تميّز العرب عن غيرهم من الشُّعوب بخُلُق الشهامة قأقرَّهم عليه الإسلامُ، وحثَّ عليه المسلمين، وجعَله من واجباتهم وأولوياتهم الأخلاقيَّة، وهو يظهر في العديد من المجالات، أبرزها الدفاع عن الحق والعدالة، ونصرة المظلومين، ومساعدة المحتاجين، ونشر القيم الأخلاقية الرفيعة، مثل الكرم والعطاء، والصدق والأمانة. 

وهذا الخُلُق من صفات الرّجال العظماء، وهو يشيع المحبة في النفوس، ويزيل العداوة بين الناس، ويحفظ الأعراض، وينشر الأمن في المجتمع، وعلامة على علو الهمة، وشرف النفس، لذا شدد الإسلام على أهميته والالتزام به. 

مفهوم الشهامة الإسلام 
وتُعرف الشهامة في اللغة بأنها مَصدَرُ شَهُمَ، وهذه المادَّةُ تَدُلُّ على الذَّكاءِ، والشَّهمُ: الذَّكيُّ الفؤادِ المتوقِّدُ، الجَلْدُ، والجَمعُ شِهامٌ، وقد شَهُم الرَّجُلُ، بالضَّمِّ، شهامةً وشُهومةً: إذا كان ذَكيًّا، فهو شَهْمٌ، أي: جَلْدٌ. وقيل: الشَّهمُ معناه في كلامِ العَرَبِ: الحَمولُ، الجَيِّدُ القيامِ بما يحمِلُ، الذي لا تلقاه إلَّا حَمولًا، طيِّبَ النَّفسِ بما حُمِّل. 

وفي الاصطلاح، قال ابنُ مِسكَوَيهِ: إنها الحِرصُ على الأعمالِ العِظامِ توَقُّعًا للأُحدوثةِ الجميلةِ. أو هي: الحِرصُ على الأمورِ العِظامِ؛ توقُّعًا للذِّكرِ الجميلِ عندَ الحَقِّ والخَلقِ. وقيل: هي عزَّةُ النَّفسِ وحِرصُها على مباشَرةِ أمورٍ عَظيمةٍ، تستَتبِعُ الذِّكرَ الجميلَ. 

الشهامة في القرآن والسنة 
وأشار القرآن الكريم إلى خلق الشهامة في قصة نبيُّ الله موسى- عليه السلام- حين فرَّ هاربًا من بطش فرعون، وقد أصابه الإعياءُ والتعب، فلما وَرَدَ ماءَ مَدْينَ ووجد الناس يسقُون، وجد امرأتينِ قد تنحيتَا جانبًا تنتظرانِ أن يفرغ الرجال حتى تسقيَا، فلما عرَف حاجتهما لم ينتظر منهما طلبًا، بل تقدَّم بنفسه وسقى لهما. 

قال الله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 23، 24]. 

وكان يوسف- عليه السَّلامُ- شهمًا على الرغم من وجوده في السجن، حيث أوَّل رؤيا المَلِكِ التي حار في تأويلِها المتأوِّلون، أوَّلها يوسُفُ- عليه السَّلامُ- دونَ مُساومةٍ على حرِّيَّتِه، وبلا أجرٍ، وهو المسجونُ ظُلمًا، وكان لتأويلِه أثرٌ في نجاةِ العبادِ والبلادِ. 

قال تعالى: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف: 46 – 49]. 

وحثّ النبي- صلى الله عليه وسلم- على خلق المروءة والشّهامة، فعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسّر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” (البخاري). 

وعن أنس- رضي الله عنه- قال: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وأَجْوَدَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، قالَ: وقدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا، قالَ: فَتَلَقَّاهُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقالَ: لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وجَدْتُهُ بَحْرًا يَعْنِي الفَرَسَ” (البخاري ومسلم). 

