يعاني عبد الفتاح السيسي، رئيس نظام أكبر دولة عربية سكانا، وصاحبة ثالث أكبر اقتصاد بإقليم الشرق الأوسط، والشريك الهام والرئيسي للإمارات والسعودية وإسرائيل وداعمي الأخيرة في أوروبا وأمريكا، من أزمات اقتصادية خطيرة قد تطيح بنظامه، ما يقلق داعميه الإقليميين والدوليين.
وإزاء أزمات ديون خارجية تعدت 165 مليار دولار حلت آجال أقساط كثير منها، مع تراجع دخل البلاد من إيرادات قناة السويس، ومن قطاع السياحة، وتحويلات المصريين بالخارج، بفعل أزمات الإقليم في غزة وجنوب البحر الأحمر؛ يعاني اقتصاد مصر أزمات أوصلت المصريين لحالة غير مسبوقة من الغضب، ما قد يهدد عرش السيسي، الرجل الهام لدى الخليج والغرب.
حالة الغضب تلك ووضع السيسي، الصعب عبر عنه الكاتب البريطاني ديفيد هيرست بقوله في 19 يناير الماضي، إن "قلوب السعوديين والمصريين والأردنيين والعراقيين تغلي غضبا"؛ بسبب ما يحدث في غزة من قتل وتجويع، مشيرا إلى أن درجة الغضب اليوم أعلى بكثير من أي وقت مضى، ما يعني أن "على الطغاة توخي الحذر فيما يتمنونه".
ومع تفاقم الأزمة المصرية وخلال الأيام الماضية، بدا أن هناك تحركا دوليا وإقليميا لدعم السيسي مجددا بعد دعم انقلابه منتصف العام 2013، بنحو 50 مليار دولار من السعودية والإمارات والكويت، وإنقاذه الآن من أية ثورة غضب أو انتفاضة جياع محتملة من قبل 106 ملايين مصري، وهو ما يبدو في التحركات التالية:
"الإمارات ورأس الحكمة"
ورغم إحجام دولة الإمارات وصناديقها السيادية وشركاتها العملاقة عن عقد صفقات استحواذ على أصول مصرية طوال العام الماضي، أعلن رئيس هيئة الاستثمار في مصر حسام هيبة، الأربعاء، أن تحالف "المجموعة الاستثمارية كونسورتيوم" الإماراتي سيقود تطوير مشروع مدينة رأس الحكمة السياحي "350 كيلومترا شمال غرب القاهرة"، بقيمة استثمارات تبلغ 22 مليار دولار.
وبحسب وكالة "رويترز"، فإن أبوظبي تشارك في المناقشات، وتحتفظ مصر بملكية 20 بالمئة من أراضي المنطقة البالغة "180 مليون متر مربع"، تسندها لمجموعة طلعت مصطفى، -شركة التطوير العقاري المحلية-، وبعض الهيئات الحكومية المصرية.
وأشارت وكالة "بلومبرغ"، إلى أهمية الصفقة في معالجة أسوأ أزمة صرف أجنبي منذ عقود، موضحة أن الصفقة تؤدي لتعميق علاقات مصر والإمارات الداعم الرئيسي للسيسي، اقتصاديا "في شكل استثمارات ومساعدات أخرى".
ولم تكشف الحكومة المصرية ولا الإماراتية عن تفاصيل الصفقة، فيما قال رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، الخميس، إن "حكومته فقط هي المنوط بها الإعلان عن تفاصيل المشروعات الاستثمارية الكبرى".
"عرض وطنية"
وبالرغم من أنه يجري الحديث عن بيع شركتي "وطنية" و"صافي" التابعتين لجهاز الخدمة الوطنية التابع للجيش المصري منذ العام 2018، وإعلان مصر في مارس الماضي طرح 32 شركة عامة بالبورصة وأمام مستثمرين استراتيجيين، تنفيذا لروشتة صندوق النقد الدولي، بينها شركتا الجيش، إلا أن العرض قابله إحجام سعودي إماراتي عن شراء الأصول المصرية، خلال العام الماضي.
لكن يبدو أن هذا الإحجام تحول مؤخرا إلى رغبة عارمة في الشراء، بحسب ما أعلنته وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد، الثلاثاء الماضي، عن تنفيذ بيع شركة "وطنية" للبترول خلال أيام.
