ظلَّ الريف السوداني يكافح تغييرات المناخ وتأثيراته على الزراعة والرعي لعقود طويلة، وهما الدعامة الأساسية للاقتصاد الوطني حيث يعمل فيهما 80% من القوى العاملة، لكن النزاع القائم بين الجيش وقوات الدعم السريع قد يشكّل قاصمة الظهر للمناطق الريفية، خاصةً أن سكانها يعتمدون في سبل عيشهم على زراعة المحاصيل، مثل الذرة الرفيعة والدخن والقمح والسمسم والفول السوداني والكركديه، إضافة إلى تربية ورعاية الإبل والأبقار والماشية والماعز والدواجن.

قدّر تقرير البيئة والتوقعات البيئية، الذي أعدّته حكومة الانتقال بدعم من شركائها الدوليين ونُشر في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، سكان المناطق الريفية بـ 64% من مجموع سكان السودان، وهذا رقم كبير مقارنة بتدفقات المهاجرين الهائلة نحو المناطق الحضرية بسبب الجفاف والنزاعات.

وإذا كانت النزاعات السابقة في إقليم دارفور ومناطق من النيل الأزرق وجنوب دارفور تدفع السكان إلى الفرار من العنف نحو المناطق الحضرية، فإن النزاع القائم أجبر ملايين الأشخاص على النزوح إلى الريف، وهذا يعني أن عدد سكان الريف حاليًّا يفوق تقديرات حكومة الانتقال عام 2020.


لمحة عامة عن آثار النزاع
دمّر النزاع القاعدة الصناعية وتسبّب في انهيار الأنشطة الاقتصادية، بما في ذلك الخدمات التجارية والمالية والاتصالات، لكن هذا لا يساوي شيئًا أمام تعطُّل أنشطة الزراعة والرعي في الريف، ليس لأنه يقود إلى المجاعة الشديدة بقدر ما أنه سيُضعف التماسك الاجتماعي وربما يتلاشى.

تقول دراسة أعدّها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، نُشرت في 11 أبريل/ نيسان الجاري، عن سبل العيش في السودان وسط النزاع المسلح، إن نصف الأسر الريفية تعطّل عملها الزراعي، وترتفع هذه النسبة إلى 63% في سنار وغرب كردفان، وإلى 68% في ولاية الخرطوم.

وتشير إلى أن النزاع أدّى إلى اضطرابات شديدة في التوظيف وسبل العيش، قاد إلى عدم استقرار اقتصادي واسع النطاق، حيث شهدت 36.9% من الأسر الريفية تحولًا في الأنشطة المدرّة للدخل مع انتقال 15% منها من العمل إلى انعدام العمل.

تؤكد الدراسة أيضًا أن الأسر الريفية التي تعاني من انخفاض الدخل، وتلك التي تواجه صدمات مثل المرض أو الوفاة أو الأحداث المناخية، معرّضة بشكل خاص لانعدام الأمن الغذائي المرتفع، ويزداد الوضع حرجًا للغاية بالنسبة إلى الأسر التي فقدت دخلها تمامًا، إذ أفادت بأن 59% من الأسر الريفية تواجه انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد، حيث يوجد أعلى معدل انتشار في ولايات النيل الأزرق وغرب كردفان وجنوب كردفان.

ويحتاج 25 مليون سوداني من مجموع السكان البالغ عددهم 49 مليون نسمة تقريبًا إلى مساعدات إنسانية جرّاء النزاع المتطاول، منهم 18 مليون شخص يعانون من الجوع الشديد، ومن بين هؤلاء هناك قرابة 5 ملايين فرد على بُعد خطوة واحدة من المجاعة، وفقًا لتقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

تعطُّل الزراعة
تقول الدراسة التي أعدّها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، إن 25% من الأسر الريفية أفادت بعدم تمكُّنها من زيارة الأسواق بسبب الحواجز المادية والقيود الاقتصادية وقضايا السلامة، حيث أبلغ 43% منهم عدم قدرتهم على إجراء عمليات شراء السلع الأساسية، وهنا يظهر تأثير الحرب، خاصة فيما يتعلق بتعطُّل الزراعة التي تستفيد منها ببيع فائض إنتاجها من المحاصيل لتغطية الاحتياجات الحياتية الأكثر إلحاحًا.

نشرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “الفاو” في 20 مارس/ آذار هذا العام، تقريرًا كشف عن أن إنتاج الحبوب خلال الموسم الزراعي الصيفي والشتوي 2023-2024 بلغ 4.1 ملايين طن، بانخفاض قدره 46% عن إنتاج العام السابق، فيما يحتاج السودان إلى ما بين 5.5 و6 ملايين طن من الحبوب لتغطية حاجته من الغذاء.