والمعنى، أن أهل المدينة فزعوا لَيلةً لَمَّا سَمِعوا صَوتًا قَويًّا، فخَرَجوا مُتوَجِّهينَ ناحيةَ هذا الصَّوتِ، فتَلَّقاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ راجِعًا وقدِ استَكشَفَ الخَبَرَ وعَرَفَ حَقيقَتَه، وكان راكبًا على فَرَسٍ لِأبي طَلْحةَ بغَيرِ سَرْجٍ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتقَلِّدًا سَيفَه، ومُعَلِّقَه في عُنُقِه، فقال -مُهَدِّئًا مِن رَوْعِهم وخَوفِهم-: «لم تُراعوا، لم تُراعوا»، فلا تَخافوا خَوفًا مُستَقِرًّا، أو خَوفًا يَضُرُّكم، ثمَّ قال لهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -مُخبِرًا عنِ الفَرَسِ-: «وَجَدتُه بَحرًا»، فشَبَّهَ
الفَرَسَ بالبَحرِ؛ لِسَعةِ جَرْيِه مع انسيابِه وخِفَّتِه مِثلَ البَحرِ.

قال القرطبي: “في هذا الحديث ما يدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان قد جمع له من جودة ركوب الخيل، والشَّجَاعَة، والشَّهَامَة، والانتهاض الغائي في الحروب، والفروسية وأهوالها، ما لم يكن عند أحد من الناس”. 

ومن الشّهامة نجدة المسلم لأخيه: قال: “المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولَا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حَاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حَاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُبَاتِ يَومِ القِيَامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ”. 

وضرب صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في الشّهامة والمروءة، – فعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ- رَضِيَ اللهُ عنه- قال: “إنِّي لفي الصَّفِّ يومَ بَدرٍ، إذ التفَتُّ فإذا عن يميني وعن يساري فَتَيانِ حديثا السِّنِّ، فكأنِّي لم آمَنْ بمكانِهما، إذ قال لي أحَدُهما سِرًّا من صاحِبِه: يا عمِّ أرِني أبا جهلٍ. فقُلتُ: يا ابنَ أخي، وما تصنَعُ به؟ قال: عاهَدْتُ اللهَ إنْ رأيتُه أن أقتُلَه أو أموتَ دونَه. فقال لي الآخَرُ سِرًّا من صاحِبِه مِثلَه، فما سَرَّني أني بَينَ رجُلينِ مكانَهما، فأشَرْتُ لهما إليه، فشَدَّا عليه مِثلَ الصَّقرينِ حتَّى ضَرَباه، وهما ابنا عَفراءَ” (البخاري). 

وعن أسلَمَ مولى عُمَرَ قال: “خرَجْتُ مع عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عنه- إلى السُّوقِ، فلَحِقَت عمَرَ امرأةٌ شابَّةٌ، فقالت: يا أميرَ المؤمنين، هلك زوجي وترَك صِبيةً صِغارًا، واللهِ ما يُنضِجون كُراعًا ، ولا لهم زَرعٌ ولا ضرعٌ، وخَشِيتُ أن تأكُلَهم الضَّبُعُ، وأنا بنتُ خُفافِ بنِ إيماءَ الغِفاريِّ.

وقد شَهِد أبي الحُدَيبيةَ مع النَّبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فوقف معها عُمَرُ ولم يَمضِ، ثمَّ قال: مرحبًا بنَسَبٍ قريبٍ، ثمَّ انصرف إلى بعيرٍ ظهيرٍ كان مربوطًا في الدَّارِ، فحمل عليه غِرارتينِ ملأهما طعامًا، وحمل بينهما نفقةً وثيابًا، ثَّم ناولها بخِطامِه، ثمَّ قال: اقتاديه، فلن يفنى حتى يأتيَكم اللهُ بخيرٍ، فقال رجلٌ: يا أميرَ المؤمنين، أكثَرْتَ لها! قال عُمَرُ: ثَكِلَتْك أمُّك! واللهِ إني لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حِصنًا زمانًا فافتَتَحاه، ثمَّ أصبَحْنا نستفيءُ سُهْمانَهما فيه” (البخاري). 

