الأربعاء 13 ديسمبر 2023 03:45 م
الحمد لله رب العالمين ناصر المؤمنين ومعز المتقين ... والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أما بعد …
لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستبشار فقال تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ) -الزمر 17-، والبشارة والتبشير بالخير يشرح الصدر والقلب، ويبعث على التفاؤل والعمل، وهو منهج رباني وهَدْي نبوي، ومن الثابت والمشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُكْثِر من قوله لأصحابه رضوان الله عليهم: (أبْشِروا، بشِّرُوا، أبْشِرْ)، ويأمرهم بنشر البِشْرِ والتفاؤل بين الناس، فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي شريح الخزاعي قال: خرَج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ( أبشِروا أبشِروا، أليس تشهَدونَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ ؟) قالوا: نَعم، قال: ( فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ طرَفُه بيدِ اللهِ، وطرَفُه بأيديكم فتمسَّكوا به، فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا).
وها هو الإمام المؤسس حسن البنا رحمه الله يبث في إخوانه الأمل، ويدفع عنهم الشعور باليأس، فيقول في مقال له بجريدة الإخوان المسلمون: (لا أتصور أن مؤمنًا بالله وبالقرآن يجد اليأس إلى قلبه سبيلا، مهما أظلمت أمامه الخطوب، واشتدت عليه وطأة الحوادث، ووُضعت فى طريقه العقبات. .. وإن القرآن ليضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال قائلا: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) - الحجر: 56 -
ويستمر الإمام البنا قائلا: وإن القرآن ليقرره ناموسًا كونيًا لا يتبدل، ونظامًا ربانيًا لا يتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، إن الأيام دول بين الناس، وإن القوىَّ لن يستمر على قوته أبد الدهر، والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة، ولكنها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد والأفراد، (و َتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) - آل عمران: 140- ثم يقرر الإمام البنا الحقيقةَ عندما يطول الانتظار؛ فيقول: (وأقرب ما يكون هذا النصر إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر)، (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين) - يوسف: 110.
وها هو الأستاذ الدكتور محمد بديع - فك الله بالعز أسره - يزرع فينا بشرى أننا على الحق المبين، في رسالة له بتاريخ 18فبراير 2010 حيث يورد لنا مقولة الإمام البنا (ستُسجنون وتُشرَّدون وتُنقَلون وتُصادَر أموالُكم، وسيستغربون فهمَكم للإسلام، عندها تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات) ثم يقول بعدها: (حتى لا يظن أحد أن هذه الابتلاءات سببها أننا دخلنا المعترك السياسي، وأننا لو توقفنا عن ذلك، وانكفأنا على ذاتنا، وحصرنا دورنا في العمل الدعوي والتربوي، لأنقذْنا أنفسنا وإخواننا وجماعتنا من هذا الظلم والاضطهاد والسجون والمعتقلات ومصادرة الأموال وتفزيع الزوجات والأولاد والبنات والآباء والأمهات، وهذا وهمٌ؛ لأنهم لا يحاربوننا من أجل الإقصاء السياسي أو الاستئثار بالبرلمان والنقابات والاتحادات والأندية .. كلا وألف كلا .. والله لو تركناهم وشأنهم، ما تركونا وشأننا .. أما السبب الحقيقي فهو الحق الذي نحمله، والإسلام الشامل الذي ننادي به).
فأبشروا إخواننا في مصر وفلسطين وفي كل ربوع الدنيا، فإننا على الحق المبين.
معركة طوفان اﻷقصى وبشارات النصر
وعلى أرض فلسطين الحبيبة مازال المجاهدون يصنعون الأمل بأرواحهم ودمائهم؛ فيسطرون أروع ملاحم التضحية والفداء فى الذود والدفاع عن مقدسات الأمة وحفظ الأرض وصيانة العرض بكل شجاعة واستبسال، مما أعاد للأذهان بطولات الجيل الأول من الصحب الكرام، الذين تربوا على مائدة القرآن، ونهلوا من النبع الصافي؛ فقدموا النموذج الفريد لمن يحرص على الشهادة بما يفوق حرص الأعداء على الحياة.
إننا بفضل الله تعالى نرى النصر في الآفاق يحلق فوق الرؤوس، نصراً يُكتب بدماء الأبرار الأطهار وتضحيات المؤمنين الصامدين، الذين تربوا على الثوابت الأصيلة لهذا الدين، ونشأوا على العقيدة الراسخة؛ فرفعوا لواء الحق وشعارهم:
إن قال داعي الحق: من يتقدم فأنا الحقيقة كلها ... أنا مسلم.
حقا؛ إننا نرى انتصار طوفان الأقصى بفضل الله تعالى في كل المظاهر الآتية:
- حين يدب الأمل في الأمة من جديد، ويسري بين جنبات الوطن العربي والإسلامي.
