نتناول في السطور التالية مذكرات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، التي يتحدث فيها عن حياته فيما بعد المرحلة الجامعية وقد ذكرنا في الحلقات السابقة، كيف أثرت حياة القرية في نشأته، والتحاقه بالكتاب ثم بالمعهد الأزهري وتعرفه بدعوة الإخوان وكيف أثرت فيه وكفاحه هو وإخوانه ضد الإنجليز ودوره الدعوي مع جماعة الإخوان أثناء التحاقه بكلية أصول الدين، ليسرد لنا العلامة جزءا جديدا من حياته بعد المرحلة الجامعية.

 

حرمانه من التعيين

يحكي العلامة الدكتور يوسف القرضاوي جانبا من معاناته وحرمانه من تحقيق حلمه في التعيين في المعاهد الأزهرية، بعدما صدر قرار أمني باستبعاده من التعيين قائلا: " بعد ما تخرجت في كلية أصول الدين- وجدت أمام تخصصان علي أن أختار أحدهما: الأول وهو تخصص الدعوة والإرشاد، والآخر هو تخصص التدريس، ولم أتردد في اختيار الثاني".

ويتابع العلامة: "على الرغم من أن هيأت للأزهر نفسي وأن حياتي العملية بعد تخرجي ستكون كلها في رحاب الأزهر، فمن حقي -باعتبار تفوقي- أن أُعيَّن مدرسًا في معاهد الأزهر، ومن واجبي: أن أظل حاملًا راية الإصلاح للأزهر، التي حملتها وأنا طالب، وأن أتعاون في ذلك مع إخواني العاملين فيه من أبناء الأزهر المهمومين بقضيته وقضية الإسلام معه بل قبله".

وأضاف: "لكن الأقدار لم تسعدني بتحقيق ما أردت وما أعددت له عدتي؛ فمُنعت من التعيين في الأزهر، وإن عدت إليه فترة قليلة من الزمن (نحو ثلاث سنوات) لا في التدريس ولا في الوعظ، ولكن في الإدارة العامة للثقافة الإسلامية، مع الأستاذ الكبير الدكتور محمد البهي رحمه الله، في المكتب الفني لإدارة الدعوة والإرشاد مع مدير الوعظ في ذلك الوقت العالم الجليل الشيخ عبد الله المشد رحمه الله، وذلك في عهد شيخنا الأكبر الفقيه العلامة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله".

 

أنا والأزهر

تحدث العلامة عن دوره الكبير في إصلاح الأزهر الشريف حيث ذكر: "ما زلت أذكر آخر مؤتمر عقدناه -وأنا طالب في تخصص التدريس أواخر سنة 1953م- في ساحة كلية الشريعة بالدرّاسة، حضره أبناء الكليات الثلاث، ومعهد القاهرة، ومعهد البعوث، وتحدثت فيه طويلًا -باسم إخواني ونائبًا عنهم- عن مطالبنا وتطلعاتنا الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية".

وتابع: في هذه الفترة التي بدأت بعد أن أُوقفت معارك القناة، التي شارك فيها الأزهر بكتيبته التي ذهبت إلى الشرقية، واحتفل بها في قاعة الشيخ محمد عبده بالدَّراسة في يوم من أيام الأزهر الخالدة.. عدنا إلى القاهرة لنوجّه عناية أكبر إلى إصلاح الأزهر من داخله، وبعث الحيوية في كلياته ومعاهده؛ ليتبوأ مكانه في قيادة الأمة تحت لواء الإسلام كما كان من قبل".

وأضاف: "بعد تفكير وبحث وحوار بين مجموعة من الأزهريين الواعين والمخلصين لقضية الأزهر، وقضية الإسلام، منهم: أحمد العسال، وعلي عبد الحليم محمود، ومحمد المطراوي، ومحمد الراوي، وصلاح أبو إسماعيل، ومحمد عبد العزيز خالد، ومحمد الدمرداش مراد، ومحمد الصفطاوي، وغيرهم ممن قضى نحبه وممن ينتظر؛ قررنا أن ننشئ لجنة سميناها "لجنة البعث الأزهري". وليسمح لي القارئ أن أنقل له هنا أهداف هذه اللجنة ووسائلها كما وجدتها في أوراقي القديمة".

