طه خليفة
كاتب وصحفي مصري


الأحد، 10 ديسمبر الجاري، أول الأيام الثلاثة في انتخابات الرئاسة المصرية، وعند كتابة هذا المقال قبل منتصف ليلة هذا اليوم، استيقظت صباحًا وفتحت التلفاز الثابت على قناة واحدة هي الجزيرة للوقوف على القادم من غزة، وهو مؤلم حيث المجازر ضد المدنيين متواصلة منذ 7 أكتوبر الماضي.


قلت ربما تكون ساعات الليل مرت على الغزيين المُستباحين دون ترويع وسقوط شهداء وقصف بيوت وهدم مشافي ومدارس وقطع كل سبل الحياة على أهل غزة الذين هم جميعًا على قائمة الشهادة في هذا العدوان المجنون حيث تتملك الصهيوني اللعين شهوة قتل المدنيين، فأين البطولة هنا للجيش المعتدي؟ وما هو الانتصار الذي يبحث عنه جيش الحرب المهووس بسفك الدماء وارتكاب كل ما هو غير إنساني وأخلاقي على جسد رضيع شهيد عمره 7 أشهر ارتقت والدته شهيدة وهو في رحمها.


ألم تلفت صورة هذا الرضيع، وهي واحدة من بين ألوف الصور للرضع والأطفال الشهداء، الرئيس الأمريكي بايدن الفخور بصهيونيته الذي ظل يتباكى زاعمًا أن 40 طفلًا صهيونيًّا ذبحتهم المقاومة.


كما امتدت أكاذيبه إلى ترديد روايات عن حرق وتشويه واغتصاب قام بها المقاومون، واستمر في نهجه الخرافي فادعى أن المقاومة قصفت المستشفى المعمداني، وشكك في عدد الشهداء، واليوم يتبنى أكذوبة جديدة وهي ممارسة المقاومة للعنف الجنسي.


وهذا هزل فقد شاهد العالم الأسيرات من الصهاينة وهن يتبادلن التحايا مع أفراد المقاومة خلال تسليمهن للصليب الأحمر، وشهاداتهن بعد عودتهن للكيان جاءت لصالح المقاومة وأخلاقياتها في التعامل، وفي المقابل استمعنا لروايات عن الجحيم الذي عايشه الأسرى المحررون من الأطفال والفتيات داخل معتقلات الاحتلال.


 سقوط أساطير بايدن


وقد انكشف الأساطير التي يرددها بايدن، وسعى الكيان الصهيوني لترويجها من خلاله وغيره من حكام الغرب لاستدرار التعاطف الدولي، في حين أن الصهيوني هو من يرتكب أشنع الجرائم في العدوان البربري على الهواء مباشرة وأمام أعين العالم.


والجزيرة لها الفضل الأكبر في توثيق الجريمة بكل اقتدار واحترافية ومصداقية، بحيث يستحيل أن ينكر أي متصهين في العالم شناعة ما يتعرض له أهل غزة، وهم مدنيون غير محاربين، وهم شهداء على ظلم العالم لهم وشهداء في قبورهم وبيوتهم، وهم شهداء أيضا على خذلان أشقائهم العرب لهم، وربما تواطؤ البعض ضدهم ظنًّا من أصحاب النظر القصير أن القضاء على المقاومة، وخاصة حماس، سيكون لصالح القضية الفلسطينية وهذا وهم كبير، فالتطرف الصهيوني يسعى متعمدًا لشطب الوجود الفلسطيني كله من الأرض والتاريخ لأن جوهر هذا الكيان أن يكون بمفرده في فلسطين تحت مسمى الدولة اليهودية القومية.


وبقاء الفلسطيني متمسكًا بأرضه إفشال وإنهاء للحلم الصهيوني بكيانه الديني العنصري، وعملية 7 أكتوبر ضربة عميقة في مسار العد التنازلي لهذا الحلم، لذلك يشنّ حرب إبادة ضد غزة لدفع سكانها إلى الهجرة قسرًا، وإذا نجح في ذلك فإنه سينفذ خطته في الضفة أيضا، لكنه حتمًا سيفشل أمام الفلسطيني الذي يموت وهو متمسك ببيته، وهو يقاوم بعقيدة النصر أو الشهادة.


