استهلاك المواطن المصري من القمح من 155 كيلوجراما للفرد عام 2018 إلى أقل من 138 كيلوجراما عام 2022، ليصل النصيب اليومي للمواطن عام 2022 إلى 384 جراما توفر له 1342 سعرًا حراريًا و45 جرام بروتين و5 جرامات دهون، وهو ما يشير إلى الأهمية الكبيرة للخبز في سدّ الجوع في ضوء ارتفاع أسعار جميع السلع الغذائية بلا استثناء.

خاصة أنهم مقبلون على زيادة جديدة لأسعار الدواء والكهرباء والمشتقات بما يتبعها من ارتفاع لأسعار المواصلات، وكذلك زيادات متوقعة لأسعار سلع البطاقات التموينية بما يقلل من الكميات الممكن الشراء بها، في ضوء ثبات قيمة دعم البطاقات بداية من يوليو 2017 البالغة خمسين جنيهًا حتى أربعة أفراد للأسرة، وحتى الآن، مع رفع أسعار السلع عدة مرات وعدم قيد أي مواليد جدد بالبطاقات منذ سنوات عديدة.

الأمر الذي زاد من ظاهرة الزحام بالشوارع الخلفية والجانبية لمحلات الخضراوات، وهي الأماكن التي يتم بها بيع أصناف الدرجة الثانية والثالثة من الخضراوات، وكذلك ظاهرة جمع بواقي الطعام من صناديق القمامة المجاورة للمطاعم الشعبية، وإعلان إحدى الجمعيات الأهلية أن صناديق القمامة قلت بها بواقي الطعام بشكل ملحوظ، وهو ما ينفي كلام وزير التموين عن الهدر في استهلاك الخبز المدعم، لأن الحصة المقررة للفرد لا تكفيه في ضوء خفض وزنها مقارنة باحتياجاته الغذائية وارتفاع ثمن البدائل.