تمهيد :

 قضية إصلاح المجتمع هي القضية المحورية والأساسية التي جاءت بها الرسالة الخاتمة ، رسالة محمد بن عبد الله صلي الله عليه وسلم . لكن الإشكالية الكبرى التي واجهت المسلمين قديما وحديثا أن العلماء والمصلحين لم يعنوا كثيرا بالإصلاح الشامل المتكامل الذي يسوق الناس إلي باريهم باسم الله عز وجل ، الذي يبني نهضة ويؤسس حضارة باسم الله ، الذي يُرَشّد عمل العمال والجماهير والفلاحين –كلٌ في عمله- باسم الله ..

نجد كثيرا من المصلحين قد عنوا بجوانب وأزقة بعينها من البنيان الإسلامي الكبير ، مع أن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا للإصلاح والتقويم والإرشاد .. وما مقاصد التشريع التي تحدث عنها الأصوليون وأفردوها بالتصانيف إلا دليل علي ما نزعم ..

إصلاح العقيدة .. والشريعة .. والأخلاق ..

فإذا ما تم الإصلاح في تلك المحاور الكبرى انسحب الإصلاح بداهة إلي دوائر العلوم ، والسياسة والاقتصاد ، لأن هذه الفروع والتفاصيل إنما هي منبثقة من المحاور الكبرى..

وإن الإنسان ليعجب عندما يجد إماما كبيرا مثل الإمام السيوطي –المتوفى سنة 911ه- يخوض معارك شرسة –يسمونها معارك علمية- مع الإمام المحدث الكبير الحافظ السخاوي –المتوفي سنة 902ه- حول أمور تافهة ، لا مجال للاستفاضة فيها الآن ، وكذلك أثيرت في عصر هؤلاء العلماء قضية ابن عربي ، فصنف السيوطي "تنبيه الغبي لتبرئة ابن عربي" ، و "قمع المعارض في نصرة ابن الفارض" ، وصنف الشيخ البقاعي –المتوفي سنة 885ه- كتابا يرد فيه علي السيوطي أسماه "مصرع التصوف أو تنبيه الغبي إلي تكفير ابن عربي" ، وقل مثل ذلك الخبل في عصور مختلفة وأجيال من العلماء متعاقبة .

وكانت الصليبية تعمل في الخفاء والعلن لإزاحة الإسلام من الخارطة ، وتبديد معالمه ، وطمس هويته ، فسقطت الأندلس بأكملها سنة 897هـ في عصر هؤلاء الأئمة الكبار ولم نجد أحدهم ولا ممن ترجم لتك الفترة من المؤرخين الشرقيين استفاض في الحديث عن الأندلس وعن إلجام الإسلام هناك ، ومر الأمر وكان شيئا لم يحدث .

إن فقه الأولويات اختل عند هؤلاء ، ومن ساروا علي هديهم في العصر الحاضر ممن لا زالوا يقيمون المعارك الطاحنة حول البرقع والجلباب والسواك ...

ولم يمعنوا النظر في مقاصد الشريعة التي هي في الأساس حلقة من حلقات إصلاح المجتمع المسلم ومحيطه ، ثم تصدير النموذج الإسلامي الحضاري ليقود البشرية ..

وظل العالم الإسلامي لا يبالي بالأولويات والمقاصد العظمى والمحاور الكبرى حتى جاء الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله ، الذي صاغ مشروعا إصلاحيا نهضويا متكاملا ووضع الأمور في نصابها وموازينها ، وأعطى كلا من الثغور الكائنة في جبين الأمة ، حقها من الدراسة والبحث والتأمل والتفتيش عن الداء ، وقام برصد السلبيات المجتمعية ، وعمل علي إيجاد الحلول لها داخل إطار الشريعة ، وتشرب التراث وفهم الواقع ، ودرس كتاب الكون ..

واستقي من نبع النبوة مواريثها ، واستمد من القرآن إلهامه ، وقام ثائرا ليصلح باسم الله ، كل مُعوَّج في المجتمع يحتاج إلي إصلاح ..

كانت مصر –بل والعالم الإسلامي كله- يوم نبتت هذه الدعوة المحددة لا تملك من أمر نفسها قليلا أو كثيرا ، يحكمها الغاصبون ، ويستبد بأمرها المستعمرون ، ولم يخل الجو من منازعات حربية ، وحزازات سياسية ، فلم يشأ الإخوان أن يزجوا بأنفسهم في هذا الميدان فيزيدوا الخلاف ، فانصرفوا إلي ميدان مثمر هو ميدان الإصلاح والتربية ، وتنبيه الشعب ، وتغيير العرف العام ، وإذاعة مبادئ الحق والجهاد والعمل والفضيلة بين الناس .