- حين يعي الجيل الجديد الحقائق، ويدرك قضية فلسطين والأقصى، ويدرك مكانتها عند كل مسلم.
- حين يصبح المجاهدون الأبطال هم القدوات للشباب، وتصبح النساء المجاهدات هن قدوات الفتيات.
- حين تسقط الزعامة الواهية والأقنعة الزائفة عن الجانب السيء من الحضارة الغربية الفارغ من القيم والمتعطش للدماء.
- حين يدرك العالم أن الكيان المغتصِب هو كيان هش يكاد يهوي بإذن الله تحت ضربات المقاومة الباسلة.
- حين يفتضح أمر الخائنين والمتخاذلين، وتسقط عنهم أقنعتهم الزائفة، ليكون النصر بإذن الله خالصاً نقياً، وليس لعميل أو متخاذل فيه فضل أو مشاركة.
- حين تهب الشعوب، وتعلن عن مخالفة حكامها المتخاذلين، لتعلن بكل وضوح، أن المكر والتدبير على مدار قرون لم يفلح في تغيير عقيدتها وتحيزها للحرية وقيم الحق والعدالة.
- حين يكون الطوفان معبرا عن إرادة شعب فلسطين الحر الأبي المجاهد الذي يحب الحياة الكريمة ودونها الموت الزؤام، ولا يقبل العبودية أو الامتهان أو التنازل عن حقوقه الثابتة غير القابلة للتصرف، فهو شعب يحب الأرض، ويتمسك بها، ويرويها من دمائه وجسده وعظامه وفلذات أكباده، وهو شعب يريد تحرير إرادته وكرامته واستقلاله، ويقرر مصيره بنفسه مرفوع الرأس مثل كل الشعوب الحرة في العالم.
- سيؤكد الطوفان بحول الله وقوته أنه لا مكان للصهاينه على أرض فلسطين، وأن زوال كيانهم بات قريبا بإذن الله تعالى، ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله.
توابع الطوفان عالميا
لقد كشف هذا العدوان الاستئصالي الاستيطاني للعالم كله عن الوجه القبيح للمنظومة الغربية الرسمية وإصرارها على الإبادة والقتل وانتهاك القانون الدولي الإنساني، وكشف اهتراء النظام العالمي، حيث يتم القتل بمعدل 138 طفلا وامرأة في اليوم الواحد، أو ما يعادل 6 من الأطفال والنساء في الساعة الواحدة، كما كشف هذا العدوان نفاق الجزء الكبير من الإعلام الغربي، وزيف ادعاء الحضارة والمدنية، وأزاح الستار عن هشاشة دعايات حقوق الإنسان وشعارات العدل والمساواة، وكشف عن ازدواجية المعايير.
إن المستشرف للتغيرات التي وقعت، وتقع في العالم كله مع الطوفان، يدرك أننا أمام زلزال كبير، ترك تأثيرات عميقة في جدار الإنسانية، ودفع الجماهير الهادرة من كل جنس ودين ومن كل مذهب وفكرة لإطلاق صرخة التحذير من خطورة استمرار هذه الجرائم على الإنسانية؛ فخرجت الجموع الغفيرة على المستوى الجغرافي من أندونيسيا شرقا وحتى أيرلندا والنرويج غربا ومن ساحل أفريقيا الشمالي حتى جنوبها، ومن مختلف العقائد والأفكار خرج المسلمون والمسيحيون واليهود بل وكل الأمم والشعوب حتى في داخل الدول المؤيدة رسميا للعدوان، ليعبروا عن رفضهم لتلك الجرائم،وللأسف لم يكن حكام المسلمين - إلا من رحم ربي - على مستوى الحدث، بل وكان كثير منهم قامعا لحركة الشعوب التي خرجت مؤيدة لأهل غزة ومنددة بما يقوم به الصهاينة، بل لم تقطع أي دولة مسلمة – خاصة ممن سار في مسار التطبيع - علاقتها بالكيان الصهيوني المجرم.
إن ما يحدث الآن في غزة يدفع شعوب العالم للشعور بغياب الأمن والعدل وسيادة منطق القوة والبلطجة، ويجعلهم بحاجة ماسة إلى نور الإسلام، وأخلاق المؤمنين، والتي تمثلت بشكل واضح فيما نقلته وسائل الإعلام عن المعاملة الإنسانية التي لقيها الأسرى من رجال المقاومة، رغم ما يعانونه من عنت وضيق، وهو ما يظهر البون الشاسع بين أخلاق المسلمين الراقية وبين من يدعون الاهتمام بحقوق الإنسان وكرامته على خلاف الحقيقة.