 

القضية الكبرى

وتابع الأمام في مذاكراته في وصف دوره في إنشاء لجنة البعث الأزهري، حيث قال: قد كلفني الإخوة الزملاء مؤسسو اللجنة أن أبدأ بكتابة الرسالة الأولى من رسائلها المعرِّفة بها والمعبرة عن مهمتها؛ ولم تكن أمامي إلا الاستجابة لهذه الرغبة وكتبت رسالة بعنوان "رسالتكم يا أبناء الأزهر"، وتمت الرسالة وذهبت بها إلى المطبعة (دار الكتاب العربي)، وذلك في أواخر سنة 1953، ولكن أحداثًا قاهرة حدثت في أوائل سنة 1954، انتهت بنا إلى معتقل العامرية، ثم إلى السجن الحربي؛ فتوقف عمل اللجنة، كما توقف طبع الرسالة، واسترددتها بعد ذلك من المطبعة. وظلّت مطمورة ضمن أوراقي التي سلمت من الضياع في المحن المتتابعة التي لحقت بدعاة الإسلام في مصر.

وحين بعث إليّ بعد ذلك بأكثر من عشرين سنة الأخ الأستاذ الدكتور الحسيني أبو هاشم الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية والأخ الدكتور عبد الودود شلبي المشرف على العدد التذكاري لمجلة الأزهر بمناسبة عيده الألفي سنة 1997م بطلب كتابة مقالة عن الأزهر في هذا العدد؛ رجعت إلى أضابيري (الأضبارة -بالفتح والكسر- هي الحزمة من الصحف)؛ لأجد الرسالة القديمة مكتوبة بخط الأخ الحبيب الشاعر الأديب محمد حوطر، الذي طالما سجّل بقلمه أحاديثي وخطبي بمدينة المحلة الكبرى.

ولقد وجدت أن في الرسالة أفكارًا ومعانيَ يجب أن تُنشر من جديد، وإن كانت تحمل حرارة الشباب وحماسه المتوقد، كما رأيت أن أُعمل فيها يد التهذيب والإضافة والحذف والتعديل، وإن بقيت في جوهرها كما كانت قديمًا، ومما حذفت منها مقدمتها؛ لأن شدتها لم تَعُد مناسبة للأوضاع، كما حذفت بعض المباحث لعدم ملاءمتها لما جدّ من أحوال؛ ولأن بعض ما نادت به قد تحقق فيما بعد.

 

الاعتقال الأول في عهد الثورة

في مساء يوم 13 يناير 1954 تعرض العلامة الدكتور يوسف القرضاوي للاعتقال، حيث قال :"في مساء اليوم التالي (ليوم القاء محاضرة بدار الإخوان ببنها) ذهبت أنا والأخ أحمد العسال ـ وكنا زميلين في الدراسة ـ إلى كلية اللغة العربية في الدرَّاسة، لنحضر كعادتنا المحاضرات المقررة علينا في تخصص التدريس، ما كدنا ننزل من الحافلة (الأوتوبيس) ونصل إلى الباب؛ حتى وجدنا من يترقبنا، من رجال المباحث، ويأخذ بأيدينا في يسر، ويقول: تفضلوا معنا، ولم يكن لنا بد من أن نتفضل معهم. كل ما طلبناه منهم أن نذهب إلى البيت، لنضع كتبنا الدراسية هناك، ونأتي ببعض الملابس، ولم يمانعوا في ذلك، وأُخذنا إلى السجن الحربي، لمجرد أن نبيت فيه ليلة أو ليلتين، ثم أخذونا بعد ذلك إلى معتقل "العامرية" بالقرب من الإسكندرية".

 

معتقل العامرية

ويضيف: "هناك عملنا على تحويل المعتقل إلى جامع وجامعة وجمعية: جامع للعبادة، وجامعة للتثقيف، وجمعية للتعاون على الخير.

وما هي إلا أيام قليلة ونحن في معمعة هذا النشاط؛ حتى نودي على ستة من المعتقلين دون غيرهم، ليُنقَلوا إلى القاهرة، كنت واحدًا منهم. وهم: محمود عبده، وعز الدين إبراهيم، ومحمود حطيبة، ومحمود نفيس حمدي، وأحمد العسال، ويوسف القرضاوي. في أول الأمر ظن الإخوان أن هذا أول كشف من كشوف الإفراج! ولكن بالنظر في الأسماء التي نودي عليها؛ يستحيل أن يُفرج عنها قبل غيرها، وهم من قادة العمل الطلابي والشبابي والدعوي".

 

إمام بأمر المرشد!

وتحدث الإمام القرضاوي عن مرحلة الاعتقال في السجن الحربي، حيث قال: "أُخذنا نحن الستة في سيارة كبيرة، ووصلتنا إلى مكان في ضواحي القاهرة، أُدخلنا إليه؛ فإذا هو السجن الحربي الذي بتنا فيه ليلة اعتقالنا، وقد وضعنا في سجن رقم (4) في زنازين انفرادية، وكان هذا هو السجن الذي ضم بعد ذلك الأستاذ الهضيبي المرشد العام وعددًا من قادة الإخوان.

