يقارب فيلم "ألفا"، وهو من إنتاج 2018، موضوعة العلاقة بين الكائن البشري والحيوان في العصر الجليدي (قبل نحو عشرين ألف سنة، بحسب أحداث الفيلم). يصطحب "تاو" زعيم القبيلة نجله الأكبر "كيدا" في مغامرته الكبرى للتأهّل للزعامة، فعليه أن يتعلّم فنون الصيد الوعرة، أو القتل بلغة أخرى، ليغادر طفولته. وهكذا، يُهيّأ المسرح، في فيلم يتميّز بمشهدياتٍ بديعة، لأول عملية اختبار للفتى، بأن يحاصر زعيمُ القبيلةِ ورجالُه قطيعاً من الثيران البرّية بالرِمَاح، فلا يتبقّى أمامها سوى الاندفاع إلى الخلف لتسقط من الجبل نحو هوّة سحيقة، ومن ينجُ منها يقعْ في قبضة الصيّادين.

في المشهد الأول من الفيلم، الخرافي، المكتنز بالدلالات، نرى الثيران تسقط تباعاً من فوق حافّة الجبل، باستثناء واحد يندفع نحو الصيّادين، وتحديداً نحو نجل زعيم القبيلة، الذي يحثّه والدُه على الهجوم والإجهاز على أولى فرائسه. يبدو الثور غاضباً بتصميم لا يعرف الوهن على الانتقام لمقتلة أبناء جنسه، مندفعاً بغريزة عمياء بالغة القوّة والعنف نحو هدفه؛ وهو قتل نجل زعيم القبيلة، الذي يبدو رقيقَ الملامح ومُتردّداً، وينتهي الأمر بالثور الهائج إلى اصطياد الفتى وحمْله بين قرنيه، ثمّ الاندفاع به نحو حافّة الجبل ورميه من هناك، في انتقام بدائي يجعل المشاهد يتفهّم، بل يتعاطف مع غضب الثور البرّي، ويُشفق في الوقت نفسه على الفتى صغير السنّ.

وعلى قِصَر المشهد، فإنّ أثره لا يزول سريعاً، إذ إنّه يقترح عليك الغضبَ باعتباره حقّاً، فمن حقّ الكائن أن يغضب، وأن يكون غضبُه أعمى، عندما يتعرّض رفاقُه أو قبيلته أو شعبه للإبادة، إذ ذاك، ليس ثمّة سوى الغضب ما يحفظ الكائن من الجنون أو الخنوع.

حسناً، أنتَ على الجانب المصري من معبر رفح، على برج مراقبة لتأمين الحدود مع الجانب الفلسطيني. ترى بعينيك، قبل يوم واحد فقط، ألسنة النار تتعالى بالقرب منك، تشمّ رائحة الحرائق التي تنبعث من مُخيّمٍ للنازحين في رفح الفلسطينية، التي لا تبعد سوى أمتار قليلة منك، وتعرف من الإذاعة، إذا توفّرت، أو من زملائك المُجنّدين، أنّ إسرائيل قصفت خيام النازحين هناك بثمانية صواريخ محمّلة بقنابل تزن الواحدة منها ألفي رطل، وأنّ القصف لم يقتل العشرات وحسب، بل حرقهم أيضاً، وحوّل أجسادهم إلى رمادٍ بالمعنى الحرفي لا المجازي.

أنت لست الثور الهائج في فيلم "ألفا"، الذي لم تشاهده على الأغلب، بل مُجرّد مُجنّد شاب في الثانية والعشرين من عمرك، لكنّك تتمتّع مثله بالحقّ في الغضب، في تنحية تعليمات الجيش وعقوباته جانباً، وأنتَ تعلم أنّها قاسية، وتنظر إليك باعتبارك مُجرّد عنصر، والجيش لا يحبّ لعناصره أن يغضبوا فيبادروا إلى أيّ تصرّفٍ مُنفردٍ قد يجرّه إلى ما لا يرغب، وهو الحرب التي تُفرَض عليه، لكنّه لا يريدها الآن. هل يريدها غداً؟ (!)


في اليوم التالي، تكون أنتَ في برج المراقبة. ترى، بحسب مصدرَين أمنيَين نقلت روايتهما وكالة رويترز، مُدرّعةً إسرائيليةً تخترق النقطة الفاصلة على الحدود، وهي تلاحق فلسطينيين وتطلق عليهم الرصاص، فماذا تفعل أيّها العنصر؟ لا وقت لديك للتفكير وتذكّر التعليمات أو قواعد الاشتباك، فثمّة خرقٌ لسيادة بلادك يجري أمام عينيك، أنتَ الذي كبُرتَ على الأغاني التي تُمجّد مصر وترابها وسماءها، وترفع شهداءها إلى علّيين. لا وقت لديك للتفكير، فالحقّ في الغضب يتقدّم سواه، فهي أرضك ما تُنتهك، وأشقاؤك من يُلاحقون ويُقتلون، فماذا تفعل أيها العنصر؟ تتذكّر أنّك جندي، ومهمّة الجندي أن يدافع عن بلاده، وأن يَقتل أو يُقتل من أجلها، فتفعل. تطلق الرصاص عملاً بحقّك في أن تغضب لنفسك ولبلادك ولأشقائك.

دعك من السياسة، من لعبة الأمم، من كتيبة الجمْبري وفدادين البطاطا والخضروات، التي يشرف عليها جيش بلادك. دعك من توازن القوى، من العقوبات والأوامر. دعك من كلّ شيء، وانظر، وحسب، إلى البزّة التي ترتديها، وذلك الشرف الذي تُضفيه على من يرتديها وهو يتجوّل في القرى والنجوع، وهو يصافح رفاقه القدامى في الثانوية، واصغِ، وحسب، إلى صوت البركان الذي يغلي في عروقك، وإلى حقّك في أن تغضب، لتعرف أنّك لم تخطئ أبداً أيها الجندي برتبة جنرال؛ عبد الله رمضان.

المصدر / العربي الجديد