ممدوح الولي
نقيب الصحفيين المصريين سابقًا


مع اشتداد جُرم إسرائيل في حربها على غزة من إبادة جماعية وتدمير للمساكن والمرافق والخدمات، زادت الموجة الشعبية لمقاطعة السلع الأجنبية الواردة منها ومن الدول الغربية المساندة لها، بالبلدان العربية والإسلامية، وانتقلت مقاطعة تلك الشركات إلى بعض العواصم الأوروبية؛ مما دفع شركة قهوة شهيرة دوليا إلى تقديم القهوة للمارة مجانا بأحد شوارع لندن.


ومع طول فترة الحرب استمرت المقاطعة واتسع نطاقها السلعي والجغرافي، وقام رواد مواقع التواصل الاجتماعي بعرض نماذج لتلك السلع المطلوبة مقاطعتها، ووصل الأمر إلى ابتكار برامج على الهواتف المحمولة، تسهّل على رواد المجمعات التجارية تحديد كون السلع الموجودة على الأرفف من السلع المطلوبة مقاطعتها أم لا، كما قام آخرون باستعراض السلع المطلوب مقاطعتها وعرض البدائل المحلية لها.


وتجيء الحملة الشعبية للمقاطعة بالبلدان العربية متنفسًا للتعبير عن التعاطف مع الضحايا في فلسطين المحتلة، في حين يمنع بعض تلك الحكومات أيّ مظاهر سياسية للتعاطف، مثل الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات وحتى أداء صلاة الغائب بالمساجد على أرواح الشهداء.


وأذكر أنه في الحالة المصرية ظل المصريون يجهرون بدعاء القنوت في كل الصلوات من أجل غزة، في كل الحروب التي خاضتها إسرائيل عليها حتى عدوان 2014، وبعد ذلك أصبح الأمر محظورا. وفي عام 2003 وبعد غزو الولايات المتحدة  للعراق انتشرت دعوة لمقاطعة السلع الأمريكية عربيًّا، واستمر الأمر حتى عام 2006 مواكبًا للانتفاضة الفلسطينية، ووقتها قامت نقابة الصيادلة المصرية بعرض أسماء الأدوية الأمريكية والبدائل الطبية لها، كما شهدت العديد من النقابات المهنية المصرية عقد ندوات وطبع كتيبات تسهّل على ربات البيوت وطلاب المدارس عملية المقاطعة، حيث أصبحت لجان المقاطعة أحد مرتكزات العمل النقابي.


نتائج عملية إيجابية للمقاطعة


لكن تلك الأمور لم تعد متاحة حاليا في ظل الأجواء غير الديمقراطية التي تعيشها البلاد، ورغم أن مقاطعة المنتجات الأجنبية المنتمية للدول الأوربية المساندة للعدوان الإسرائيلي، تصب في صالح تشجيع المنتج الوطني الذي يعاني محليا من منافسة الشركات الأجنبية وشركات الجيش معًا، فإن اتحاد الصناعات المصرية لم يشارك في حملة المقاطعة، بسبب أجواء الريبة التي تحيط بالموقف الرسمي الحقيقي من غزة.


ورغم أن تلك المقاطعة تقلل الطلب على الدولار الذي تعاني مصر من نقصه، فإن اتحاد الغرف التجارية المصرية لم يشارك في حملة المقاطعة، بل على العكس وجدت الحملة انتقادا من بعض المسؤولين به، لكن عددا من التجار تفاعلوا بشكل فردي مع حملة المقاطعة، وسعوا إلى توفير السلع المحلية البديلة التي زاد الإقبال عليها.


ورغم بعض الأصوات الإعلامية التي تقلل من جدوى المقاطعة وتثير شكوكًا مغلوطة حولها، فإن التيار العام استمر في المقاطعة، حتى أصبح بعض تجار الجملة يشترطون على تجار التجزئة، شراء كمية من المياه الغازية التي يقاطعها الجمهور، عند بيع كميات من البديل المحلي من المياه الغازية لهم.


كما تراجعت مبيعات العديد من العلامات التجارية لسلع أجنبية بسبب المقاطعة، وخلت مطاعم عديدة تتبع علامات تجارية تتم مقاطعتها من الزبائن، وها هي إسرائيل نفسها تغير الرقم الدولي لسلعها من 729 إلى 871 للتحايل على جمهور المتعاملين.


 مقاطعة عربية منذ عام 1945


وإذا كان الجيل الحالي يربط المقاطعة الحالية بحركة مقاطعة إسرائيل (بي دي إس)، التي أطلقتها مجموعة منظمات مجتمع مدني فلسطينية عام 2005 لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، والدعوة إلى سحب استثمارات الشركات منها وفرض العقوبات عليها، بسبب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الفلسطينيين بالأراضي المحتلة، فقد سبق ذلك تبني جامعة الدول العربية للمقاطعة الاقتصادية للمستعمرات اليهودية عام 1945.


وعندما أصدر مجلس الأمن قرارا عام 1951 لإجبار الدول العربية على ضمان وصول النفط إلى إسرائيل، فرضت جامعة الدول العربية رقابة مشددة على ناقلات البترول بالموانئ العربية حتى لا يصل بترولها إلى إسرائيل.