وقد انجذب الناس لمشروع البنا الإصلاحي لصراحته ، واستقائه من نبع القرآن في وضوح لا يحتمل الشك ، وكان الإمام البنا رضي الله عنه يتخذ من السهولة الميسرة في الخطاب ما يجذب السامع المسلم إلي دعوته ، لأنه ليس بعيدا عنها ، وهي من صميم قرآنه ، فهو يوجز مثلا مبادئ "جماعة الإخوان" في قوله : (نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة ، تنظم شئون الناس في الدنيا والآخرة ، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول العبادات –فقط- مخطئون ، فالإسلام عقيدة ، وعبادة ، ووطنٌ وجنسية ، ودين ودولة ، وروحانية وعمل ، ومصحف وسيف ، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله) .

فأنت تري أنه يركز علي الإصلاح المجتمعي الشامل الذي هو أشبه بثورة بيضاء كبرى لتنظيم شئون الناس في الدنيا والآخرة ..

وهذا المشروع الإصلاحي للمجتمع يركن إلي شيء مهم جدا ربما تتغافل الفلسفات عنه ، ذلك أن الفلسفة تبقي –بمشروعها الإصلاحي- في حيز التنظير المجرد الذي لا يجد البيئة الملائمة لتطبيقه ، وإن وجدها فلا يجد الخضوع الذاتي للأفراد كقوة ، ولا يجد من المجتمع الحراك الذي يتخلل أي إصلاح ، هذا الشيء هو الاعتماد علي مصادر التشريع في إصلاح المجتمع . وبيان ذلك يحتاج إلي شيء التفصيل .

 

الإمام البنا والإصلاح

مآل جماعة "الإخوان المسلمون" وغايتها الكبرى هي إصلاح المجتمع بالمفهوم الكلي الشامل الذي عبرنا عنه آنفا ، وعندما فكر الإمام البنا رحمه الله في تكوين هذه الجماعة وبذر بذرتها ، كان هدفه الأوحد من وراء ذلك ، الإصلاح المجتمعي التام الشامل لكل أزقة المجتمع وشوارده .

ولقد وقف الإمام البنا رضي الله عنه –وعن سائر علماء المسلمين- في وجه العواصف والأمواج من أجل تلك القضية .. قضية الإصلاح .

وفي ذلك يقول الدكتور مصطفي السباعي: لقد كانت كل قوى الشر في الأرض تتحداه ؛ الاستعمار ، والملك ، والباشوات ، والأزهر ، والأحزاب ، والفساد والانحلال ، ثم جهل الجماهير بمصلحتها ، فمشي كالضوء لا يعبأ بالرياح ولا يبالي بالمعاول ، ولا يتراجع أمام العاصفة ، وإن كان ينحني لها حتى تأخذ طريقها ، ولا ينكص علي عقبيه رغم كل تهديد ووعيد ، ولا يضعف إيمانه بالنصر ، وإن أظلمت الدنيا حوله ، ولا ينهزم في المعركة مهما تكاثرت القوى وتألبت عليه ، وكان مع ذلك كله يتسع صدره لأعدائه كما يتسع لأصدقائه ، ولم يكن يكره أحدا من أعدائه كراهة حقد ، فالرجل العظيم لا يعرف الحقد إلي قلبه سبيلا .

ولكنما كان يكره من أعدائه باطلهم وفسادهم ، وافترائهم وتفننهم في الشر ، وإضرارهم بمصالح الشعب ، كما كان يكره من بعض أنصاره لجاجهم وقلة تبصرهم ، وتمردهم علي الحق ، وإيذاءهم للدعوة بسلوكهم وأخلاقهم ، وما زال بأعدائه نُصحا وإشفاقا حتى قتلوه في الظلام وحيدا أعزل مجردا من كل قوة وجاه وأنصار ، قتلوه وهم الأقوياء ، وهو الضعيف ، وهم الحاكمون وهو المطارد ، وهم المسلحون وهو الأعزل ، وهم الأشقياء وهو السعيد ، ثم أصبحوا مطرودين من رحمة الشعب ، وهو مغفور برحمة الله .