وتتنافس 3 شركات إماراتية وواحدة سعودية هي: "طاقة عربية" و"أدنوك" و"إينوك" و"بترومين" على صفقة "وطنية" التي تمتلك 255 محطة تموين وقود، وتحت الإنشاء 20 أخرى ومخطط وصولها إلى 300 محطة، لكن لم تكشف أية جهة عن حجم وقيمة الصفقة.
وفي سياق استعادة الأصول المصرية المطروحة للبيع بريقها أمام المستثمرين العرب والخليجيين، أعلنت الوزيرة أن الحكومة ستنتهي من بيع محطات توليد الطاقة من الرياح في "جبل الزيت" قبل نهاية مارس المقبل، وهي المحطة التي جرى بناؤها منذ العام 2015، بقروض من بنوك ألمانية ويابانية وإسبانية.
"تقدم ممتاز"
وبعد غياب صندوق النقد الدولي عن 3 مراجعات لاقتصاد مصر العام الماضي لأجل تنفيذ قرض بـ3 مليارات دولار، تعثرت إجراءاته منذ توقيعه في ديسمبر 2022، حضرت بعثة الصندوق للقاهرة نهاية الشهر الماضي.
وأعلنت أنها حققت تقدما وصفته بـ"الممتاز"، وذلك في إطار زيادة القرض إلى ما بين 10 و12 مليار دولار، بمشاركة شريكين إقليميين هما السعودية والإمارات.
وقدمت السعودية والإمارات والكويت للسيسي، ما مجموعه 39.5 مليار دولار إما نقدا أو على شكل قروض أو مشتقات نفطية ما بين يوليو 2013 وفبراير 2014، في دعم وصل نحو 50 مليار دولار، وفق مقال للكاتب البريطاني ديفيد هيرست، الشهر الماضي، فيما دعمه الصندوق بنحو 12 مليار دولار عام 2016، وتمويل آخر في 2020، بنحو 5.2 مليارات دولار.
حضور الدعم الدولي، وعودة دول الخليج للاستثمار في مصر واستعادة الطروحات المصرية بريقها لدى الخليجيين، الذي يذكر بدعمهم السابق لنظام السيسي، يدفع للتساؤل، هل اجتمع شركاء السيسي على بث قبلة الحياة في نظامه، أم أنهم يستغلون الظرف للحصول على مكاسب وأصول وأراض وصفقات بثمن بخس وفرض لشروط جديدة ومجحفة تزيد من أزمات المصريين؟
"لن يتركوه يسقط"
وفي تقديره للموقف، قال الباحث في الاقتصاد السياسي والتنمية والعلاقات الدولية، الدكتور مصطفى يوسف: "منذ بداية الحرب على غزة تكشفت أهمية السيسي، لدى إسرائيل، وأمريكا، والخليج، خاصة السعودية والإمارات، ولذا فإنه من الطبيعي ألا يتركوه يسقط ولن يتوانوا في أن يعطوه قبلة الحياة، إلا لو هناك البديل، أو أثار هو أزمات معهم، وهو ما لم يحدث".
وعن تغير موقف صندوق النقد واقتراب تمريره تمويلا كبيرا لمصر، أشار مدير المركز الدولي للدراسات التنموية، إلى حديث وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، خلال لقائها وزير المالية محمد معيط، ومحافظ البنك المركزي حسن عبد الله، ووزيرة التعاون الدولي رانيا المشاط، 9 يناير الماضي بواشنطن.
وأوضح أن "المسؤولة الأمريكية قالت حينها: نحن ندعم السيسي وندعم نظامه، ومسؤولون عن أن يكون نظام السيسي جيدا"، ملمحا إلى أن "خبراء الصندوق قالوا: سنمرر القرض، وطالبوا برفع سعر الفائدة، وبيع شركات تابعة للجيش، وتوسيع مساحة القطاع الخاص".
وحول عودة الاستثمارات والاستحواذات الإماراتية مجددا، يرى الخبير الاقتصادي المصري أن "الإمارات تحرص على التعاون الوثيق والتنسيق الدائم مع مصر السيسي، كونهم شركاء الجمهورية الجديدة التي قامت مع 3 يونيو 2013، ومن أوائل داعمي النظام الحالي".
