ساري عرابي

كاتب وباحث فلسطيني مهتم بالفكر الإسلامي

 

يصحّ القول إنّ في الضفّة الغربية حالة كفاحية ممتدة منذ العام 2015، ولو قيل منذ العام 2014، لم يكن ذلك بعيدًا عن الصواب، فأسر مجموعة من حركة حماس في مدينة الخليل لثلاثة مستوطنين إسرائيليين في العام 2014؛ دفع بالاحتلال لتكثيف عملياته اليومية في مناطق الضفّة الغربية جميعها، وهو ما ساعد على زيادة الاحتكاك الشعبي المقاوم به في تلك المناطق، إلى أن تحوّل الجهدي العسكري للاحتلال إلى حرب على قطاع غزّة، هي ما تزال إلى اليوم الأطول في تاريخ هذه الحروب، وفي رأيي، الأكثر أهميّة من حيث الإنجاز الميداني للمقاومة في قطاع غزّة.

 

لماذا نؤرّخ بهذا العام 2015، أو 2014؟!

التأريخ من هذه البداية، يرجع إلى التحوّلات الميدانية والاجتماعية والسياسية، في ساحة الضفّة الغربية، بالقياس إلى ما كانت عليه قبل ذلك، وتحديدًا منذ العام 2007، أي العام الذي يُعدّ التحقّق الفعلي لما صار يُسمّى بـ"الانقسام الفلسطيني"، والذي كان تحقّقه في الضفّة الغربية مختلفًا عمّا هو عليه الحال في قطاع غزّة. فإذا كانت صورته في غزّة تكرّسًا لإدارة حركة مقاومة للقطاع، فإنّ هذه الحركة نفسها، أي حماس، عانت من عمليات استئصال ممنهج في الضفّة الغربية، كانت في جوهرها قنطرة لتجريف الحركة الوطنية في عمومها، ومحورًا لعمليات الهندسة الاجتماعية، واجتراح ثقافة بديلة، مسنودة إلى سياسات اقتصادية ضرورية لعمليات الهندسة الاجتماعية.

 

لكن ليس فقط لأنّ الحركات الشعبية المنبثقة عن عمق الجماهير يستحيل اجتثاثها مهما كان الثقل اللحوح للحملات الأمنية المركّزة والفائقة، وإنّما أيضًا لأن حرب العام 2014 في قطاع غزّة، توفّرت على عناصر إلهام عالية غير مسبوقة، كان من شأنها الانعكاس في صورة "هبّة القدس" أو "هبّة السكاكين" في العام 2015 في الضفّة الغربية، وهي الهبّة المؤسّسة لمجمل الحالة الكفاحية التي ظلّت تحوّل في أنماطها حتى الساعة، ومن ثمّ لم يكن غريبًا أن تفوز الكتلة الإسلامية، التابعة لحركة حماس، في جامعة بيرزيت عام 2015، لأوّل مرّة منذ ما سّمّي الانقسام، وبنسبة غير مسبوقة في سجلّ فوزها، ثمّ لترفع هذه النسبة مجدّدًا في العام 2022، بعد "معركة سيف القدس" في العام 2021.

 

وأخيرًا هذا العام، تفوز الكتلة الإسلامية بانتخابات مجلس طلبة جامعة النجاح، في فوز كان يُعدّ مستحيلًا، لا بسبب حملات الإقصاء الحادّ التي صُبّت على الحركة وروافدها التنظيمية فحسب (قُتِل أحدّ طلاب الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح عام 2007، وحظرت الكتلة فعليًّا في مراحل متعدّدة بعد ذلك، وهذا فضلًا عن كون الكتل الإسلامية ملاحقة أمنيًّا وقانونيًّا من الاحتلال)، بل وللانعكاس الدعائيّ الضارّ لما سمّته حماس "الحسم العسكري" في قطاع غزّة، في وعي الجماهير في الضفّة الغربية، وما تلا ذلك من تحوير ممنهج في بُنى المؤسسات التعليمية العليا في الضفّة الغربية.