وهكذا كما يقول السباعي رحمه الله بأن البنا واصل مشروعه الإصلاحي ، لإصلاح المجتمع عقدياً وثقافياً ومنهجياً من غير أن يبالي بالعوائق والمثبطات وولجالبنا سبلاً لتحقيق الإصلاح المجتمعي الذي ينشده ، ومن هذه السبل:

1- مخاطبة الكافة

الإمام حسن البنا وعبد الحكيم عابدين ومنير الدلة وسط الزعامات السياسية
فقد أنشأ الإمام الشهيد حسن البنا رضي الله عنه خطابا جماهيريا موجها إلي كل فئام المجتمع .. الفلاح ، التاجر ، العامل ، المثقف ، .. وكابد الوهاد والنجاد في ذلك ، والقضية ليست في مخالطة هذه الجماهير فقط ، بل في احتوائهم واستقطابهم وإعمالهم في دائرة الفكرة ، وشحذ هممهم وطاقاتهم .
وهذا المعني لمسه سيد قطب بقوله: والعبقرية في استخدام طاقة الأفراد ، طاقة المجموعات ، في نشاط لا يدعُ في نفوسهم ، ولا يدعُهم يتلفتون هنا أو هناك يبحثون عما يملؤون به الفراغ ، إن مجرد استثارة الوجدان الديني لا يكفي ، وإذا قصر الداعية همه علي هذه الاستثارة فإنه سينتهي بالشباب خاصة إلي نوع من الهوس الديني ، الذي لا يبني شيئا ، وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا يكفي .
وإذا قصر الداعية همه علي هذه الدراسة ، فإنه ينتهي إلي تجفيف الينابيع الروحية التي تكسب هذه الدراسة نداوتها وحرارتها وخصوبتها ، وإن مجرد استثارة الوجدان والدراسة معا لا يستغرقان الطاقة ، فستبقي هناك طاقة عضلية ، وطاقة عملية ، وطاقة فطرية أخري في الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال ، وقد استطاع حسن البنا أن يفكر في هذا كله ، أو أن يلهم هذا كله ، فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد ، وهو يعمل في نطاق الجماعة ، إلي هذه المجالات كلها ، بحكم نظام الجماعة ذاته وأن يستنفذ الطاقات الفكرية كلها ، في أثناء العمل للجماعة ، وفي مجال بناء الجماعة استطاع ذلك في نظام الكتائب ، وفي نظام المعسكرات ، ونظام الشركاتالإخوانية ، ونظام الدعاة ، ونظام الفدائيين الذين شهدوا معارك فلسطين ، ومعارك القتال نماذج من آثاره ، تشهد بعبقرية هذا النظام . ويمضي حسن البنا إلي جوار ربه ، يمضي وقد استكمل البناء من أساسه ، يمضي فيكون استشهاده علي النحو الذي أُريد له ، عملية جديدة من عمليات البناء ، عملية تعميق للأساس ، وتقوية للجدران وما كانت ألف خطبة وخطبة ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتُلهب الدعوة في نفوس الإخوان كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق .
وكان البنا رحمه الله –كما يقول صالح عشماوي- قديراً علي أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه وعلي طريقته ، وفي حدود هواه ، وعلي الوتر الذي يحس به ، وعلي الجُرح الذي يثيره ، ويعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين والصوفية وأهل السنة ، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا والصحراء ، وفي مصر العليا والوسطي وتقاليدها ، بل إنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل فيهم صفات بارزة ، وكان في أحاديثه إليهم يروي لهم من القصص ما يتفق مع ذوقهم ، بل كان يعرف لغة اللصوص وقاطعي الطريق والقتلة ، وقد ألقي إليهم مرة حديثا ، وهو يستمد موضوع حديثه أثناء سياحاته في الأقاليم ، وفي كل بلد من مشكلاتها ووقائعها وخلافاتها ، ويربطه في لباقة مع دعوته الكبرى فيجيء كلامه عجبا يأخذ الألباب .
