«اليوم هو يوم الذكرى الكبرى، لا نلتفت إلى أمس لاستحضار وقائع جريمة وقعت، فما زال حاضر النكبة ممتداً ومفتوحاً على جهات الزمن، ولسنا في حاجة إلى ما يذكرنا بتراجيديتنا الإنسانية المستمرة منذ عام 1948، فما زلنا نعيشها هنا والآن، وما زلنا نقاوم تداعيات نتائجها، الآن وهنا، على أرض وطننا الذي لا وطن لنا سواه». بهذه الكلمات التي تقطر آسي وتفيض مرارة على واقع مؤلم وتخاذل مرير، وتحمل فى الوقت نفسه نزق الثائر وحماس المجاهد وصلابة الحر لمستقبل الصراع وعقيدة الاستقلال.

لخص الشاعر الفلسطيني المقاوم محمود درويش ذكرى نكبة الأمة الإسلامية فى فلسطين، والتفريط فى التراب العربي لأراذل الشعوب ولقطاء الأمم، فى أيام نحسات مضي عليها 67 عاما ولا زال جرحها ينزف وألمها موجع وأثرها غائر فى جسد الأمة. «نكبة فلسطين» هى اللافتة التى يتحاشا العرب النظر من خلالها حتى لا تكشف عورات من فضل العمالة للمستعمر عن الدفاع عن شرف الأمة، وتفضح كيف خسرت جيوش 6 دول عربية أمام مجموعة من العصابات مدعومة من المستعمر البريطاني، وحتى لا تحكي كيف سقط جزء من جسد الأمة على وقع الخيانة والتفريط والتهاون وخسرت ما تبقي منه على موائد "كامب ديفيد وأخواتها".

67 عاما مرت على احتلال الأرض وتوطين اليهود فى البلد العربي وطرد شعبها إلى الشتات، وعدم الاعتراف بحقه فى الحياة وتجريده من أن يكون إنسانا، وتحول أهل العراقة والأصالة والتراث إلى شعب بلا وطن، وروح بلا جسد، ربما هذا هو ما رسخ فى الأذهان عن مآساة العرب فى فلسطين ولكن الواقع مؤلم والمشهد أكثر إلاما.

فالذكري اليوم وإن تشابهت مع سابقيها، إلا أنها تأتي لتكشف عن تداعي الجميع على بلد الرباط فاشترك العدو مع الأخ فى حصار قطاع غزة وقطع سبل الحياة عن قرابة مليوني مسلم يعيشون فى العراء بعدما هدمت الحرب الصهوينة الأخيرة منازلهم وتحولت مبادرات إعادة الإعمار إلى حبر على ورق.

ويمضي العدو الصهيوني قدما وتحت مرأي ومسمع مليار ونيف من المسلمين على تغيير جغرافيا المدينة المقدسة ومحيط المسجد الأقصي الأسير وشوارع البلدة القديمة والضفة الغربية، مع زحف الاستيطان على 80% من الأخضر واليابس، ولم يبق فى حمى القدس سوى 2% فى يد العرب وربما تأتي ذكرى النكبة العام المقبل وقد التهمته آلة الاحتلال الإسرائيلي  وبات أثر بعد عين. ولا تخطأ عين كيف تغيرت الخريطة الفلسطينية فى 67 عاما بشكل مخيف بعدما سقطت دول المواجهة الواحدة تلو الأخرى فى بئر السلام والتطبيع والعلاقات الثنائية والتنسيق الأمني والمصالح الاقتصادية، وتركت الشعب الفلسطيني يواجه مصيره بمفرده ويغير واقعه بحجر ودم، فالشعب العربي المكلوم لم يعد يملك من فلسطين التاريخية سوي قرابة 15 % فقط من إجمالى مساحة الوطن الذى أبتلعه العدو الصهيوني وبات يسيطر على 85% بخلاف الأراضي المحتلة خارج القطر الفلسطيني.