إن هذا الحراك الذي نشهده في الشارع العالمي برفض الملايين للعدوان الصهيوني الهمجي على غزة ليحمل في طياته وحدة الشعور والضمير الإنساني أمام القضايا العادلة، وهو جدير بالنظر إليه والتفكر في طرق تطويره وتنميته واستثماره لنصرة قضايا الإنسان حيث كانت، ضد الهيمنة، والاستعمار، والعنصرية، والطغيان.
الذي خبث لا يخرج إلا نكدا
وفي مصر مشهدٌ آخر من مشاهد الإخفاق والاضطراب، حيث يسير المنقلِب وراء الصهيونية العالمية شبرا بشبر وذراعا بذراع؛ فيكبل مصالح الفلسطينيين، ويحجب عنهم المساعدات اﻹنسانية انتظارا لتعليمات الاحتلال، رغم أن معبر رفح هو معبر مصري فلسطيني خالص، لا سلطان للاحتلال عليه، كما ويحاول المنقلِب الإفلات بحقبة حكم جديدة، يواصل خلالها ارتكاب المزيد من الجرائم ضد المصريين بإفقارهم وتجويعهم وإغراقهم في دوامة الديون الممنهجة ومصادرة المستقبل وقتل الأمل في النفوس، والاستمرار في تقديم القرابين من عذابات شعب فلسطين لحساب من كان لهم فضل عليه في اغتصاب حكم مصر بالقوة المسلحة، والرشاوى الفاسدة، وارتكاب الفظائع المشابهة لما يقوم به الكيان الصهيوني.
إن هذه المحاولات اليائسة لن تفلح من جديد في خداع الشعب المصري الذي أدرك الحقيقة ورآها رأي العين، بعد أن أعلن المصريون انحيازهم للمقاومة الفلسطينية وحقها المشروع في الحرية والاستقلال وتبرئتها من كل ما حاولت الآلة الإعلامية الانقلابية أن تنسبه لها و تنسبه في ذات الوقت لجماعة الإخوان المسلمين، فراحت كل هذه الجهود التي بذلها الانقلاب وكل تلك المسلسلات العقيمة أدراج الرياح فكانت الملايين التي أنفقوها لتضليل الشعب حسرة عليهم.
لقد أثبتت الوقائع على الأرض - بعد استئصال محاولات المنافسة الانتخابية - ماكان واضحا وراسخا، أن شجرة الحنظل لا تنبت إلا شوكا، وأن الذي خبث لا يخرج إلا نكدا، وأن هذه السلطة الجبرية لن تقبل بحال من الأحوال أن تجري انتخابات تعددية ديمقراطية يحدث فيها تنافس حقيقي، ولن تقبل إلا بمسرحيات هزلية رديئة الإخراج، مقَتَها الشعب، ولم تعد تنطلي عليه.
إن ما أصبح اليوم راسخا في عقول المصريين هو فساد هذه الطغمة، واستبدادها، ورغبتها الجامحة في البقاء في السلطة على أشلاء الضحايا وركام المصريين والفلسطينيينن وإهدارها للمال العام بشكل ممنهج، وانحيازها للعدو المحتل بكل قوة، وابتعادها عن كل قيم النخوة والشهامة والنجدة لإخوتنا المستضعفين في غزة، تلك هي الحقيقة البينة التي لم تعد خافية على أحد، وتلك هي الحقيقة التي لن تغيرها مساحيق باهتة باتت تبدي من خلفها سوءتهم، وأضحى جليا استعدادهم للتآمر مع العدو لتصفية القضية والحق الفلسطيني بالرغم من كل الشعارات والتصريحات الجوفاء التي لا تعبر عن الحقيقة، وما خفي كان أعظم، ( .. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ) - آل عمران: 118-.
من ثمرات الطوفان .. إنهم يألمون كما تألمون
لقد اتسعت دائرة الخسائر التي مني بها العدو خلال معركة الطوفان على كافة المستويات، ونذكر هنا فقط بعضا من الأرقام التي تتعلق بعمليات نزوح الصهاينة داخل الأراضي المحتلة أو خارجها منذ بداية المعركة والتي تتغير وتزداد يوميا:
- 500 ألف صهيوني نزحوا من فلسطين المحتلة منذ بداية الطوفان.
- 500 ألف صهيوني نزحوا داخل فلسطين المحتلة عام 1948 م من الجنوب والشمال بفعل الرشقات الصاروخية للمقاومة.
- 60 ألف مستوطن نزحوا من مستوطنات الغلاف، من بينهم 35 ألف مستوطن من مستوطنة سديروت وحدها.
- 65 ألف مستوطن تم إخلاؤهم من مدينة عسقلان.
- 60 ألف مستوطن يجري العمل على إخلائهم من المستوطنات القريبة من حدود لبنان.
وصدق الله تعالى إذ يقول (وَلَا تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) -النساء 104-
والله أكبر ولله الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام
الأربعاء 29 جمادي اﻷولى 1445 هجرية الموافق 13 ديسمبر 2023م