كان يقول للفلاحين في الريف: عندنا زرعتان إحداهما سريعة النماء كالقثاء ، والأخرى طويلة كالقطن ؛ لم يعتمد يوما علي الخطابة ، ولا تهويشها ولا إثارة العواطف عن طريق الصياح والهياج ، ولكنه يعتمد علي الحقائق ، وهو يستثير العاطفة بإقناع العقل ، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ ، وبالهدوء لا بالثورة ، وبالحجة لا بالتهويش .
ولم يُر في مصر زعيمٌ بعد سعد زغلول التف حوله العامّة التفافهم حول حسن البنا ، وهذا يدل علي مدى مثابرته في إنجاح خُططته الإصلاحية ، وهذا ما أزعج أعداءه ، فظنوه طالب منصب ، وسيرضي به لأنه في رأيهم مجرد مدرس للغة العربية بإحدى المدارس الابتدائية ، وقصارى أمله أن يكون مفتشا أو ناظر مدرسة ثانوية ! فليغروه بما هو أعظم وأرقي ، وسيتطلع إلي بريق المنصب المنتظر ، فيتخلي عن الشقاء الكارب في رحلاته الممتدة ، صيفا إلي أقاصي الصعيد في حره اللوح ، إنه بشرٌ ،، ولابد أنه سيلين تحت بوارق الإغراء .
لأن هؤلاء الأعداء عرفوا مدى خطورة مشروع البنا الإصلاحي علي مشروعهم الاستعماري الانحلالي ، عرفوا مدى خطورة أن يستحيل الناس إلي العقيدة السليمة والدين الصحيح ، ماذا لو فهم المسلمون أولويات دينهم ، ومقاصد شريعتهم ، وروابط أخوتهم ، وحمل قضايا أمتهم !! هذا خطر وأي خطر علي الاستعمار العالمي وموارده التي يسلبها أو يسرقها من أولئك المغفلين ..
وفي ذلك يقول البهي الخولي مصورا بعض نواحي الإغراء التي زينها له المغرضون: كان الناس يحيون في غمار الموجة المادية ، حين قام حسن البنا في إشراق هالة أخرى لها مبادؤها ومثلها العليا ، هالة الفكرة الإسلامية ، يحيا فيها بقلبه ، ويحيا بنفسه ، ويحيا فيها بوجدانه وشعوره وعصبه ، فكانت مبادؤها عنده هي الحق ، وما سواها الباطل ، وكانت مثلها هي النواميس الطبيعية الأصيلة ، وما سواها وهم خادع وسراب لا معول عليه .
وكانت زهرة الحياة الدنيا تتضاءل وتتقلص أمام عينيه إلي جانب ما يفيض عليه في هالة من سعادة رزق الله ، فكان زهده في الدنيا المادة ، لا يعدله إلا زهد أهل المادة فيما لديه من مثل رفيعة ، وقد عرضت الدنيا نفسها عليه خاطبة ، وواته الظروف ، ولكن هيهات أن تروج هذه الأوهام في نفس مشغولة زاخرة بالحقائق النفيسة العليا . جاءه من يعرض عليه منصبا في فجر الدعوة سنة 1932م، ليلين عن بعض واجبه في منصب الداعي إلي الله ، وكانت نظرة رثاء وإشفاق وتبكيت دانت لها شخصية الداعي هوانا ودُحورا وخجلا ، ولو أنه أجاب ما عرُض عليه لكان لبنيه اليوم من مجد المنصب ونعمته ما يحسده عليه الكثيرون .
وعرض عليه الإنجليز ذهبهم الوهّاج في مستهل الحرب الماضية ، ألوفا وعشرات الألوف ، ومن ورائها خزائن طوع أمره ، ورهن إشارته ، ولكن الرجل المصلح المتواضع السهل السمح أذلّ بكبريائه القاسية من جاء يُساومه في مثله وكرامته ، ونكس القومُ رؤوسهم ، مدركين أن الذهب والفضة لا يعالجان بما يحسم أمر الشيخ ويخفت صوته إلي الأبد ، ولو أنه ألان لهم الجانب ما كشف أحدٌ سره ، ولما تعرض لنقمة الناقمين ، وغيظ الحاقدين ، وكان لبنيه اليوم من الضياع والعمائر ما يسلكهم في أرباب الثروات .

