محمد مصطفى موسى
كاتب وصحفي مصري


ليست العلاقة بين واشنطن وتل أبيب سمنًا على عسل طوال الوقت، ففي محطات مختلفة، تلاسن الطرفان على إثر خلافات ما، لكن هذه هي المرة الأولى في تاريخهما التي تخوض فيها إسرائيل حربًا بالمعنى الكامل للمفردة، في حين توجه إليها إدارة أمريكية نقدًا، على هذه الدرجة من الحدة والوضوح والمباشرة.


في غضون الأسابيع الماضية، ترددت همهمات إعلامية هنا وهناك، بشأن وجود خلافات بين الحليفين، تتمحور في معظمها حول ما بعد العدوان على غزة، وكيفية ترتيب الشرق الأوسط، بما يضمن هدوءه أو بالأحرى “تسكين غضبته الشعبية”، وهو الأمر الذي تطلبه الولايات المتحدة بالطبع، حفاظًا على مصالحها النفطية على أقل تقدير.


لكن هذه الهمهمات خرجت إلى العلن، والظاهر أنها أعمق مما كانت التحليلات تذهب إليه، ولا تتعلق بما بعد وقف إطلاق النار فحسب، وإنما أيضًا بالعملية العسكرية ذاتها.


تضرب العلاقات بين واشنطن وتل أبيب بجذورها إلى أمد بعيد، وتحديدًا إلى لحظة اعتراف الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان بالدولة اللقيطة، بعد نحو نصف ساعة من إعلانها في 14 مايو 1984، ومن ثم تأسيس علاقات دبلوماسية، أسفرت فورًا عن اقتفاء معظم دول العالم خطوات القوة العظمى.


وفي محطات مفصلية مختلفة، بقيت العلاقة بين العاصمتين كعلاقة الجنين بالحبل السُّري، ليس ممكنًا فصلهما إلا بإصدار حكم بالإجهاض، وبطبيعة الحال، كان الجسر الجوي، إبان حرب السادس أكتوبر 1973، من أبرز المشاهد الموحية بأن البيت الأبيض لن يترك حليفته في المنطقة تحت أي ظروف.


هذه الحقيقة تجلت منذ بدء العدوان على قطاع غزة المحاصر، ومع استعارة الرئيس الأمريكي جو بايدن اللسان العبري في تصريحات متهافتة، على غرار ترديده أكذوبة ذبح مقاتلي حركة المقاومة الإسلامية “حماس” أطفالًا إسرائيليين، وصولًا إلى تعطيل القرار الأممي بوقف إطلاق النار أخيرًا، بإشهار حق النقض (الفيتو) الأمريكي في وجه المجتمع الدولي، أو قل في وجه الضمير الإنساني.


لكن هذا ليس كل المشهد، فقبل يومين قال بايدن إن على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تغيير حكومته، لأنها تفقد الدعم الدولي، إثر قصفها العشوائي لقطاع غزة، مضيفًا “هذه هي الحكومة الأكثر راديكالية في تاريخ إسرائيل”.


هذه التصريحات تكتسب أهمية متعاظمة، بالنظر إلى أن الرئيس الأمريكي أدلى بها في حفل استقبال بالبيت الأبيض، على هامش عيد يهودي، وبحضور ممثلين عن اليهود الأمريكيين، كما أن الحفل جاء في إطار حملته الانتخابية للولاية الثانية، وما تستدعيه من ضرورة جمع التبرعات، ومعلوم بالضرورة أن اللوبي الصهيوني له دور كبير في هذا الصدد.


على الطرف الآخر، تأتي تصريحات نتنياهو بأن “الدور الأهم لأي رئيس حكومة إسرائيلية أن يرفض الضغوط الأمريكية في الوقت الراهن”، لتزيد الصورة وضوحًا، وترفع الستار عن المسكوت عنه.


الصبر الأمريكي يبلغ مداه


وإن كان من المبالغة الساذجة أن يذهب التحليل إلى أن الخلاف يعني انتهاء شهر العسل بين الحليفين، لكن هذا لا ينفي وجود فجوة ربما تكون غير مسبوقة بينهما، وقد تذهب إلى سيناريوهات غير متوقعة.