وأفادت بأن إنتاج الذرة الرفيعة عام 2023 يقدَّر بـ 3 ملايين طن، وهو أقل بنسبة 42% عن العام السابق، فيما بلغ إنتاج الدخن حوالي 683 طنًّا، وهو أقل بنسبة 64% عن إنتاج العام 2022، كما توقعت أن يصل إنتاج القمح الذي حُصد في مارس/ آذار وأبريل/ نيسان نحو 377 طنًّا، وهو أقل بنسبة 20% تقريبًا عن العام السابق.

كما أرجعت الفاو الانخفاض الكبير في إجمالي الحبوب عام 2023، بشكل أساسي، إلى تأثير النزاع المستمر على العمليات الزراعية من خلال انعدام الأمن، علاوة على محدودية توفر المدخلات الزراعية وارتفاع أسعارها.

ولا يملك السودان موارد كافية لتغطية عجز المحاصيل باستيرادها بعد انخفاض إيرادات الدولة إلى أكثر من 80%، وفقًا لوزير المالية جبريل إبراهيم، والذي قال إن أولويات موازنة هذا العام تتمثل في الوفاء بالتزامات المجهود الحربي وترتيب أوضاع النازحين والوضع الصحي.
نظرة عن قرب
رغم انشغال الجيش وقوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معهما بالمعارك، إلا أنهما يتسبّبا بصورة مباشرة في تعطُّل أنشطة الزراعة، حيث تؤدي غارات الطيران الحربي العشوائية التي يشنّها الجيش إلى نزوح الرعاة من البوادي خشية نفوق ماشيتهم وتدمير مصادر المياه.

أما قوات الدعم السريع نهبت الآليات الزراعية، خاصة في ولاية الجزيرة التي تضمّ أكبر مشروع زراعي مروي في أفريقيا، وتعدّ سلة غذاء السودان، علاوة على نهب ممتلكات المزارعين وإرهابهم ومنعهم من حصاد القمح والمحاصيل الشتوية.

واعتبرت لجان مقاومة الحصاحيصا، وهي تنظيمات شبابية مستقلة كانت تقود الاحتجاجات السلمية ضد الحكم العسكري، والآن تعمل على تقديم الخدمات ورصد الانتهاكات، هدف الدعم السريع بمنع أعمال الحصاد تجويع وإفقار المواطنين، وتهجيرهم قسرًا من مزارعهم وأراضيهم التي يقتاتون منها.


لا يستبعد قيام قوات الدعم السريع بنهب ماشية وأبقار السكان في قرى ومناطق كردفان الكبرى ودارفور التي تجتاحها، ما يجعل عدد هائل من المواطنين بلا موارد يمكن أن يعتاشون منها في ظل تعثُّر وصول إمدادات المساعدات الإنسانية، ما يعني في النهاية ترك عشرات الآلاف أمام مصير الموت جوعًا.

ويعتمد الرعاة ومربي الماشية في ولايات سنار والنيل الأبيض والجزيرة، على رعيها خلال موسم الأمطار الذي يبدأ بالهطول في يونيو/ حزيران في سهل البطانة الذي تنشط فيه قوات الدعم السريع، ما يشكّل خطرًا وجوديًّا على حياتها، ولا يمتلك الرعاة إزاء ذلك إلا المجازفة بالذهاب إلى سهل البطانة ليكونوا عرضة للدعم السريع، أو رعي ماشيتهم في الأراضي الزراعية، وهذا يجعل الصدام بين الطرفَين مرجّحًا، وربما يتطور إلى مسلح على غرار ما يحدث في دارفور في موسم هطول الأمطار وموسم حصاد المحاصيل.

كما يواجه الرعاة في ولاية جنوب كردفان خطر فقدان ماشيتهم بسبب الحرب، وتقاطع الصراعات القَبَلية التي أدّت إلى انحسار المراعي وتقييد حركة الرعاة، بحسب تقرير نشره موقع “دارفور 24“، أشار إلى أن النزاع حرم رعاة قبائل النوبة من التنقل شمالًا إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع، وبالمقابل لا يستطيع رعاة القبائل العربية التنقل نحو المراعي التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني أو الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو.

وتسيطر الحركة الشعبية على قطاع واسع من السلسلة الجبلية الممتدة من جنوب رشاد حتى غرب أبو جبيهة، ومن الفيض أم عبد الله والأزرق حتى كاودا، كذلك تسيطر على معظم القرى حول كلوقي، الأمر الذي أثّر على مجموعة كبيرة من الرعاة وحرمهم من الرعي في المناطق التي تمثل قطاعًا غابيًّا كبيرًا في المنطقة الشرقية لجنوب كردفان.


المصدر / نون بوست