2- الاندماج المؤثر والتفاعل في المجتمع

فكان البنا رحمه الله يعرف أن إصلاح السلبيات في المجتمع لا تتم ولا يُكتب لها النجاح إلا بالاندماج التام فيه ، بعد ترشيد خطاب ولهجة عامة لكافة الفئات ، ولغة حوار لكل التيارات ، فالاندماج مهم جدا بعد مرحلة الخطاب ، لأن الإصلاح المجتمعي يقتضي معرفة سلبيات ذلك المجتمع ، والوقوف علي مواطن الداء ، لتشخيص الدواء ، بتؤدة وتمهل وحذَر ، وذلك لا يتأتي إلا بالتفاعل والاندماج التام في كل أركان المجتمع وجوانبه ، من قبل المصلحين والعقلاء ليعملوا علي تطبيبه وعلاج مشكلاته ، وكذلك فعل الإمام البنا رحمه الله .
فكان يدخل بلدا من البلاد –كما يقول روبير جاكسون- أحيانا لا يعرف فيه أحدا ، فيقصد إلي المسجد ، فيصلي مع الناس ، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام ، وأحيانا ينصرف الناس عنه فينام علي حصير المسجد ، وقد وضع حقيبته تحت رأسه ، والتف بعباءته .. وكان يعيش بعد استقالته من التعليم براتب لا يزيد عن راتبه المدرسي ، وبين يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه ، وحوله من العاملين من يصل دخله إلي أضعاف ما يحصل عليه ، كما كان في بيته مثال البساطة .
كنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش ، ذات السجادة العتيقة ، والمكتبة الضخمة ، فلا تراه يختلف عن أي إنسان عادي إلا في ذلك البريق اللامع ، الذي تبعثه عيناه والذي لا يقوي الكثيرون علي مواجهته ، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزا واضحا للقضايا التي تحويها المجلدات ، وكان مع هذه الثقافة الواسعة الضخمة قديرا علي فهم الأشخاص ، لا يفاجئك بالرأي المعارض ، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك ، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلي قلبك ، ويتصل بك فيما يتفق معك عليه ، ويعذرك فيما تختلفان فيه .
وهكذا كان الإمام الشهيد رضي الله عنه ، مصلحا بالقول والعمل ، بالتنظير والتطبيق ، فنزل إلي الناس وإلي ساحاتهم ، ولم يكن مُنَظّرا في برج عاجي بعيدا عن الجماهير ، ولم يكن صاحب علاجات فلسفية هلامية فضفاضة ، أو عصية علي التنفيذ والتطبيق بل كان صاحب رؤية واقعية ، لأنه عايش الناس بنفسه ولمس داء المجتمع وشخصه وهو في أرض الميدان ، لا في برجه العاجي كعادة كثير من الفلاسفة .
فالناحية الهامة التي ألمع إليها الكاتب الأمريكي –كما يقول الأديب محمد رجب البيومي- ، هي ثقافة الإمام الشهيد المحيطة ، وميزة هذه الثقافة التي تُسعفه في شتى المناسبات أنها ليست نصوصا جامدة محفوظة في الذاكرة فحسب ، بل لها روحها الحي الذي ينفخ فيها الحياة فتستحيل مخلوقات متحركة ذات نبض ، وقد يكون بعض هذه النصوص معلوما لكثير من الناس ، ولكنهم لا يبلغون منه معشار ما يبلغه الأستاذ ، لأنه يربط كل النصوص بالمدلول العام للدعوة الإسلامية ، وللخط العريض الذي تمثله الشريعة في قانونها السماوي العادل ، وهنا يصير النص المعروف وكأنه علي شفتيه نصٌ جديد ! .
كذلك من ميزة تلك الثقافة المتشعبة أنها توجد له الحلول الإصلاحية التي ينشدها المجتمع وتبغيها الجماهير ، فالأستاذ البنا رحمه الله ، نزل بالثقافة وبالعلوم للواقع لتكون تلك العلوم مساهمة في حل المشكلات المجتمعية لأنه لا إصلاح إلا بعلم وعن بصيرة ، ولم يقتصر علي مكتبة ضخمة ، وعقل جامع ، من غير دربة علي أولويات العصر وما يريده الناس ، وهذا هو الفرق بين المصلح والفيلسوف .