ورغم أن كلًا منا في زنزانة انفرادية؛ فقد سمحوا بفتح الزنازين معظم النهار، وكنا نتزاور، ونصلي في جماعة، وقد أمرني الأستاذ المرشد أن أكون إمامًا لهم، فكنت أصلي بهم، وأطيل في الصلاة الجهرية، بحيث أقرأ ربعًا أو أكثر أحيانًا في الركعة؛ فنصحني الأستاذ أن أخفف، وكان هذا من فقهه رحمه الله، رعاية للكبير والضعيف وذي الحاجة، وهذا ما جعل بعض الإخوان بعد ذلك إذا التقينا في مناسبة ما؛ يقدمونني للصلاة بهم، ويقولون: أنت الإمام بأمر المرشد.

ومما عرفناه ونحن في السجن الحربي: أن الأستاذ الهضيبي بعث برسالة إلى الرئيس محمد نجيب، تتضمن بعض النصائح، ويطالبه فيها بإعادة الحريات والحياة النيابية إلى الشعب، ومما أذكره مما جاء في هذه الرسالة قوله: إنكم عبتم على الأحزاب والزعماء قبل الثورة: أنهم لم يقولوا للملك وبطانته: لا، حيث يجب أن تقال. وأنتم بموقفكم من الإخوان تمنعونهم أن يقولوا لكم: لا، حيث يجب أن تقال".

 

الإفراج عن المعتقلين إلا القرضاوي!

ويسطرد: "في يوم 25 مارس 1954، أي بعد حوالي شهرين ونصف من بدء الاعتقال؛ صدرت الأوامر من قيادة الثورة بالإفراج عن الإخوان في كل المعتقلات، سواء من كانوا في السجن الحربي أم في العامرية أم في غيرهما.

ونودي على جميع الإخوان الذين كانوا في السجن الحربي، فأُفرج عنهم إلا واحدًا، لم يُناد عليه، وهو أنا، وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح الغد جاءني الضابط المسؤول، وقال لي: لقد صُحِّح الخطأ، وجاءت الأوامر بالإفراج عنك، ونأسف لما حدث، وسنأمر بسيارة توصلك إلى منزلك، تكفيرًا عن غلطة الأمس".

 

الاعتقال الثالث

وعن ملابسات الاعتقال الثالث قال القرضاوي: "رغم الخروج من المعتقل إلا أن التوترات السياسية اشتدت وطيسا، وقد كنت في هذه الأيام الساخنة المتوترة أتهيأ للامتحان في الفصل الثاني والنهائي في تخصص التدريس. وقبل أول أيام امتحاني في تخصص التدريس حدث حادث مهم بالنسبة لي؛ فقد فتشت المباحث شقتنا التي نسكن فيها بشارع راتب باشا بشبرا، واعتُقل زميلي الذي يعيش معي في حجرتي، وهو الأخ محمود نعمان الأنصاري، الطالب بكلية الآداب الذي ضبط بحوزته كمية من المنشورات المحظورة، وكانت الشقة تتكون من أربع حجرات كل حجرة يسكن بها شخصان. وكان محمود زميلي في نفس الحجرة فلما قُبض عليه وسألوه: لمن هذا السرير في حجرتك؟ فقال: هو لفلان.

فانتظروني حتى عدت في المساء؛ ليسوقوني إلى قسم روض الفرج الذي نتبعه، وأنا لا أعلم شيئًا عن المنشورات التي ضُبطت عند زميلي محمود. وهذه الأيام في غاية الأهمية عندي؛ لأنها أيام الامتحان النهائي لإجازة التدريس، بعد دراسة سنتين. وقد أوصيت بعض زملائي في الشقة أن يتصلوا بأستاذنا البهي الخولي ليتوسط في الإفراج عني لأداء الامتحان، وأن يتم ذلك على وجه السرعة؛ فالامتحان في الساعة الثامنة صباحًا.

وقضيت هذه الليلة الليلاء ساهرًا، لم يغمض لي جفن، لا من أجل عشق ليلى وسُعدى، كما قرأنا للشعراء العشاق، ولكن خوفًا على الامتحان الذي لو ضاع فربما لا أعوضه إلا بعد سنين أو ربما لا أعوضه أبدًا؛ فقد كنا مهددين بالاعتقال ما بين حين وآخر.