وأكد أن "لديها خطة استراتيجية بشراء أصول مصرية والسيطرة عليها في الوقت الذي تحظى فيه بشراكات هامة مع إسرائيل"، ملمحا لخطورة بعض الاستحواذات على الأمن القومي المصري، مثل "شراء معامل البرج والمختبر والسيطرة على 90 بالمئة من التحاليل والسجلات الطبية للمصريين".
وأشار إلى التوسع الكبير للإمارات في مصر عبر إدارة بعض الموانئ، وشراء شركات الأسمدة، وشركات التمويل مثل "فوري" وشركة "القلعة" من رجل الأعمال أحمد هيكل.
"تعويم مؤقت للنظام"
وأوضح أنه ومع ذلك، فإن قرض الصندوق والاستحواذات الجديدة لن تحل الأزمة المالية والاقتصادية، مبينا أن "القرض بحدود 10 أو 12 مليار دولار، وسيجري بيع أصول بنحو 5 أو 6 أو 7 مليارات دولار، ومهما أعطى الصندوق لمصر فلن يجدي لأن مستحقاته تصل 7 مليارات دولار، ولو أعطى مصر 3 أو 4 مليارات دولار سيعود ليأخذها بعد أشهر".
وخلص يوسف، للقول إن "اقتصاد مصر يعيش عثرة لن يقوم منها إلا بتغيير جذري، وإصلاح هيكلي، بأن يخرج الجيش تماما من الاقتصاد، وهو ما لن يقبل به السيسي، الذي بنى نظامه بأن يكون للجيش هذه الامبراطورية، وجعل من منتسبي الجيش، والداخلية، والقضاء، والإعلام، ورجال أعمال مثل صافي وهبة، وإبراهيم العرجاني، حزبا كوطني حسني مبارك".
ولفت إلى أن النظام الحالي، "ليس لديه مقومات الاقتصاد"، مشيرا إلى أن "دولة مبارك كانت تعج برجال أعمال مثل نجيب ساويرس، وأحمد عز، ورشيد محمد رشيد، وياسر الملواني، وغيرهم من شلة جمال مبارك، وجميعهم رجال اقتصاد تعلموا بالجامعة الأمريكية ومن عائلات ثرية كعائلة منصور وغبور، برغم الفساد والتناغم مع المصالح الأمريكية لكنهم بارعون اقتصاديا".
ويعتقد الخبير المصري، أيضا، أن "القروض والمنح التي ستأتي والمشتريات التي ستتم وبعض القروض الميسرة من البنك الدولي أو عودة الأموال الساخنة وظهور مقرضين بإيعاز من صندوق النقد وأمريكا وأوروبا والإمارات وإسرائيل، فجميعها يمكنها تعويم النظام مدة عام ونصف على الأكثر".
وأكد أن "بمصر أكثر من 110 ملايين نسمة واقتصادها لا يمكن لأحد بمفرده أن يتولاه، ولا بد أن يكون لدينا اقتصاد فيه مقومات يجتذب رؤوس الأموال، وقوانين وتشريعات، وتقليص مشروعات الجيش، ومنع الفساد، ووقف الدكتاتورية، وإنعاش ملف حقوق الإنسان والحريات والصحافة، وإنفاذ القانون، فنحن من أسوأ دول العالم بمؤشراتها، لذا لن يأتي مستثمر".
وفي نهاية حديثه، قال إنه في كل الأحوال "شراء بثمن بخس، وبشروط مجحفة، حتى تظل أمريكا وإسرائيل والإمارات والسعودية مهيمنة على صناعة القرار المصري، وتظل مصر رجل المنطقة المريض، بوضع ما بين الركوع والسجود لا يريدك بالوضع الأول كالصومال فتهدد أمن الخليج، ولا يريدك بوضع الركوع حتى لا تقوم وتصبح مثل تركيا أو ماليزيا، وتفلت منه".
وختم بالقول إن ما يعزز فرضية الشراء البخس هو "غياب أية معلومات موثقة عن الصفقات الجديدة، ولذا فإن صفقات رأس الحكمة وما سبقها من بيع لبنوك، وشركات أسمدة، وحتى مسألة توريق جزء من إيرادات قناة السويس، تحيطها التساؤلات والشبهات".