وفي مايو 1951 أنشأت الجامعة العربية جهازا لمقاطعة إسرائيل، وفي 1954 أقرت الجامعة قانونا موحدا للمقاطعة، يحظر على كل شخص طبيعي أو اعتباري عقد اتفاق مع أشخاص أو هيئات إسرائيلية، سواء كان نوع الاتفاق تجاريا أو عمليات مالية أو أي تعامل آخر أيًّا كانت طبيعته.


وكان مكتب المقاطعة يضع قائمة كل ستة أشهر بالشركات الإسرائيلية التي يحظر التعامل معها، ضمن المقاطعة من الدرجة الأولى، وللشركات التي تتعامل مع إسرائيل وذلك ضمن المقاطعة من الدرجة الثانية، وأيضا الشركات التي تتعامل مع الشركات التي تتعامل مع إسرائيل، وهي مقاطعة من الدرجة الثالثة.


وأثبت سلاح المقاطعة فاعليته خاصة خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث حرم إسرائيل من العديد من الاستثمارات واضطرّها إلى جلب المواد الخام من أماكن بعيدة؛ مما زاد من تكلفة النقل، حتى أطلقت القيادات الإسرائيلية على المقاطعة كماشة الموت، وشنّ بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل عليها حملة دولية.


 أمريكا تحارب المقاطعة منذ عقود


وتدخلت الولايات المتحدة بإصدار قانون عام 1965 لمناهضة المقاطعة، يلزم المؤسسات الأمريكية بعدم تزويد مكتب المقاطعة العربية بالمعلومات التي يطلبها عن علاقتها بإسرائيل، كما صدر قانون أمريكي آخر عام 1977 ينص على عقوبة بالحبس مدة خمس سنوات وغرامات مالية على الشركات التي ترد على الاستبيانات التي تستخدمها بعض الدول العربية من أجل فرض المقاطعة على إسرائيل، رغم استخدام الولايات المتحدة سلاح المقاطعة مع الدول التي تختلف معها سواء الاتحاد السوفياتي أو كوبا أو غيرهما.


وجاء اتفاق السلام المصري الإسرائيلي عام 1979 ليحدث شرخا كبيرا في المقاطعة العربية، وعزز ذلك الوجود الأمريكي بالمنطقة العربية بعد حرب عاصفة الصحراء عام 1991، حيث تعرضت الدول الخليجية لضغوط أمريكية لوقف مقاطعتها لإسرائيل، كما قاد اللوبي الصهيوني عام 1993 حربا شرسة في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة وهولندا وكندا وألمانيا، لوضع تشريعات تجارية تعاقب الشركات الغربية التي تستجيب لمبادئ وقرارات المقاطعة العربية.


وهو ما قامت الولايات المتحدة به بالفعل، إذ فرضت عقوبات على الدول العربية التي تصر على المقاطعة، كما صدر قرار بمنع بيع الأسلحة الأمريكية عن الدول التي تمارس المقاطعة، وجاء اتفاق مدريد عام 1991 بين بعض الدول العربية وإسرائيل، واتفاق أوسلو عام 1994 بين الفلسطينيين وإسرائيل، وتوقيع الأردن اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل عام 1994، ضربات قوية متتالية للمقاطعة، وتلا ذلك عقد مؤتمرات سنوية للتعاون الاقتصادي لبناء شرق أوسط جديد، بين إسرائيل وعدة دول خليجية ودول عربية أخرى بين عامي 1994 و1997.


ورغم كل ما سبق فما زالت الشعوب العربية والإسلامية تستطيع استخدام سلاح المقاطعة، بعدم استهلاك جانب من 453 مليون مواطن عربي، أو من سكان دول منظمة التعاون الإسلامي البالغ عددهم مليارًا و910 ملايين نسمة، للسلع التي تنتجها شركات الدول المساندة للعدوان على غزة، حيث بلغت قيمة الواردات السلعية العربية العام الماضي تريليونًا و152 مليار دولار، يرتفع إلى تريليونَين و556 مليار دولار للواردات السلعية لدول منظمة التعاون الإسلامي.


كما بلغت قيمة الواردات الخدمية العربية العام الماضي 338 مليار دولار، ترتفع إلى 582 مليار دولار للواردات الخدمية لدول منظمة التعاون الإسلامي، مع الحرص على طول فترة المقاطعة حيث تصر الدول الغربية على فرض واقع جديد بفلسطين مغاير للآمال والحقوق العربية، مستغلة التخاذل والتهاون بل والتواطؤ من قبل العديد من الحكام العرب والمسلمين.


مع تذكر أن المستوطنين اليهود الذين جاؤوا في هجرات إلى فلسطين، هم أول من استخدم المقاطعة اتجاه الفلسطينيين أصحاب الأرض، في بدايات العشرينيات من القرن الماضي حين أعلنوا شعاري العمل العبري والسوق العبرية.


ويقصر الشعار الأول العمل على اليهود في منشآتهم الاقتصادية وعدم تشغيل العرب، ويدعو الشعار الثاني إلى عدم التبادل التجاري مع العرب، وإقامة الاتحاد العام للعمال اليهود (الهستدروت) ليكون الجهاز المختص بتنفيذ شعاري عبرية العمل والسوق.