الخميس 11 يناير 2024 02:20 م

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

أثمان غالية وتضحيات عزيزة

{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251) .

        تأتي ذكرى ثورة يناير هذا العام متزامنة مع معركة الطوفان المباركة، حيث التضحيات العزيزة والأثمان الغالية التي تدفعها تلك الثلة المباركة ممن اجتباهم الله لمواجهة الصلف الصهيوني والعنت الإجرامي والاستكبار العالمي، مع صمود أسطوري لشعب فلسطين الذي شاء الله عز وجل أن يواجه تلك الآلة الإجرامية ويتصدى لها، مستمسكًا بترابه ومقدساته، معتصمًا بربه، عاضًّا على حقه بالنواجذ، صابرًا على ما يلقى من لأواء، متحملًا لما يقابل من مشاق.

        إنها سُنَّةُ الله الماضية من لدن آدم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها رغم تعاقب الأزمان ودوام الحياة، بل إن بقاء هذا التدافع هو ضمانة لصلاح الأرض واستقامة الخلق وصناعة المستقبل، يقول تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40)، إنها سنة الله التي لا تتبدَّل ولا تتغير ولا تتخلف: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (اﻷحزاب: 62 ).

        لقد كان من حكمة الله تعالى أن تجري سُنَّةُ التدافع على الخلق كلهم، وفي مقدمتهم خيرُهم وأمثلُهم؛ فوقعت هذه السنة على الأنبياء الذين ما بُعث منهم نبيٌّ ولا أرسل رسولٌ إلا عُودي وحُورب وتصدى له قومه، فأوذي موسى وكُذب عيسى وأُخرج سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم من وطنه، وهم أكرم الخلق على الله، ولو شاء الله لانتصر لهم وأهلك عدوهم؛ يقول تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 04) ويقول سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31).

 من تاريخنا المضيء في شهر رجب

        ومن تاريخنا المضيء في شهر رجب نعيش مع سنة التدافع، عندما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نبأُ الحشود التي يعدُّها الرومُ في الشام لملاقاة المسلمين وإجهاض الدولة الإسلامية الوليدة والقضاء عليها؛ بادرهم صلى الله عليه وسلم بتجييش المسلمين في غزوة تبوك والتحرك لهم قبل أن يتحركوا إلى حدود العرب الشمالية؛ فكان لهذا الزحف المبارك أثر بالغ في رد الكيد ومدافعة الباطل. ثم كانت غزوة مؤتة التي واجه فيها ثلاثة آلاف صحابي جموعَ الروم الغفيرة، ورغم عودة خالد بن الوليد بالجيش بعد استشهاد ثلاثة من القادة في المعركة إلا أن الغزوة أوقفت محاولات الروم للقضاء على الدولة الوليدة.

         وفي السابع والعشرين من رجب عام 583هـ الموافق 2 أكتوبر 1187م تمكَّن المسلمون ما بين كَرٍّ وفَرِّ وانكسار وانتصار من استرداد بيت المقدس من براثن الغزو الصليبي الغربي الهمجي، بقيادة الناصر صلاح الدين، يوم أن اجتمعت الأمة الإسلامية بعربها وأكرادها وفرسها وأتراكها وكافة أعراقها على دحر العدوان الصليبي؛ فكان النصر المبين وكان الفتح العظيم بعد 90 عامًا من القهر والإذلال، ورُفع الأذانُ على قبة الصخرة من جديد، وأقيمت الصلاة بالمسجد الأقصى المبارك من جديد.

         واليوم إذْ تتفاعل أحداث الطوفان ليُدفع الباطلُ بالحق المبين، بعد سنوات طوال من حصار أهل غزة ومزيد من الاعتداءات على المقدسات، وفي ظل صمت وتواطؤٍ عربي ودولي؛ ليزأر المحاصَرون ويتلمسوا سُنة التدافع بين الحق والباطل، ويوجهوا رسالة إلى من بغى وتجبر ومن تواطأ وصمت؛ أن للمظلوم صيحةً على الجميع أن يسمعها، وللمكلوم قَوْمةً يفرض بها قضيته على العالم كله؛ ليدركوا حجم المظالم التي ولغوا فيها والجرائم التي ارتكبوها.

