منذ سيطرة قوات وحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل أبيض الحدودية، تزخر الصحف التركية بالعناوين التي تقول إن الوقت حان للتدخل العسكري في سوريا، وبالتسريبات التي تتحدث عن خطط عسكرية أعدت لمثل هذا التدخل، وعن اجتماعات أمنية رفيعة المستوى عقدت وتعقد لهذه الغاية.
 
وبالتزامن، صعد الرئيس رجب طيب أردوغان من لهجته وتأكيده المطلق بأنه لن يسمح بإقامة دولة كردية في مناطق الشمال السوري المحاذية لجنوب تركيا، والسؤال هنا: هل حقا باتت تركيا مستعدة للتدخل العسكري أم أنه لا جديد في الأمر، ولا يختلف الحديث الجديد عما سمعناه مرارا وتكرارا خلال السنوات الماضية؟
 
محنة الصعود الكردي
 
في الواقع، منذ أن احتضنت تركيا المعارضة السورية وقطعت علاقاتها بالنظام السوري عملت لتحقيق هدفين أساسيين، الأول: العمل على إسقاط النظام السوري عبر دعم المعارضة السورية السياسية والمسلحة والضغط من أجل إقامة منطقة أمنية عازلة والعمل لاستجلاب موقف دولي للتدخل العسكري. الثاني: عدم السماح ببلورة مكون كردي مستقل عن المعارضة السورية، ومحاولة دفع الكرد للانضمام إلى العمل المسلح من أجل إسقاط النظام السوري.
 
هذا التطلع التركي، رافقه سعي دائم إلى خلق واقع أمني عسكري على الحدود من خلال الدعوة إلى إقامة منطقة أمنية عازلة، تكون بمثابة مأوى للنازحين السوريين من جهة، ومن جهة ثانية منطلقا للمعارضة السورية المسلحة بغطاء جوي يشل قدرة طيران النظام، إلا أن المساعي التركية هذه لم تلق تجاوبا من الغرب وتحديدا الولايات المتحدة الأميركية.
 
بل حصل تباين في الأجندة بين أنقرة وواشنطن تجاه الأزمة السورية، وجاءت الحرب على داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) لتخلق فجوة كبيرة في مواقف الطرفين على شكل تناقض في الرؤى والإستراتيجيات. وبسبب كل ذلك تعقدت الأزمة السورية أكثر ولم يسقط النظام، بل بدعم من حلفائه (إيران، حزب الله، روسيا..) صمد كل هذه السنوات ونجح في البقاء، مستفيدا من سياسة الانكفاء الأميركية التي اتبعها باراك أوباما واستثمرها الروس.
 
بينما استفاد الكرد من استنزاف النظام عسكريا وسحب قواته من المناطق الكردية في إقامة إدارة ذاتية لها مؤسسات عسكرية وأمنية وإدارية واقتصادية، وفي فرض وقائع على الأرض، أثمرت انتصارات في وجه زحف داعش، حتى باتوا قوة يحسب لهم حساب، كما باتوا حلفاء موثوقين للتحالف الدولي في الحرب ضد داعش في سوريا والعراق.
 
وعليه، باتت تركيا وربما غيرها من الدول ترى أن المستفيد الأكبر من الأزمة السورية حتى الآن هم الكرد الذين نجحوا للمرة الأولى في تاريخ سوريا في بسط السيطرة على مناطقهم وبلورة كيان سياسي خارج معادلة النظام والمعارضة.
 
اليوم، وبعد سيطرة الكرد على تل أبيض، بات الطريق مفتوحا بين كوباني-عين العرب والمناطق الكردية في أقصى الشمال الشرقي المفتوحة أصلا على إقليم كردستان العراق، ثمة قلق تركي يتعاظم من أن يتمدد الكرد أكثر ويحاولوا إيصال هذه المناطق بمنطقة عفرين في أقصى الشمال الغربي بما يعني احتمال الوصول إلى البحر المتوسط، وبالتالي تغير بعض خرائط أنابيب النفط في المنطقة.
 