 

ليست القضية هي حركة حماس، فليست هي الفاعل الوحيد في مشهديّة المقاومة في الضفّة، ولكن استعادة حماس لمكانتها الجماهيرية في الضفّة، مؤشّر مهمّ على التحوّلات السياسية والاجتماعية الحاصلة من بعد العام 2014، والتي لا تعود إلى حرب العام 2014 فحسب، فالتحوّلات التي من هذا النوع، حصيلة عوامل كثيرة، يستحيل رصدها وإحصاؤها كلّها، ولكنّ كلّ عامل منها مهمّ، مهما صغر، بحيث يمكن القول إنّه ليس لهذه الحصيلة التكوّن دون أدنى عامل من تلك العوامل. فقد أخذ مشروع السلطة الفلسطينية مداه سياسيًّا واجتماعيًّا من بعد العام 2007، ولم يكن لهذا المدى أن يطول أكثر، مع تفاقم المشاريع الاستيطانية، وانكشاف الإرادة الاستعمارية من مشروع السلطة بنحو أكثر وضوحًا، وهو ما يؤكّد على أنّ الاحتلال لا يمكنه أن ينزل عن وقائعه الاستعمارية إلا بمقاومته، وهذه المقاومة وحدها الكفيلة بالصياغة الصحيحة للمجتمع الفلسطيني.

 

إلا أنّ حضور هذه الحالة الكفاحية الممتدة في الضفة الغربية يتخذ تصوّرات غير دقيقة في الخطابات المهتمّة بهذه الحالة، من وصفها بالانتفاضة، إلى التقليل المتكرّر من شأنها، وفي الأثناء تبقى في نوع من المقارنة مع الحروب التي خاضتها المقاومة في غزّة، دون أدنى اعتبار للظروف المتباينة بين الساحتين، نتيجة عمليات الفصل الاستعماري الحادّ بين ساحات الفلسطينيين، وهو ما ينمّ عن غياب التثقيف الكافي بين مجمل ساحات الفلسطينيين بالسياقات العامّة للقضية الفلسطينية، بما في ذلك لدى فصائل المقاومة، وبالتجلّي الذي يُلاحظ أحيانًا في سجالات الفلسطينيين بين تلك الساحات، إذ ينتقل التقدير للإسهام النضالي في ساحة الضفّة، فجأة ومرّة واحدة، إلى التساؤل المشكّك بوجوده عند أيّ حدث لا يتبعه ردّ مباشر، كعدوان على المسجد الأقصى أو على قطاع غزّة، وهكذا..

 

ودون الدخول في نقاش واسع حول قضية المصطلحات، فإنّ المعنى المستقرّ للانتفاضة في الوعي العامّ، استفاده الفلسطينيون من القدر المشترك من الانتفاضتين الأولى والثانية، أي سعة الفعل والمساهمين فيه على مستوى جغرافيا العام 1967، والاستمرارية الزمنية، بالرغم من كون الانتفاضة الثانية أضيق من جهة المساهمة الجماهيرية بسبب طبيعتها العسكرية التي تحوّلت إليها سريعًا مما يجعلها أكثر نخبوية، وقد كان موقف السلطة في الانتفاضة الثانية مساعدًا في اتساع مساحة الفعل والمساهمين فيه على طول تلك الجغرافيا وعرضها.

 

من العوامل التي حالت دون الحدّ من السعة متعددة العناصر (الفعل، العنصر البشري، الجغرافيا) في الانتفاضة الثانية، بالرغم من طبيعتها النخبوية، موقف السلطة كما سلف قوله، (ممّا أضعف الانقسام إزاء طبيعة الفعل النضالي نفسه وهو ما ساهم في إيجاد قدر من الوحدة النضالية والشعبية)، وتشابه الظرف السياسي بين غزّة والضفّة، وتصرّف الاحتلال الذي أشرك الجماهير بالإحساس العميق بالحالة من خلال عمليات الاجتياح والقصف والقتل الواسع وتقطيع الطرق وفصل المناطق داخل الضفة عن بعضها، وقدرة الفصائل في أوّل ثلاث سنوات من تلك الانتفاضة على تكثيف الفعل النضالي، مما وفّر شعورًا عارمًا بحالة شديدة الحضور اليومي على مدار اللحظة.. كلّ هذه العوامل لا وجود لها اليوم.