3- الديناميكية والحركية

الإمام حسن البنا يستقل قطار الصعيد خلال رحلاته بين المحافظات
فالإمام البنا رحمه عرف أن مهمة المصلحين في التاريخ الإنساني العريق تتسم بالديناميكية / الحركية ، التي لا تعرف الملل ، والعزيمة التي لا تعانق اليأس ، والجد الذي يمج الفتور ، ولذلك كان يقول دائما رحمه الله بأن "الواجبات أكثر من الأوقات" ، وهذه لغة المصلحين الكبار ، والعباقرة الذين يتركون بصمة إبهامهم في التاريخ الإنساني الحضاري .
لكن الفرق بين حسن البنا وبين غيره من الفلاسفة أن هؤلاء الفلاسفة قاموا بتشخيص حالات المرض المجتمعي لديهم وشخصوا الدواء من منظورهم ، ولكن لا نجد نظرية من تلك النظريات قد قبلت التطبيق بحذافيرها علي أرض الواقع أو حتى بنسبة مرضية ، لأنها ليست منبثقة من الوحي ، في حين أن فلسفة حسن البنا منبثقة من الوحي ، الذي يلقي القبول من قبل الجماهير بل والخضوع له بالضمير الذاتي من غير رقابة قانونية .
وقد كان البنا رحمه الله مع ذلك سريع الحركة ، واثبا متألقا لا يهدأ ، لا يعرف الكلام بل يعرف العمل فقط ، وشُغل وقته ، لدرجة أنه لم يسجل أفكاره في المصنفات وعندما سُئل لماذا لا تؤلف كتبا ؟! قال لأنني أؤلف رجالا .
ولنقف علي رحلة واحدة من رحلاته كي تقف علي كيف تكون حياة المصلحين ، وكيف أن الثمرة المرجوة أحق أن تُجني .
جاء في "مذكرات الدعوة والداعية" : الأستاذ المرشد في الوجه البحري والصعيد :
وتبدأ الرحلة الثانية إلي الصعيد من القاهرة يوم الاثنين 15 جمادي الأولي الموافق 3 أغسطس إلي أسوان ثم إلي عواصم الصعيد وشعب الجماعة بها إلي يوم 30 منه .
فلك أن تتعجب من هذا الجهد الخارق الذي يفوق كل وصف ، ومن هذه الهمة التي لا مثيل لها ، مع الوضع في الاعتبار أن سبل السفر من مواصلات ونحوها في ذلك العصر لم تكن بالكفاءة المرجوة ولا بالسرعة المسعفة ، لكن البنا رحمه الله تغلب علي الإجهاد والتعب ، لأنه ببساطة عرف مهمة المصلحين وأدمن النظر فيها والتأمل .
ولم يكن كلام البنا عن الإصلاح حديثا هلاميا بل كان محددا ومنضبطا ومقننا ، علاوة علي انه نزل بنفسه إلي الشوارع والطرقات والمقاهي ليخاطب الجمهور بنفسه ، ويلتمس العلل بلبه ويلمس المعوقات بيديه ، وهكذا اتسم الإمام البنا رحمه الله بالديناميكية والقدرة علي التغيير .
وقد وضع الإمام البنا آليات وأسسا لمنهجه الإصلاحي ، وقد ساقه في "رسالة نحو النور" وقد أرسلها إلي مصطفي النحاس باشا ، وإلي ملوك ورؤساء جميع الدول العربية والإسلامية:

أسس المنهج الإصلاحي

ونحن نسوق تلك الرسالة كلها لأنها تتضمن أسس المنهج الإصلاحي في ذهن الإمام البنا رحمه الله ، ولأنه في هذه الرسالة –كما يقول الدكتور رءوف شلبي- حدد القواعد الأساسية للإسلام ثم رتب عليها الاقتراحات بشأن الإصلاح الاجتماعي .

أولاً: في الناحية السياسية والقضائية والقانونية

  1. القضاء علي الحزبية ، وتوجيه قوى الأمة السياسية في وجهة واحدة وصف واحد.
  2. إصلاح القانون حتى يتفق مع التشريع الإسلامي في كل فروعه .
  3. تقوية الجيش والإكثار من فرق الشباب ، وإلهاب حماستها علي أسس من الجهاد الإسلامي .
  4. تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية جميعا ، وبخاصة العربية منها تمهيدا للتفكير الجدي العملي في شأنه –الخلافة- الضائعة .
  5. بث الروح الإسلامي في دواوين الحكومة بحيث يشعر الموظفون جميعا بأنهم مطالبون بتعاليم الإسلام .
  6. مراقبة سلوك الموظفين الشخصي وعدم الفصل بين الناحية الشخصية والناحية العملية .
  7. تقديم مواعيد العمل في الدواوين صيفا وشتاء حتى يعين ذلك علي الفرائض ويقضي علي السهر الكثير .
  8. القضاء علي الرشوة والمحسوبية والاعتماد علي الكفاية والمسوغات القانونية فقط .
  9. أن توزن أعمال الحكومة بميزان الأحكام والتعالم الإسلامية فتكون نظم الحفلات والدعوات والاجتماعات الرسمية والسجون والمستشفيات بحيث لا تتصادم بتعاليم الإسلام وتكون الدوريات في الأعمال علي تقسيم لا يتضارب مع أوقات الصلاة .
  10. استخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية وتدريبهم .