وحقيقة، فإن تركيا باتت ترى أن حدودها الجنوبية أضحت مع كيان كردي في شمال شرق سوريا، يستكمل ملامحه على الأرض على غرار ما جرى لإقليم كردستان العراق، ولعل ما زاد من المخاوف التركية هنا، هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يُعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني هو صاحب هذا المشروع، وهي تعتقد أن قيادة حزب العمال الكردستاني التي تتخذ من جبال قنديل مقرا لها تقف وراء كل ذلك.
 
بيد أن ما يؤرق تركيا أكثر ليس الصعود الكردي فحسب، وانما إحساسها العميق بأن حليفتها التاريخية، أي الولايات المتحدة هي التي تقف وراء ذلك، وأن الهدف النهائي من وراء هذا الصعود الكردي هو إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة ستكون الخاسر الأكبر منها تركيا، وهو ما تقول أنقرة إنها لن تقبل به مهما كلفها الأمر، بما يعني أن أولوياتها تجاه الأزمة السورية قد تتعرض للتغيير.
 
سيناريو التدخل
 
دون شك، ما سبق يعمق من محنة السياسة التركية اتجاه الأزمة السورية، ويزيد من الجدل بشأن الخيارات المطروحة في كيفية التعامل مع التحدي الكردي ليس على الحدود مع سوريا فحسب بل حتى في الداخل التركي خاصة بعد الفوز الكبير الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطية الكردي في الانتخابات البرلمانية والحديث عن انتهاء عملية السلام بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، وعليه ثمة من يتحدث عن سيناريو للتدخل العسكري في سوريا، يحمل الملامح التالية:
 
1- القيام بعملية عسكرية محدودة وتحديدا في منطقة جرابلس نظرا لأهميتها الأمنية في منع إقامة تواصل جغرافي بين المناطق الكردية على امتداد الشمال الشرقي، وبما يشكل هذا التدخل رسالة دعم للفصائل السورية المسلحة كالجيش الحر وجيش الفتح للتحرك في مواجهة الصعود الكردي.
 
2- إيجاد أرضية للوجود العسكري التركي في المنطقة الحدودية، ومحاولة جلب دعم أطلسي لهذه الخطوة بهدف خلق واقع أمني جديد على شكل رسالة حاسمة للكرد بأن تركيا لن تسمح بإقامة كيان كردي.
 
3- التحرك على المستوى السياسي إقليميا، ولاسيما على جبهة إيران وروسيا، من خلال القول إن تحركها هذا يهدف إلى منع تقسيم سوريا وإقامة كيان كردي في المنطقة.
 
4 - أن تمهد الخطوات السابقة لإقامة منطقة عازلة، وبما تؤدي إلى إيجاد مخرج لأزمة اللاجئين السوريين الذين تتزايد أعدادهم حيث تزداد أعباء تركيا وحجة المطالبة الداخلية بإيجاد حل لمشكلتهم.
 
مع أن ثمة تقارير تشير إلى أن هذا السيناريو بوشر به عمليا على الأرض من خلال الإجراءات الأمنية في المنطقة الحدودية وتحديدا المناطق الجغرافية التي سيتم الدخول إليها من قبل عشرين ألف جندي، وهي بطول 150 كيلومترا مربعا وعمق 35 كيلومترا مربعا، تمتد من منطقة تل أبيض إلى غرب جرابلس بهدف قطع الطريق أمام المشروع الكردي.
 
غير أنه، ورغم هذه التفاصيل وغيرها، ثمة من يتحدث عن صعوبة تنفيذ سيناريو التدخل العسكري بسبب رفض المؤسسة العسكرية وتحديدا رئاسة الأركان التي ترى في الأمر مغامرة بل ربما مؤامرة هدفها جر تركيا إلى مستنقع آسن كبير الهدف منه تركيا نفسها.
 