"على طريقة غورباتشوف"
من جانبه، قال الناشط السياسي الدكتور إبراهيم فهمي: "مصر بالعشر سنوات الأخيرة صاحبها تجفيف لمنابع السياسة، وقبضة أمنية فولاذية، وتولية محدودي الكفاءة ومنعدمي الخبرات للمناصب القيادية لدولة بحجم وأهمية مصر للإقليم وللقارة الإفريقية وللأمتين العربية والإسلامية".
وأوضح أنه "لا يمكننا تفسير الظروف الاقتصادية المتدهورة بتلك السنوات إلا بالقياس على نموذج ميخائيل غورباتشوف الذي وصل لحكم الاتحاد السوفيتي وقام بمهمة تفكيكه بطريقة ناعمة تحت شعار الإصلاح وإعادة البناء التي أدت لانهيار الدولة".
وأوضح أنه "تم تصعيد غورباتشوف بالتدريج لتولي أخطر مناصب الاتحاد السوفيتي خلال 15 عاما سبقت تفككه، وأبعد خلالها الكفاءات واتخذ قرارات أفقدت موسكو مكانتها بمحيطها الإقليمي، مع انتشار الفساد، وغياب الأولويات، ما أدى لتفكك المؤسسات، وإفقار الشعب حتى اضطر أبناء الدولة العميقة للعمل كسائقي أجرة ليلا، كما حكى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
ويرى فهمي، أن "مصر بمفترق طرق لم تصل إليه بتاريخها الحديث، حيث الدخل الشهري لأسرة متوسطة لا يكفي أساسيات الحياة بعد استبعاد نحو نصف السلع الأساسية التي أصبحت من المحرمات، ولك أن تتوقع حال نصف القوى العاملة التي تعاني من بطالة طويلة الأجل، وليس لها مصدر دخل ثابت أو تعمل بشكل موسمي".
وأشار إلى أن "الإحصائيات الموثقة تثبت أن نحو 50 مليون مصري في دائرة الفقر المدقع وانعدام الأمل، حيث لا مظلات اجتماعية لديهم كالتي يحصل عليها النصف الآخر من الشعب من أبناء الدولة العميقة، وما يرتبط بها من مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، والشركات التي تنفذ مشروعات لا تمثل أولوية، وتستهلك الميزانية العامة للدولة، والميزانيات الموازية في الاقتصاد غير المعلن".
"مسكنات يقابلها تفريط"
وأشار إلى أن "الأوراق والروافد التي كانت تقوم بدورها في التوازن الاقتصادي والاجتماعي تم التخلي عنها بسوء إدارة متعمد، آخرها موقف ضعيف ومتخاذل سخر منه الرئيس الأمريكي تجاه المأساة الإنسانية التي تحدث أمام مرأى ومسمع العالم مدة 4 شهور في غزة نتيجة العدوان الإسرائيلي الهمجي الغاشم على الإنسانية".
وبين أنه، "لولا ذلك الموقف لما خسرت قناة السويس نحو نصف إيراداتها في 3 شهور محققة خسائر تقترب من 1.5 مليار دولار منذ بداية العدوان، ناهيك عن الأضرار الرهيبة للأمن القومي المصري".
ويعتقد أن "المسكنات لم تعد تجدي نفعا، وإطالة الزمن الافتراضي لعدة شهور مقابل مزيد من التنازلات والبيع لمقدرات الأمن القومي والقروض التي لا تنتهي لن تشفع في حلحلة ملف واحد من الملفات العالقة عمدا، وعلى العكس من ذلك فهي تجعل القاهرة تسير على صفيح ساخن حافية القدمين مغمضة العينين ومكبلة اليدين كرها".
وألمح إلى أن "الروس لم يدركوا خطورة الدور الذي قام به غورباتشوف خلال سنوات حتى صدمتهم الحقيقة في 26 ديسمبر 1991، بتفكيك الاتحاد السوفيتي".
وختم موضحا أنه إذا تفاقمت الأوضاع في رفح الأيام القادمة حد الانفجار، فإن هذا قد "يعجل بحدوث انقلاب عسكري في مصر، ليستبق غضبة شعبية كبرى بلا رأس أو أيدولوجية وليس لها محددات وكوابح".