عبد الناصر سلامة
رئيس تحرير "الأهرام" المصرية سابقاً


لا جدال في أن الممارسات الإسرائيلية التعسفية بحق الشعب الفلسطيني، خصوصًا في القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك، كانت السبب الرئيس في عملية “طوفان الأقصى”، التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ومن هنا جاءت تسمية العملية بـ”طوفان الأقصى”، تلك العملية التي كسرت أنف الجيش المتغطرس، كشفت زيف القوة المصنفة عالميًا، أسقطت حاجز الخوف أمام الأجيال المقبلة، أربكت الداخل الإسرائيلي سياسيًا واجتماعيًا، جعلت قادة الاحتلال أضحوكة على المستويات كلها وفي المنتديات كافة.


إلا أن الغريب في الأمر، هو أن سلوكيات الإجرام لم تتغير في مناقشات الحكومة المتطرفة، ولا في تصريحات الأحزاب الدينية الصهيونية بقيادة بن غفير وسموتريش بشكل خاص، ولا حتى في السلوك النخبوي الذي تعبّر عنه البرامج الحوارية التليفزيونية بشكل يومي، ولا في سلوك الجيش الذي رفع من وتيرة البطش والقتل والاعتقالات والاقتحامات وهدم المنازل في الضفة الغربية على وجه الخصوص، وسط صمت تام من المجتمع الدولي، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها من أجل مجموعة أسرى في قطاع غزة.


مخطط الإجرام لم يتغير


بدا واضحًا أن درس السابع من أكتوبر في غلاف غزة، يجب أن تستتبعه دروس أخرى في الضفة الغربية، وحتى في ساحات المواجهات الأخرى، خصوصًا مع “حزب الله” في الجنوب اللبناني، ذلك أن الممارسات الإسرائيلية اليومية بحق الفلسطينيين في الضفة والقدس، وتصريحات مسؤوليهم بشأن مستقبل قطاع غزة، تؤكد أن مخطط الإجرام الصهيوني في المنطقة لم يتغير، فسياسات التوسع والاحتلال والتهجير القسري وبناء المستعمرات وتجريف الأراضي وغير ذلك من ممارسات، ثبت بالدليل القاطع أن المقاومة هي الحل الوحيد لمواجهتها.


وإذا كان العالم الخارجي هو الآخر قد كشف عن وجهه القبيح، وعن أكذوبة التحضر والتطور، فإن الممارسات الإسرائيلية قد استمدت قوتها طوال الوقت من ذلك الدعم القادم من الخارج، سياسيًا وعسكريًا وماليًا وإعلاميًا، وهو الأمر الذي وضع الشعب الفلسطيني المقاوم في وضع لا يحسد عليه، خصوصًا في ظل الغياب العربي التام، اللهم إلا بعض التصريحات، وبعضًا من فتات الغذاء والدواء، ذرًا للرماد في العيون، فيما يشير إلى التخلي عن القضية التي كانت يومًا ما قضية العرب الأولى.


وإذا كنا نعي سر الانتفاضة الرسمية الأمريكية المذعورة خوفًا من انهيار المشروع الصهيوني في المنطقة، فإن المخاوف العربية هي الأخرى من انهيار هذا المشروع كانت صادمة للشعوب بشكل خاص، وبدا واضحًا أن تحذيرات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال الأيام الأولى للمواجهات كانت تحمل معاني كثيرة، حينما ردد أكثر من مرة موجهًا حديثه للقادة العرب قائلًا: إن انتصار “حماس” معناه أنكم في خطر، لأن الدور عليكم في هذه الحالة، واضعًا الحكام العرب بين خيارين، إما “حماس” وإما إسرائيل!!، وكان الاختيار واضحًا في المقررات الهزيلة للقمة العربية الإسلامية، التي لا تحتاج إلى تعليق.