وسار التابعون على الدرب نفسه، فها هو أبي عبدِ الرَّحمنِ النَّسائيِّ صاحِبِ السُّنَنِ تظهر شهامته في فداءِ المُسلِمين، قال أبو الحُسَينِ محمَّدُ بنُ مُظفَّرٍ الحافِظُ: “سمعتُ مشايخَنا بمِصرَ يعترِفون لأبي عبدِ الرَّحمنِ النَّسائيِّ بالتَّقدُّمِ والإمامةِ، ويَصِفون من اجتهادِه في العبادةِ باللَّيلِ والنَّهارِ ولمواظبتِه على الحَجِّ والجهادِ، وأنَّه خرج إلى الفداءِ مع والي مِصرَ، فوُصِف من شهامتِه وإقامتِه السُّنَنَ المأثورةَ في فداءِ المُسلِمين واحترازِه عن مجالسةِ السُّلطانِ الذي خرج معه والانبساطِ بالمأكولِ والمشروبِ في رحلتِه، وأنَّه لم يَزَلْ ذلك دأبَه إلى أن استُشهِدَ رَضِيَ اللهُ عنه بدِمَشقَ من جهةِ الخوارجِ”. 

وابنُ تيميَّةَ يحرِصُ على فَكاكِ الأسرى من غيرِ المُسلِمين من أيدي التَّتَرِ: قال ابنُ تيميَّةَ: “وقد عرف النَّصارى كُلُّهم أنِّي لمَّا خاطَبْتُ التَّتارَ في إطلاقِ الأسرى وأطلقَهم غازان وقطلو شاه، وخاطَبْتُ مولاي فيهم فسَمَح بإطلاقِ المُسلِمين. قال لي: لكِنَّ معنا نصارى أخَذْناهم من القُدسِ، فهؤلاء لا يُطلَقون. فقُلتُ له: بل جميعُ من معك من اليهودِ والنَّصارى الذين هم أهلُ ذِمَّتِنا؛ فإنَّا نفتَكُّهم ولا نَدَعُ أسيرًا لا من أهلِ المِلَّةِ ولا من أهلِ الذِّمَّةِ. وأطلَقْنا من النَّصارى من شاء اللهُ. فهذا عمَلُنا وإحسانُنا، والجزاءُ على اللهِ”. 

وسائل عملية للتربية 

ويمكن تربية الأبناء على الشهامة والمروءة من خلال الالتزام بتطبيق بعض الوسائل التربوية العملية، ومنها:

وصف الأطفال بصفة الشّهامة: وهو ما يُنمي لديهم الإحساس بالمسؤولية، وحب القيام بأفعال هذا الخُلُق الجميل. 

البدء في الصغر: لأن السّنوات الأولى من عمر الطفل هي الأكثر أهمية في تكوين شخصيته، لذا من الضروري غرس صفة الشّهامة في الأبناء في هذا السن. 

القدوة الطيبة: فالطفل يتعلم من خلال التقليد، لذلك من المهم أن يكون الآباء قدوة حسنة لأبنائهم في الكرم والشجاعة والعدل والإيثار والشهامة. 

الثناء والمكافأة: حينما يتصرف الأبناء بشهامة، لا بد من شكرهم ومكافأتهم، حتى يحبون هذا الخلق ويتشبثون به طوال حياتهم. 

الحديث عن الشّهامة: فمن المهم أن يتحدث الآباء مع أبنائهم عن أهمية الشّهامة، ويقصون عليهم القصص والحكايات التي تجسد هذا الخُلُق.
المشاركة في الأعمال الخيرية: من الممكن أن يشارك الآباء أبنائهم في الأعمال الخيرية، مثل مساعدة الفقراء والمحتاجين، ورعاية المرضى، وغير ذلك من أعمال تدل على المروءة والشهامة. 

دفع الأبناء على التفكير في الآخرين: يُمكن للآباء طرح أسئلة على أبنائهم بخصوص إمكانية مساعدة الآخرين. 

تربية الأطفال على الدفاع عن الحق والعدالة: ويكون ذلك في المواقف المختلفة حتى لو كان ذلك ضد مصلحتهم الشخصية. 

تدريب الأطفال على التضحية: سواء كانت التضحية بوقت أو مال أو جهد. 

الشهامةُ كرمٌ وإيثار وتربية، وحبَّ المساعدة، وصدق وشفافية، ووضوح ورجولة، ووفاء ومصارحة، وتقديم الخير، وكل قيمة نبيلة، وهي من صالح الأخلاق التي بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- ليتممها، وهي عزة النفس وحرصها على مباشرة الأمور العظيمة، وعلامة فارقة على علو الهمة وشرف النفس.