وحوالي الساعة السابعة والنصف صباحًا نودي علي بالإفراج، ولم أكد أغادر باب القسم، حتى ركضت ركض الفرس، لأصل إلى شارع شبرا، لآخذ أول سيارة أجرة (تاكسي)، لأصل بها إلى مقر الامتحان في "الدَّرَّاسة"، وقد دق الجرس، فظللت أعدو، حتى دخلت الفصل وأنا ألهث وأتصبب عرقًا، وسُمح لي بالدخول بعد مرور عدة دقائق. وأديت الامتحان على ما يرام، وقد شعرت بتوفيق الله تعالى لي في إجابتي عن الأسئلة، رغم أرقي الطويل تلك الليلة.

 

فترة ما قبل الاعتقال بعد حادث المنشية

ويضيف: "تركت الشقة التي كنت أسكن فيها بشارع راتب باشا في حدائق شبرا، حين عرفت أنهم يسألون عني؛ لأنها أمست مصيدة لرجال المباحث، فمن دخل إليها فقد ذهب إلى المعتقل برجله، وكنت حريصًا على ألا أُعتقل في ذلك الوقت حتى تظهر نتيجة امتحان تخصص التدريس، وأُعين مدرسًا بالمعاهد الدينية، وأُثبت حقي في ذلك، ثم لا مانع أن أُعتقل بعدها.

هكذا كنت أتصور الأمر، وقد ظهرت النتيجة بالفعل، وكان ترتيبي الأول بفضل الله تعالى وتوفيقه على طلاب الكليات الثلاث: أصول الدين والشريعة واللغة العربية، وكان عددهم في تلك السنة 500 طالب. وبقي انتظار التعيين".

 

الاعتقال من بيت خالتي بطنطا

تركت القاهرة وذهبت إلى منزل خالتي بطنطا لمدة من الزمن، على أن أقبع داخل البيت ولا أخرج منه، حتى لا ينتشر خبر وجودي هناك، لكن خبر وجودي قد انكشف. 

كان الذين جاءوا للقبض عليَّ هم مباحث المحلة الكبرى، وسرعان ما استاقوني إلى تفتيش المباحث العامة بالمحلة، وكان على رأسه ضابط شرس، كأنه وحش مفترس، اسمه محمد شديد، وكان له من لقبه نصيب أي نصيب، فهو شديد فظ غليظ.

 

تعذيب وإهانات

قد استقبلني بالحفاوة اللائقة بمثلي: التعليق في الفلكة (آلة تعذيب بدائية للضرب على الأقدام)، والضرب بالسياط قبل أن يسألني سؤالًا واحدًا، ولكنه التشفي. ثم بدأ يحقق معي بتهمة الانضمام إلى الجهاز السري، وليس عنده من الوقائع أو الأدلة ما يثبت عضويتي في هذا الجهاز إلا دعوى رئيس الجهاز بالمحلة عبد الحميد الرفاعي، واتخذ من أساليب الإيذاء والتهديد كل ما في وسعه، فيجعل مني عنصرًا فعالًا في هذا الجهاز، ولم أكن كذلك.

بل بلغ هذا الرجل من سوء الأدب والجبروت أن طلب مني أن أضع حذائي فوق عمامتي، فلما قلت له: إن العمامة رمز العلم الإسلامي، وإهانتها إهانة للإسلام؛ سخر مني، وقال كلامًا أستحيي أن أذكره، وأمر أحد مخبريه أن يضع حذائي فوق عمامتي. قلت له: أكنت تصنع ذلك لو كانت عمامة سوداء؟! فلم يرد عليَّ.

 

السجن الحربي

ويضيف الشيخ: "بعد أن انتهت التحقيقات معي في طنطا تم ترحيلي إلى السجن الحربي في مساء اليوم الذي صدر الحكم فيه على الأستاذ الهضيبي والإخوة الستة معه بالإعدام، وهم: عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، وإبراهيم الطيب، ويوسف طلعت، وهنداوي دوير، ومحمود عبد اللطيف، وحُوِّلوا من السجن الحربي إلى سجن آخر؛ ولهذا لم يُقَدَّر لي أن ألتقي بهم أو أراهم ولو من بعيد، كما رآهم الكثيرون، وهم صفوف أمام السجن، في خطوات عسكرية على أنغام أغنية أم كلثوم، وهي تغني: "يا جمال يا مثال الوطنية، أجمل أعيادنا المصرية، بنجاتك يوم المنشية"! وهي نفس الأغنية التي تحولت بعد ذلك وصارت: "أجمل أعيادنا المصرية، برئاستك للجمهورية"!