إلا أننا في الأحوال كلها يجب أن نعي حقيقة مهمة، وهي أن إسرائيل قامت منذ نشأتها في عام 1948 على عناصر محددة، وهي القوة والهمجية وعدم احترام القوانين الدولية، ولا حتى الأعراف الإنسانية، ارتكبت جرائم هنا ومذابح هناك، اغتالت في الداخل والخارج، حرقت القرى ودمرت المنازل وقصفت المدارس وهدمت المستشفيات واجتاحت المزروعات، وها هي لم تتغير ولن تتغير تحت سمع العالم وبصره والقوانين والمواثيق والأعراف، دون أي رادع، ذلك أن ساسة إسرائيل يدركون جيدًا أنهم بمنأى عن المساءلة والمحاكمات.


إلا بعد الهزيمة


من هنا ندرك أنهم لم يعقدوا اتفاقية سلام مع مصر إلا بعد الهزيمة في عام 1973، لم يبادروا بالإفراج عن أي معتقل فلسطيني، إلا من خلال التبادل، في أعقاب وقوع أحد جنودهم في الأسر، كما لم يبادروا بالإفراج عن أي معتقل لبناني إلا من خلال الوقائع نفسها، ولم ينسحبوا من الأراضي المحتلة في الجنوب اللبناني إلا تحت ضغط المقاومة أيضًا، لم يخضعوا لأي مفاوضات غير مباشرة مع المقاومة الفلسطينية إلا إذا كانوا في موقف الضعيف، حتى مفاوضات “أوسلو” كان الهدف منها إسكات المقاومة الفلسطينية وترويضها، ممثلة في حركة فتح وغيرها من التنظيمات التاريخية، كالجبهتين الديمقراطية والشعبية، لم يحدث ذات يوم أن طرح الكيان الصهيوني مبادرة تهدف إلى إنهاء الصراع، أو إيجاد حل للاجئين الفلسطينيين في الخارج على سبيل المثال.


نحن إذن أمام كيان لا يعي ولا يصغي إلا إلى منطق القوة، أو بمعنى أدق: منطق الند للند، وهو ما استوعبته حركات المقاومة الحديثة، ممثلة في حركتي “حماس” و”الجهاد” بشكل خاص، بعد دراسة متعمقة كما هو واضح لتاريخ ذلك الكيان، ليس ذلك فقط، بل لتاريخ اليهود بشكل عام، منذ نقضهم العهود مع المسلمين في صدر الدولة الإسلامية، وأيضًا من خلال سيرتهم التآمرية، وسلوكياتهم الربوية، في الأقطار التي كانت تؤيهم، وهو ما كان سببًا في حالة الاضطهاد والكراهية التي واجهتهم في كل مكان، حتى أصبحت عبارة (هو أنت يهودي؟) تعبيرًا عن اللعن والسباب.


في الأحوال كلها، وبعد أن فقدنا الأمل في مواقف رسمية قومية عروبية، ترقى لمستوى الحدث، فإننا نتطلع إلى أن تعي الشعوب خطورة الموقف، وكيف أننا أمام مرحلة فاصلة في التاريخ العربي، تقتضي الإيمان بمواجهة هذا الكيان الغاشم باللغة التي يفهمها، وهي الجهاد والنضال والمقاومة المسلحة، كطريق وحيد لاسترداد الحقوق.


في الوقت نفسه، يجب الوضع في الاعتبار طوال الوقت، أن المنطقة كلها، من المحيط إلى الخليج، لن تنعم بالأمن والاستقرار ما دام هذا الكيان موجودًا، ذلك أنهم عبر تاريخهم لا يؤمنون بالسلام، بل لا يؤمنون بحق الطوائف وأصحاب الديانات الأخرى في الحياة، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى تلك النصوص الدينية التي يؤمنون بها، التي تحض على قتل الأطفال والنساء وحتى الحيوانات، ما دامت من أملاك غير اليهود!! ومن بينها:


(احرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار) عد 31: 10، (اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة) عد 31: 17، (احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار) تث 12: 31، (وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، واحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها)، وأذكر في هذا الصدد تعبير المفكر الإسلامي، الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله، أنهم (جعلوا من الرب طاغوتًا دمويًا يستبيح لهم جميع الأمم).


أيها السادة: إسرائيل تحتاج فقط إلى المعاملة بالمثل، أو على الأقل: مزيدًا من دروس “حماس”.