 

ما يجري في الضفة اليوم أسمّيه بـ"الحالة الهجينة"، فثمّة تحوّلات في صورة الفعل المقاوم، نحو المزيد من التمظهر التقليدي (تشكيلات مسلحة في شماليّ الضفة الغربية)، عودة متكرّرة للعمليات الفردية بين فترة وأخرى، والنجاح الملهم لبعض هذه العمليات، اضطرار الاحتلال لإجراءات واسعة نسبيًّا، كالحصار الذي فرض على نابلس أواخر العام 2022، وفرض على أريحا بعض الأوقات هذا العام، وارتفاع عمليات الاقتحام والاغتيال ومن ثمّ أعداد الشهداء، إلا أنّه في المقابل ثمّة قدر من الانفصال اليومي عن الحدث في عموم الضفّة الغربية، بالنسبة للتفاعل الشعبي والجماهيري، وهذا ناجم أساسًا عن غياب أحدّ أهمّ شروط توسّع الحالة وإشراك الجماهير بها، وهو غياب الانقسام على الفعل. ما يوفّر الإجماع على الفعل، من بعد تأسيس السلطة، هو موقف السلطة، ودون هذا الموقف ينتفي الإجماع، وتبقى قدرات الفصائل على استعادة عافيتها وتأطير الجماهير محدودة.

 

ثمّة عوامل أخرى، تحدّ من طبيعة الفعل النضالي الجاري في الضفّة، وشكله، منها القدرات الأمنية الهائلة التي طوّرها الاحتلال منذ نهاية انتفاضة الأقصى، بما في ذلك أدوات الضبط والسيطرة، والسياسات الاقتصادية الهادفة إلى استيعاب الجماهير، والتي لا يمكن أن تتلاشى نتائجها مرّة واحدة، لا سيما أنّها مستمرّة وصارت جزءًا نسيجيًّا من المشهد. ويضاف إلى ذلك حرص الاحتلال على إبقاء سياساته العدوانية دون الحدّ الذي من شأنه أن يشرك الجماهير في الحالة أكثر، فقط ارتفاع مستوى العمل النضالي كمًّا وكيفًا؛ هو الذي يكسر من سياسات الاحتلال المدروسة، إلا أنّ هذا الفعل، مرّة أخرى كمًّا وكيفًا، مرتبط بموقف السلطة المحلّية وسياساتها.

 

إدراك ذلك ضروري للفصل بين الرغبات وبين التصوّر الدقيق للوقائع، ومن ثمّ، وعلى أهمية التشكيلات المسلحة في شماليّ الضفّة الغربية، في إلهام الجيل الجديد وتعزيز ثقافة المقاومة من جديد في مقابل سياسات الهندسة الاجتماعية التي مورست لسنوات طويلة، فإنّ ديمومة تلك التشكيلات لفترات طويلة؛ كانت محلّ شكّ من البداية، إد إنّ عمليات التفكيك والاستيعاب ظلّت مستمرّة بتلوينات واسعة التنوّع، وهو ما كان ينبغي أن يدفع عناصرها وداعميها للانتقال الفعّال نحو نمط جديد من العمل، يتجاوز الحالة الاستعراضية، نحو حالة أكثر إنتاجية وتأثيرًا وقبولًا للاستمرار واستعصاء على التفكيك والاستيعاب، لاستثمار الوقت المحدود في أحسن توظيف ممكن لطاقات العناصر الأكثر استعدادًا للتضحية، وإلا لجرى استهلاك هذه العناصر دون ذلك الاستثمار الذي توفّرت له فرصة تاريخية قد لا تتكرّر قريبًا.

 

ثمّة عوامل حالت دون القدرة على هذا الانتقال المطلوب، منها التفكير التأسيسي لبعض القوى التي كانت أكثر نجاحًا في تكوين هذه التشكيلات ودعمها، بما يغيّب القراءة الدقيقة للواقع والرؤية الاستراتيجية للنضال، لصالح الصورة، صور فعل ما بغض النظر عن نوعه وأثره، وصورة الحضور التنظيمي، مع أنّ التعقيد الذي يسِم الصراع في فلسطين، ينبغي دائمًا أن يفرض بصيرة أوسع، تراعي الإستراتيجي، وتُعنى بتوحيد الرؤى والبنى والأهداف والأفكار، على حساب المصالح الضيّقة، والتي هي لضيقها ستبقى دائمًا غير قابلة للثبات والتكرّس.