الحسابات والتداعيات
ثمة من يرى أن لحظة التحرك العسكري التركي ليس سوى تعبير عن أزمة أدوات السياسة التركية في التعامل مع الملف الكردي في المنطقة ككل، وهي سياسة تحمل مفارقات كبيرة، إذ كيف تتعامل أنقرة بإيجابية كبيرة مع إقليم كردستان العراق في حين ترفض أي انفتاح على المكون الكردي في سوريا؟
 
أبعد من هذه المفارقة، يرى كرد سوريا بأن ثمة قضية غير مفهومة تتعلق بإصرار تركيا على إظهار نفسها وكأنها ضد تطلعاتهم بما يعزز الشعور لديهم بأنها تدعم داعش ضدهم، بل يرون أنها تتقصد إظهارهم وكأنهم انفصاليون يريدون تقسيم سوريا في وقت لم ترفع الأحزاب الكردية لا في المجلس الوطني الكردي ولا حزب الاتحاد الديمقراطي مثل هذه الشعارات.
 
بل إن الأخير يرفض قضية الاستقلال الكردي في الأساس على اعتبار أن فلسفته السياسية ضد إقامة دولة مستقلة من منطلق أنها لم تعد تناسب واقع المنطقة، ويطرح بدلا من ذلك صيغة الحكم المحلي أو الفدرالي.
 
لكن كل ما سبق لا يبدو مقنعا لتركيا التي ترى أن أمنها بات مهددا بفعل الكيان الكردي الذي يتحول إلى دولة أمر واقع، وأنه لابد من التحرك على الأرض لوضع حد له، في حين يرى كثيرون أن الخيار العسكري سيفتح باب جهنم أمام تركيا بحكم التداعيات الكثيرة، ولعل أهمها:
 
1- أن التدخل العسكري سيضع نهاية لعملية المصالحة أو السلام مع كرد تركيا الذين يتواصلون عبر الحدود مع إخوانهم من كرد سوريا والعراق وإيران، وأن مثل هذا التدخل سيفجر العنف الكردي في تركيا من جديد في هذا التوقيت الحساس، ويزيد من الانقسام التركي في الداخل، وربما الصدام بين أردوغان والمؤسسة العسكرية التي لم تنس أن أردوغان هو من حجمها وأخرجها من الحياة السياسية، وهي لن تضيع فرصة للانقضاض عليه.
 
2- أن النظام السوري سيكون المستفيد الأكبر من هذا التدخل، إذ من شأنه جلب تعاطف شعبي عربي وربما رسمي معه من قبل بعض الدول العربية، باعتبار أن التدخل العسكري التركي سيكون بمثابة عدوان عسكري على دولة عربية.
 
3- أن الرد الإيراني والروسي والعراقي قد لا يكون كما تتوقعه تركيا أي مجرد إدانات وتهديدات، بل قد تتعداها إلى إجراءات ملموسة تفجر الوضع التركي في الداخل.
 
وتعود خطورة هذا الأمر إلى أن هذه الدول تجاور تركيا وتشكل طوقا جغرافيا من حولها، بما يعني أن عملية الرد عليه ستكون سهلة وبنفس الوقت صعبا لتركيا.
 
4 - أن الموقف الأميركي يشكل قلقا كبيرا لتركيا، خاصة وأن أنقرة ترى أن التحالف الأميركي مع الكرد في العراق وسوريا يتعزز يوما بعد آخر على وقع التحالف في الحرب ضد داعش، وفي العمق ثمة من يرى أن الإدارة الأميركية تأمل بأن تتورط تركيا في المستنقع السوري لأسباب تتعلق بتناقض أجندة الطرفين إزاء العديد من القضايا في الشرق الأوسط على اعتبار أن مثل هذا التورط سينتهي بإعادة النظر في مجمل السياسة التركية وربما التخلص من حكم أردوغان نفسه.
 
دون شك، محنة تركيا كبيرة، وأينما تقف تجد نفسها خاسرة، فهي واقعة بين سندان الرد على الصعود الكردي وبين جدل الخيار الصعب والخشية من تداعياته.
 
المصدر : الجزيرة