 

ثانياً: في الناحية الإجتماعية والعلمية

الإمام الشهيد حسن البنا وشباب الإخوان بمعسكر حلوان
  1. تعويد الشعب احترام الآداب العامة ووضع إرشادات معززة لحماية القانون في ذلك الشأن ، وتشديد العقوبات ، علي الجرائم الأدبية .
  2. علاج قضية المرأة علاجا يجمع بين الرقي بها والمحافظة عليها وفق تعاليمالإسلام ، حتى لا تترك هذه القضية التي هي أهم قضايا الاجتماع ، تحت رحمة الأقلام المغرضة ، والآراء الشاذة من المفرطين والمغالين .
  3. القضاء علي البغاء بنوعيه السري والعلني ، واعتبار –الزنا- مهما كانت ظروفه جريمة منكرة ، يجلد فاعلها .
  4. القضاء علي القمار بكل أنواعه من ألعاب ويناصيب ومسابقات وأندية .
  5. محاربة الخمر كما تحارب المخدرات وتحريمها وتخليص الأمة من شرورها .
  6. مقاومة التبرج والخلاعة وإرشاد السيدات إلي ما يجب أن يكون والتشديد قي ذلك بخاصة علي المدرسات والتلميذات والطبيبات والطالبات ، ومن في حكمهن .
  7. إعادة النظر في مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان في كثير من مراحل التعليم .
  8. منع الاختلاط بين الطلبة والطالبات واعتبار خلوة أي رجل بامرأة لا تحل له جريمة يؤاخذان عليها .
  9. تشجيع الزواج والنسل بكل الوسائل المؤدية إلي ذلك ووضع تشريعا يحمي الأسرة ، ويحض عليها ويحل مشكلة الزواج .
  10. إغلاق الضالات والمراقص الخليعة وتحريم الرقص وما إلي ذلك .
  11. مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد في اختيار الروايات والأشرطة.
  12. تهذيب الأغاني واختيارها ومراقبتها والتشديد في ذلك .
  13. حسن اختيار ما يذاع علي الأمة من المحاضرات والأغاني والموضوعات واستخدام محطة الإذاعة في تربية وطنية خلقية فاضلة .
  14. مصادرة الروايات المثيرة والكتب المشككة ، المفسدة ، والصحف التي تعمل علي إذاعة الفجور وتستغل الشهوات استغلالا فاحشا .
  15. تنظيم المصايف يقضي علي الفوضي ، والإباحية التي تذهب بالغرض الأساسي من التصييف .
  16. تحديد مواعيد افتتاح وإغلاق المقاهي العامة ومراقبة ما يشتغل به روادها وإرشادهم إلي ما ينفعهم وعدم السماح لها بهذا الوقت الطويل كله .
  17. استخدام هذه المقاهي في تعليم الأميين القراءة والكتابة ويساعد علي ذلك هذا الشباب المتوثب من رجال التعليم الإلزامي والطلبة .
  18. مقاومة العادات الضارة اقتصاديا أو خلقيا ، أو غير ذلك ، وتحويل تيار الجماهير عنها إلي غيرها من العادات النافعة أو تهذيب نفسها تهذيبا يتفق مع المصلحة وذلك كعادات الأفراح والمآتم والموالد والزار والمواسم والأعياد وما إليها وتكون الحكومة قدوة صالحة في ذلك .
  19. اعتبار دعوى الحسبة ومؤاخذة من يثبت عليه مخالفة شيء في تعاليم الإسلام أو الاعتداء عليه ، كالإفطار في رمضان وترك الصلاة عمدا أو سب الدين وأمثال هذه الشئون .
  20. ضم المدارس الإلزامية في القرى إلي المساجد وشمولهما معا بالإصلاح التام من حيث الموظفين والنظافة وتمام الرعاية حتى يتدرب الصغار علي الصلاة ويتدرب الكبار علي العلم .
  21. تقرير التعليم الديني مادة أساسية في كل المدارس علي اختلاف أنواعها ، كلٌ بحسبه ، وفي الجامعة أيضا .
  22. تشجيع تحفيظ القرآن الكريم في المكاتب العامة الحرة ، وجعل حفظه شرطا في نيل الإجازة العلمية التي تتصل بالناحية الدينية واللغوية مع تقرير حفظ بعضه في كل مدرسة .
  23. وضع سياسة ثابتة للتعليم تنهض به وترفع مستواه وتوحد أنواعه المتحدة الأغراض والمقاصد ، وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة وتجعل المرحلة الأولي من مراحله خاصة ، بتربية الروح الوطنية الفاضل والخلق القويم .
  24. العناية باللغة العربية في كلب مراحل التعليم وأفرادها في المراحل الأولي عن غيرها من اللغات الأجنبية .
  25. العناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني والتربية الوطنية ، وتاريخ حضارة الإسلام .
  26. التفكير في الطرق لتوحيد الأزياء في الأمة تدريجيا .
  27. القضاء علي الروح الأجنبية في البيوت من حيث اللغة ، والعادات والتقاليد والأزياء والمربيات ، والممرضات ..إلخ ، وتمصير ذلك كله وبخاصة في بيوت الطبقات الراقية .
  28. توجيه الصحافة توجيها صالحا وتشجيع المؤلفين والكاتبين عن طريق الموضوعات الإسلامية الشرقية .
  29. العناية بشئون الصحة العامة ونشر الدعاية الصحية بمختلف الطرق والإكثار من المستشفيات والأطباء ، والعيادات المتنقلة ـ وتسهيل سبل العلاج .
  30. العناية بشأن القرية من حيث نظامها ونظافتها وتنقية مياهها ووسائل الثقافة والراحة والتهذيب فيها .