كان نصيب الأحد 297 شهيدًا ارتقوا في 21 مجزرة، ليبلغ العدد الكلي للشهداء حتى منتصف هذا اليوم 18 ألف فلسطيني، وكلهم من المدنيين الذين لا يحملون سلاحًا ولو حجرًا، وكلهم استُشهدوا داخل بيوتهم وفي المدارس والمشافي وخلال فرارهم من منطقة إلى أخرى بحثًا عن بعض الأمان، وهم يحصلون على قليل من الخبز والمياه، فهل هناك خسة وانحطاط وحقارة أكثر مما يفعل هذا الصهيوني السفاح؟


العرب أمة الكلام


صباح هذا الأحد، وكما جاء صوت الجزيرة بأنباء المزيد من الشهداء والكثير من القصف والتدمير في غزة، جاء كذلك بمحفل يتحدث فيه مسؤولون عرب بقوة دعمًا لغزة ومطالبةً بوقف إطلاق النار فورًا.


وهو كلام مخلص، لكنه يبقى كلامًا مهما كان صارخًا ومهاجمًا للصهيوني ولائمًا للأمريكي، فالعرب هم أمة الكلام لا أمة الفعل، تصريحات أنظمتهم طوال أكثر من شهرين لم تُوقف مجزرة واحدة، ولم تمنع إزهاق روح فلسطينية واحدة، ولم تُؤثر في موقف أمريكا رأس الأفعى في حرب إبادة غزة، فهي أصل العدوان بكل مراحله وتفاصيله، والصهيوني ذراع للتنفيذ وخادم للأهداف الاستعمارية والانتهازية الأمريكية في المنطقة.


وبايدن كان صريحًا عندما قال إن إسرائيل لو لم تكن موجودة لاخترعناها، وهو وغيره في أمريكا وأوروبا ينطلقون في الحماس لهذا الكيان من معتقدات دينية مُغرقة في الأساطير والتطرف.


والعدوان الحالي يؤكد مجددًا تبني واشنطن لإسرائيل بشكل مطلق ودون سقف إلى درجة إسقاط كل مشروع قرار في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار كما حصل مرة أخرى يوم الجمعة الماضي، وكانت أمريكا الوحيدة التي تستخدم الفيتو في حين امتنعت حليفتها بريطانيا عن التصويت، ودعم بقية الأعضاء الغربيين القرار، والجديد في هذا الأمر هو تغير مواقف العواصم الأوروبية اتجاه العدوان من الدعم الكامل له إلى الخجل من مواصلة المساندة أمام هول المحارق، بل المطالبة بإيقاف العدوان كما دعت فرنسا، ثم كما صوتت لصالح القرار.


بطولات المقاومة


مع ذلك، فالمقاومة تُكبد العدو خسائر كبيرة في المواجهات البرية، وما هو مُعلن صهيونيًّا أن هناك 5 آلاف جندي وضابط جرحى، ومنهم أعداد كبيرة إصاباتهم عميقة ومعاقون وخرجوا من الخدمة، فضلًا عن القتلى الذين تجاوزوا مئة، إنه أداء بطولي يصل إلى الإعجاز في ظل تحشدات ضخمة للصهيوني والقصف العنيف والغطاء الكثيف لجنوده.


بدأت المقال بعبارة قصيرة عن انتخابات الرئاسة المصرية، وأنهيه بأنني لا أجد ما أكتبه عنها، فنتيجتها معروفة سلفًا، وفي يومها الأول لم أرصد اهتمامًا شعبيًّا بها، وكانت الحياة تسير بشكلها المعتاد، وكأنه ليس هناك انتخابات. كل شيء يتضاءل بجانب غزة.