 

تعذيب وإهانات جديدة

عندما دخلت باب السجن الحربي كان جنود السجن يرقبوننا على أحر من الجمر، ليستقبلونا بالتحية اللازمة لأمثالنا: بالكرابيج تلهب ظهورنا، وبالشتائم تخرق أسماعنا، وبالمشاهد الرديئة تؤذي أبصارنا. كان الوطيس لا يزال حاميًا، والرحى الطحون تدور بقوة، لا تطحن الحب، بل تطحن البشر تحت حجريها: التعذيب البدني، والإهانة النفسية. إذ المقصود أن يسلخ الناس من آدميتهم، وأن يُعامَلوا كأنهم مواشٍ في حظائر، لا حرمة لهم ولا كرامة ولا حقوق، على أن المواشي في الحظائر يجب الرحمة بها والعناية بها؛ وإلا احتجت لأجلها جماعات الرفق بالحيوان في العالم. أما نحن فلم نر ولم نسمع ولم نقرأ أن أحدًا احتج لما نلقاه من عذاب وهوان.

 

محاكمة القرضاوي

بعد أن مكثنا أيامًا في السجن الحربي لا أذكر عددها، ولكنها ليست كثيرة، نودي علينا للذهاب إلى المحكمة، فحُشرنا في "لوريات عسكرية" ونزلنا منها محلوقة رؤوسنا جميعًا بالموس، وكان المحاكَمون في هذا اليوم من إخوان المحلة، وإخوان بسيون، وإخوان بين السرايات بالقاهرة، وكانت الأعداد كبيرة، والمحاكمات سريعة، قد لا تستغرق محاكمة الفرد أكثر من ثلاث دقائق أو خمس على الأكثر. وربما كانت محاكمتي من أطول المحاكمات نسبيًا، لما جرى فيها من نقاش لم يكن معتادًا.

وصدر الحكم علي بالسجن عشر سنوات مع إيقاف التنفيذ. وكان الذي يأخذ حكمًا مع إيقاف التنفيذ، أو الذي يأخذ حكمًا بالبراءة؛ يبقى في السجن، لا يغادره، حتى سُئل أحد الإخوة الظرفاء بعد الحكم: بماذا حُكم عليك؟ فأجاب: براءة مع إيقاف التنفيذ!

 

{إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ}

ويضيف: "في الأشهر الأخيرة لنا في السجن الحربي رأينا عجبًا، رأينا حمزة البسيوني المتكبر الجبار، الذي كان يتحدى الله جل جلاله فوق عرشه؛ يحاول التودد إلى الإخوان والتقرب منهم، والظهور بمظهر الحمل الوديع، وهو الذي كان يحمل وجه خنزير، وقلب وحش، وأنياب كلب عقور. فليت شعري ما هذه الوداعة التي هبطت فجأة عليه؟! وما هذا اللطف الذي يبديه لنا حين يكاد يمر يوميًّا لزيارتنا؟! وكيف تحول الذئب الكاسر إلى هرٍّ أليف؟! وما تفسير ذلك يا أولي الألباب؟!

يبدو أن حمزة البسيوني حين شعر بأن الأزمة قد بدأت تنفرج، وأن الإفراج عن المعتقلين قد بات وشيكًا، وأن هذا الحصن الذي يختبئ فيه لن يدوم له، وأن دوام الحال من المحال، أن الليل مهما يطل فلا بد له من فجر، وكان يخشى هو هذا الفجر أن تشرق أنواره، وأن يزول الظلام الذي يحتمي به، ويختفي في مسوحه السوداء.

لقد قُتل شر قِتلة بغير أيدي الإخوان. كان يسوق سيارته من الإسكندرية إلى القاهرة، وفي جنح الليل دخلت سيارته في سيارة كبيرة أمامها تحمل أسياخًا من الحديد، فمزقت الرجل الجبار شر ممزق، وقطعت جسده أشلاء، وكان ذلك أمام قرية من قرى المنوفية، فلما عرف الناس صاحب السيارة أمطروه بلعناتهم.

كنا نحن آخر مجموعة تغادر السجن الحربي في أوائل شهر يونيو «حزيران» (1956م)، وبقينا في سجن القلعة أسبوعين، تم الإفراج عنا - على ما أذكر - يوم 16 يونيو 1956م. ونُقلنا من القاهرة إلى طنطا، ومنها إلى المحلة الكبرى، ومباحثها العامة، التي تسلمتنا أولًا، وبعد أن أخذ عليَّ تفتيش المباحث التعهد اللازم بأن أبتعد عن كل نشاط سياسي؛ فكوا أسري، وأطلقوا سراحي، وكان بعض الأهل والأقارب ينتظرونني، فانطلقت معهم إلى القرية، حامدًا الله تعالى على ما حدث لي خلال تلك المدة التي انقضت كما تنقضي كل أحداث الدنيا".