يناير .. شجرة لن تذبل

        والآن تحضرنا ذكرى ثورة يناير 2011 م المجيدة والتي تدافع فيها الحق مع الباطل، وزرع الحق في نفوس المصريين أملًا في قدرتهم على التغيير السلمي، والثقة في قيامهم بعمل جماعي، وتجربة سياسية رشيدة أفرزت برلمانًا ودستورًا ورئيسًا منتخبًا من منافسين متعددين، ووقف فيها العالم على قدميه مشدوهًا يترقب -وللمرة الأولى -نتيجة الانتخابات. إن جذوة ثورة يناير 2011 م ما زالت تعتمل في النفوس، فهي فكرة؛ والفكرة لا تموت، بل هي تجربة تحققت على أرض الواقع يستطيع كل منصف أن يطالع أثرها ويشاهد منجزاتها، يوم أن غاب الخوف من عيون المصريين، وعادوا من مهجرهم يسعون لإعادة البناء ويتلمسون الكرامة التي فقدوها على مدار عقود، وداعمين لرئاسية 2012م التي فاز فيها الرئيس الشهيد د. محمد مرسي (رحمه الله) في منافسة حقيقية غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث.

        لقد أدرك الرئيس الشهيد د. محمد مرسي - الذي حكم بروح يناير - أن لمصر يناير دورًا في حماية الأمن القومي المصري والعربي، وأدرك أن البداية تكون من سيناء؛ فخطط لتوطين 3.5 ملايين مصري فيها يشكلون درعًا واقيًا للأمن المصري، ويدفعون عنها غائلة من تسوِّل له نفسه إعادة احتلالها أو العبث بأرضها، بل ستكون هذه الكتلة البشرية وقاية للأمن القومي عامة؛ لكونها همزة الوصل بين جناحي الأمة العربية في مشرقها وفي مغربها، وبين القارتين آسيا وإفريقيا،وقوة سيناء وحصانتها ومنعتها الاجتماعية والعسكرية هي لمصر قوة ومنعة، ولإخواننا في غزة ثبات وصمود حيث لا يجرؤ الاحتلال على أي اعتداء على أهلنا في غزة في ظل وجود ظهير شعبي واسع على حدودهم الغربية، وكذلك الدرع البشري الصلب في غزة هو حماية إضافية لمصر القوية الحرة المزدهرة. لقد كانت عزمة الرئيس محمد مرسي أن يحول سيناء إلى خمسة أقاليم تنموية للإنتاج الزراعي والصناعي والتعديني والسياحي، وبدأ دراساته لإنشاء 5 مدن كبيرة و20 مدينة متوسطة و100 مدينة صغيرة وقرية وتطوير 10 طرق رئيسية و3 أنفاق، وإنشاء شبكة خطوط سكة حديدية، وإنشاء عدد كبير من المصانع والمشروعات الواعدة (صحيفة الحرية والعدالة - العدد 291 ليوم الإثنين 25 رمضان 1433 هـ الموافق 13 أغسطس 2012 م).

         إن هذه الجذوة التي أشعلتها يناير ستظل أملًا لكل المخلصين لإعادة مكتسباتها واستئناف مسارها رغم كل الجرائم التي ارتكبها المستبد المنقلب، وما تمخض عنها من حرمان مصر -إلى حين - من حقها في الاختيار الحر المباشر وحقها في البناء والنهضة الشاملة بسواعد أبنائها وعرق جبينهم، وورَّط مصر في الديون الباهظة والشروط المجحفة، والتي ينفقونها دون حسيب ولا رقيب، في محاولة لدفع المصريين -حسب ظنهم الاستبدادي - إلى الاستسلام لحياة بائسة يعملون فيها بلا أجور ويكدحون بغير نتيجة، بالإضافة إلى الزجِّ بعشرات الآلاف من خيرة رجالها ونسائها وشبابها في غياهب المعتقلات، بل وفرَّط المفسدون المنقلبون في مقدرات البلاد وحقوقها المائية وحيزها الجغرافي ودورها السياسي والحضاري، ورَضُوا بأن يكونوا مجرد صدى لتحذيرات الاحتلال الصهيوني وتعليماته؛ فمنعوا الدواء والطعام عن الإخوة والأشقاء، وأصبح المعبر الذي يمثل الشريان والرئة لإخواننا في غزة ومنفذهم إلى العالم مرهونًا بيد المحتل الغاصب، ويتشارك المنقلب مع العدو في خنق أهل غزة بعد أن فرط في السيادة المصرية على معبر رفح، في تصرف مُخْزٍ سيذكره التاريخ ولن ينساه الشعب المصري والعربي واﻹسلامي لهذا النظام الانقلابي.