وتفرق الشعب المكلوم فى الشتات بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وبات أصحاب الوطن يفترشون العراء ويتفرقون على 61 مخيما فى الداخل والخارج يقطنها 1.5 مليون لاجئ تراعهم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، وتمزق ما بقي من 12.1 مليون من أبناء الشعب الأعزل فى أرجاء المعمورة يحلمون بالوطن ويترقبون العودة إلى الديار، فيما لا يزال يعيش منهم بين النهر والبحر قرابة 4.2 مليون فلسطيني. مايو 1948 على وقع وعد بيلفور المشئوم فى أوائل القرن الـماضي بمنح اليهود وطنا قوميا فى فلسطين، تحرك الصهاينة بالحشد والدعم من أجل حس يهود العالم على الهجرة إلى البلد العربي الهادئ والقابع فى سكينة بين البحر والنهر، وتزايدت أعداد الصهاينة المهاجرين بشكل مطرد فى المشهد الفلسطيني برعاية المستعمر البريطاني.
وبدأ المستعمر فى تشكيل عصابات صهيونية وتزويدها بالسلاح والعتاد من أجل خوض معارك قذرة وغارات دموية على القري الفلسطينية، قبل أن تعلن المملكة المتحدة إنهاء الانتداب على فلسطين لتغادر قوتها تلك البقعة المتوترة، على خلفية قرار الأمم المتحدة فى نوفمبر 1947 بتقسيم فلسطين لدولتين على مساحة 56% لليهود و43% للعرب، و1% تحت الحماية الدولة وهى مدينة القدس. وفى 14 مايو 1948 وعشية الإعلان البريطانى بإنهاء الانتداب، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني في تل أبيب أن قيام دولة إسرائيل سيصبح ساري المفعول في منتصف الليل، وقد سبق هذا الإعلان تشاورات بين ممثل الحركة الصهيونية موشيه شاريت، والإدارة الأمريكية دون أن تعد حكومة الولايات المتحدة الاعتراف بالدولة.
وتحرك العالم سريعا للاعتراف بالكيان اللقيط وسط غياب عربي مريب ومشبوه عن المشهد، فنشر الرئيس الأمريكي هاري ترومان رسالة الاعتراف بإسرائيل بعد إعلانها ببضع دقائق، واحتاج الاتحاد السوفياتي 3 أيام للاعتراف بإسرائيل التى رفضت قيادتها تحديد حدود واضحة المعالم للدولة للترك العنان لأطماعها المستقبلية، وتوالت الاعترافات والتبريكات.
واستفاق العرب بعد سبات عميق، وربما بعد فوات الأوان من أجل الذب عن الأرض المسلوبة ومحاربة العصابات العبرية، وشنت هجوما عسكريا لطرد المليشيات اليهودية ومواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي الذى تأسس بأمر من ديفيد بن جوريون رئيس الحكومة الإسرائيلية المؤقتة، فى حرب امتدت من مايو 1948 حتى مارس 1949، وانتهت إلى خيبة أمل ورجوع جنود 6 دول عربية يجرون أذيال الخيبة والعار. معارك ضارية هنا وهناك وجيوش مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية ومن خلفهم قيادات فاسدة، وفى الصفوف الأمامية عناصر المقاومة وأحرار المتطوعين من جماعة الإخوان المسلمين وغيرها بقيادة البطل أحمد عبد العزيز يمثلون مجموع 68 ألف مقاتل، فى مواجهة 118 آلف صهيوني يمثلون إندماج عصابات "هاجانا، وبلماح، وإرجون، وشتيرن" ومتطوعين من شرق أوروبا.
ورغم البلاء الحسن لجنوب العرب فى بداية المعارك على الجهة الأردنية والمصرية، إلا أن العمالة والخيانة قلبت سير المعارك ومكنت عصابات الصهاينة من السيطرة على المشهد، وتمخضت عن حصار الجيش المصري فى صحراء النقب "الفلوجة" وانتهت المعارك إلى سقوط فلسطين واستشهاد 22 آلف مقاتل عربي مقابل 6 آلاف قتيل صهيوني.
وكشفت البيانات الموثقة أن الاحتلال سيطر خلال مرحلة النكبة على 774 قرية ومدينة، حيث قام بتدمير 531 قرية ومدينة فلسطينية، كما اقترفت القوات الصهيونية أكثر من 70 مذبحة ومجزرة بحق الفلسطينيين، أدت إلى استشهاد ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني خلال فترة النكبة.
مشهد النكبة ومراحل الصراع منذ عام 1917 وربما ما سبقها فى منصف القرن الـ19، وتوالى المعارك والصدامات الفلسطينية اليهودية حتى عام 1948، ثم انهيار القضية فى عين أصحابها مع توالي الأحداث فى 56، 67، 73 ثم اتفاقية كامب ديفيد وما ترتب عليها من تغيير جذري فى عقيدة الصراع "العربي- الإسرائيلي" أكبر من الحصر وأعمق من السرد فى سطور مفرغة، إلا أنها خلصت إلى نتيجة واحدة "المقاومة هى الحل".
هى إذن روح المقاومة التى تسري فى الجسد الفلسطيني كل ما تبقي من القضية، بعدما تخاذل الأهل وتجاهل الجار، ليعلن الشعب المرابط تمسكه بخيار القتال والمقاومة رغم توالى النوازل وتفاقم الأوضاع الإنسانية وألم الحصار، فى الوقت الذى فتش فيه العملاء عن سلام مزعوم فرطوا بين سطوره عن الثوابت وتنازلوا وسط حروفه عن المقدسات وتجاهلوا مع توقيعه حق الشعب المسلم فى أرضه ورغبة المشردين واللاجئين فى العودة إلى الديار.
وأخيرا.. «لن ننسى ما حدث لنا على هذه الأرض الثكلى وما يحدث، لا لأن الذاكرة الجمعية والفردية خصبة وقادرة على استعادة حكاياتنا الحزينة، بل لأن الحكاية-حكاية الأرض والشعب، حكاية المأساة والبطولة، ما زالت تروى بالدم، في الصراع المفتوح بين ما أريد لنا أن نكون، وبين ما نريد أن نكون».