من ناحية، تُظهر تصريحات بايدن أن واشنطن شرعت تفقد صبرها تجاه الممارسات الإجرامية الإسرائيلية في عدوانها على غزة، وذلك ليس لاعتبارات النزاهة الأخلاقية أو المبادئ الإنسانية بالطبع، وإنما نظرًا لضغط الرأي العام الأمريكي، إذ أظهر استطلاع للرأي العام أن نحو ثلثي الأمريكيين يناهضون انحياز بلادهم إلى الجناة ضد الضحايا، وهذا قد يُشكل خصمًا فادحًا من الأصوات له، لدى عملية التصويت في انتخابات الرئاسة.


كما تحمل الانتقادات دلالات مهمة بأن الولايات المتحدة ترى أن إسرائيل لن تحرز في العدوان أكثر مما أحرزته، أي المزيد من القتلى الأبرياء، وتدمير البينة التحتية، واقتراف أبشع جرائم الحرب، من دون بلوغ الأهداف السياسية المنشودة، والمستحيلة كذلك، والتي تتمثل فيما “يطنطن” به ساسة إسرائيل من الإجهاز على حماس.


ومن نافلة القول، إن مزيدًا من الجرائم يعني المزيد من الغضب الشعبي الأمريكي، وهنا لا بد من وقفة لتمعُّن نجاح المقاومة في “معركة الصورة”، بالإضافة إلى صمودها العظيم في حين تمضي الحرب إلى منتصف شهرها الثالث.


والمؤكد بجوار ذلك أن بايدن يعي جيدًا أن نتنياهو لا يطفئ فتيل الأزمة، ولا يرغب في ذلك، لأن هذه الحرب هي حربه هو، وهي حربه الأخيرة، فإذا خرج منها، وهو بالفعل سيخرج منها، بغير أي مكتسبات سياسية، فالنهاية الحتمية له هي مزبلة التاريخ، والخروج من المشهد السياسي إلى الأبد.


بايدن يقفز من سفينة نتنياهو


بمعنى آخر، إن بايدن الذي يفخر بصهيونيته، يرى أن نتنياهو يغرق، وعليه إذن أن يقفز من سفينته بأسرع ما يمكن، ولسان حاله “أنا ومن بعدي الطوفان”، وهكذا تتعارض “غريزتا البقاء السياسية” بين الرجلين، ومنطقي أن ينحاز كلاهما إلى مصلحته أولًا.


أغلب الظن أن واشنطن ستكثف جهودها خلال الأيام المقبلة على الحليفة المدللة، بغرض الوصول إلى تسوية ما، والمؤكد أن تصريحات نتنياهو برفض وجود سلطة فلسطينية في المطلق، سواءً كانت من حركة فتح أو حماس، واستخدامه لفظتي “حماسستان وفتحستان” في إطار إظهاره التشدد، وكذلك وصف اتفاق أوسلو بالخطأ الكبير، ليس يرضي واشنطن التي ترى أن السياسي الإسرائيلي صار كمن يتخبطه الجن، وإنه في حالته تلك سيؤذي حلفاءه قبل أعدائه.


ثمة تسوية ما تلوح في الأفق، وقطار الصبر الأمريكي يكاد يبلغ محطته الأخيرة، وربما تتساقط أحجار الدومينو فجأة في الداخل الإسرائيلي، خاصة أن نتنياهو مهتز مضطرب الشخصية، ويعاني انخفاضًا كبيرًا لشعبيته في أوساط المستوطنين، وقد تغدو التضحية برأسه هي الخطوة الأولى لغلق الملف.


أيًّا يكن من أمر، فالثابت يقينًا أن تداعيات عملية “طوفان الأقصى” لا تزال تتكشف، فهي حدث استثنائي غير مسبوق في تاريخ الصراع، وما نراه اليوم أنها هزت في جريانها الهادر، التحالف بين واشنطن وتل أبيب، بعد أن كنا نحسب أن هذا من قبيل المستحيلات.