        لقد ظنوا أنهم يُغيِّبون ثورة يناير عندما حرموا الشعب من حرية التعبير والسفر والنقد، وغيَّبوا الأحزاب وصادروا الحياة السياسية، وأفرغوا المجالس المنتخبة والانتخابات الرئاسية من مضمونها من خلال مسرحيات هزلية، إلا أن الشعب المصري يدرك الفروق بين التجربة التي أنتجتها يناير وبين الجرائم التي ارتكبها المنقلبون الذين حاولوا تغييب منجزات الثورة؛ ظنًّا منهم أن هذا الشعب -الذي يئنُّ تحت وطأة المظالم- قد انتهى ورضي بالظلم والفقر والإهانة والخوف من أجهزة القهر والتعذيب والاختفاء القسري، دون أن يدركوا - أن هذا الشعب نفسه - قادرٌ بمشيئة الله أن يفاجئ الطغاة والجلادين والكاذبين وحَمَلة الكرابيج والمباخر بعمل إبداعي يفوق ما قدمه في يناير 2011 بكثير؛ سعيًا لاسترداد الوطن والكرامة والعدالة ومقومات الحياة الإنسانية، عندما تفيض كأسُه ويطفح كيلُه، وإن غدًا لناظره قريب!

        إننا نؤكد أن كل المحاولات التي تبذل لإطفاء جذوة يناير من النفوس لن تفلح بإذن الله في مواجهة سنة التدافع بين الحق والباطل، والتي لن تتخلف، وأن شجرة يناير لن تذبل، وستنبت بإذن ربها من جديد، فلا يزال الحق معلومًا وثمار الثورة المباركة تنير طريق مصر، ولا تزال أسباب الثورة التي قام من أجلها المصريون وبذلوا لتغييرها من دمائهم ومن أنفسهم ومن أمنهم ومن سلامتهم قائمة، بل تتعمَّقُ تلك الأسباب يومًا بعد يوم في وجدان المصريين وعقولهم، وصارت أملًا يراود المصريين جميعًا سواء من كان مع الثورة حينها أو كان ضدها.

        لقد كانت يناير –ولا تزال- شعاع أمل ومشروع نهوض لمصر وازدهارها واستعادة دورها وريادتها، ودرعًا واقيًا للأمن القومي العربي، وستظل يناير فكرة يؤمن بها كل محبٍّ لوطنه ومدركٍ لحق أهله في حياة حرة وعيش كريم وعدالة شاملة ناجزة، وستبقى يناير حية في النفوس عصيَّة على النسيان، سيعيدها أبناؤها - مع الأجيال التي لم تشهدها - إلى الحياة من جديد؛ لتكون واقعًا على الأرض، بإذن الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 5).

من أخبار الجماعة

- في الذكرى الثالثة عشرة لثورة يناير تستعد جماعة "الإخوان المسلمون" لإعلان وثيقة العمل السياسي، والتي تحدد من خلالها الجماعة مواقفها بشكل واضح من المشهد السياسي، وتحدد رؤيتها حول كافة المتغيرات التي تمر بها الساحة المصرية وتعاطيها مع الواقع الحالي في مصر.

- بدأت جماعة "الإخوان المسلمون" إجراءات مراجعة الرؤية العامة للجماعة، والتي تم اعتمادها من مجلس الشورى العام في 2018 م، واستمر العمل بها حتى نهاية عام 2023 م، حيث يقوم الفريق المكلَّف بجمع ودراسة كافة الاستدراكات التي تصل من مفاصل الجماعة الفنية واﻹدارية في الداخل والخارج، وبالتشاور مع لفيف من الخبراء والمختصين من خارج الجماعة، تمهيدًا ﻹصدار رؤية الجماعة 2028م، بإذن الله تعالى.


أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة " الإخوان المسلمون "
29 الخميس جمادى اﻵخرة 1445 هجرية الموافق 11 يناير 2024م

 

#الإخوان_المسلمون

#رسالتنا

#أوفياء_على_العهد