 

ثالثاً: في الناحية الإقتصادية

  1. تنظيم الزكاة دخلا ومنصرفا ، بحسب تعاليم الشريعة السمحة والاستعانة بها في المشروعات الخيرية التي لابد منها كملاجئ للعجزة واليتامى والفقراء ، وتقوية الجيش .
  2. تحريم الربا وتنظيم المصارف تنظيما يؤدي إلي هذه الغاية وتكون الحكومة قدوة في ذلك بالتنازل عن –الفوائد- في مشروعاتها الخاصة بها كبنك التسليف ، والسلف الصناعية وغيرها .
  3. تشجيع المشروعات الاقتصادية والإكثار منها وتشغيل العاطلين من الوطنيين فيها واستخلاص ما في أيدي الأجانب منها للناحية الوطنية البحتة .
  4. حماية الجمهور من عنت الشركات المحتكرة وإلزامها حدودها والحصول علي كل فائدة ممكنة للجمهور .
  5. تحسين حال الموظفين الصغار ورفع مرتباتهم واستبقاء علاواتهم ومكافئاتهم وتقليل مرتبات الموظفين الكبار .
  6. حصر الوظائف وخصوصا الكبيرة منها والاقتصار علي الضروري منها وتوزيع العمل علي الموظفين توزيعا عادلا ، مع التدقيق في ذلك .
  7. تشجيع الإرشاد الزراعي الصناعي والاهتمام بترقية الفلاح ، والصانع من الناحية الإنتاجية .
  8. العناية بشئون العمال الفنية والاجتماعية ورفع مستواهم في مختلف النواحي الحيوية .
  9. استغلال الموارد الطبيعية كالأرض البور والمناجم المهملة وغيرها .
  10. تقديم المشروعات الضرورية علي الكماليات في الإنشاء والتنفيذ .
ومع التأمل قليلا والإمعان في تلك القواعد –التي هي أشبه بقوانين عامة- التي تنظم الحالة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية ، في المجتمع والأمة ، يتضح أن الإمام البنا كان يمتلك رؤية إصلاحية ، منبثقة من التعاليم الإسلامية .
أجل قد يخالفه تلامذته أو مفكرون آخرون في جزئيات من تطبيق تلك القواعد ، كرأيه في الحزبية ، ورأيه في ضم المدارس للمساجد مثلا ، ولكن من الأولي فهم حديثه في إطاره وسياقاته المجتمعية القائمة وقتئذ ، ثم النظر للمقاصد التي يبغيها والمآلات التي ينشدها من قوانينه تلك ، سوف نعرف مثلا أنه طالب بضم المدارس الابتدائية للمساجد ، من أجل جودة التعليم وبث روح العبادة والحفاظ عليها في نفوس الصغار ، ففي زماننا من حق الدولة أن تسعي لإيجاد طريقة أخرى للحصول علي جودة تعليمية مرضية ، وأن تبث روح الدين في نفوس الصغار بأي وسيلة كانت ، حتى ولو لم يكن المسجد تلك الوسيلة .
وكذلك في الأحزاب ، يتم تقنين وتنظيم الأحزاب بحيث لا يستحيل الأمر إلي تشرذم وتفتت واختلاق مشكلات سياسية ، لكن إلغاءها تماما كان مطلبا في زمن وسياق وبُعد معين خاص بالتوقيت الذي قيل فيه .
فيجب أن تُفهم جهود الإمام الإصلاحية كلها من هذه الزاوية .