طالع ما سبق نشره :
(1)  (2)
(3)  (4)

 
بقلم : الشيخ عبد الله علوان
 
القسم الثاني - مسؤوليات المربين

مقدمة
من أظهر المسؤوليات التي اهتم الإسلام بها، وحض عليها، ووجه الأنظار إليها... مسؤولية المربين تجاه من لهم في أعناقهم حق التعليم والتوجيه والتربية.. فهي في الحقيقة مسؤولية كبيرة وشاقة وهامة.. لكونها تبدأ منذ سني الولادة إلى أن يدرج الولد في مرحلتي التمييز والمراهقة، إلى أن يصبح مكلفاً سويّاً.. ولا شك أن المربي سواء أكان معلماً أو أباً أو أمّاً أو مشرفاً اجتماعياً.. حين يقوم بالمسؤولية كاملة، ويؤدي الحقوق بكل أمانة وعزم ومضاء على الوجه الذي يتطلبه الإسلام.. يكون قد بذل قصارى جهده في تكوين الفرد بكل خصائصه ومقوماته ومزاياه، ثم بالتالي يكون قد أوجد الأسرة الصالحة بكل خصائصها ومقوماتها ومزاياها، ويكون كذلك – من حيث يعلم أو لا يعلم – قد أسهم في بناء المجتمع المثالي الواقعي بكل خصائصه ومقوماته ومزاياه لتكوين الفرد الصالح، والأسرة الصالحة.. وهذا هو منطلق الإسلام في الإصلاح.
ونحن لو تتبعنا آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه في إهابتها بالمربين للقيام بسمؤولياتهم، وتحذيرها إياهم إذا قصّروا بواجبهم.. لو تتبعنا ذلك لوجدناها أكثر من أن تُحصى، وأعظم من أن تستقصى، وما ذلك إلى ليعلم كل مربٍّ ضخامة أمانته، وعظم مسؤوليته.
فمن هذه الآيات الكريمة:
{وأمُر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} طه: 132.
{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} التحريم: 06.
{ولتُسئلُنَّ عما كنتم تعملون} النحل: 93.
{يوصيكم الله في أولادكم...} النساء: 11.
{والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} البقرة: 223.
{..... ولا يقتلن أولادهن} الممتحنة: 12.
{وقفوهم إنهم مسؤولون} الصافات: 24.
إلى غير ذلك من هذه الآيات الكثيرة المستفيضة...
ومن هذه الأحاديث الشريفة:
- "الرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" (البخاري ومسلم).
- "لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع" رواه الترمذي.
- "مانحل والد ولداً أفضل من أدب حسن" الترمذي.
- "علّموا أولادكم وأهليكم الخير وأدّبوهم" رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور.
- "أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن" رواه الطراني.
- عن أبي سليمان مالك بن الحويرث قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظنّ أنا اشتهينا أهلينا، فسألنا عمّن تركنا في أهلينا فأخبرناه وكان رفيقاً رحيماً، فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلّوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمّكم أكبركم". البخاري في الأدب المفرد.
- "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه" رواه الترمذي.
إلى غير ذلك من هذه الأحاديث الكثيرة المستفيضة...
فانطلاقاً من هذا التوجيه القرآني، والهدي المحمدي اهتم المربون جميعاً جيلاً بعد جيل بتربية الأولاد، واعتنوا بتعليمهم وتقويم اعوجاجهم.. بل كان الآباء والأوصياء يختارون لأولادهم أفضل المعلمين تعليماً وتأديباً، وأحسن المؤدبين إرشاداً وتوجيهاً.. ليقوموا بأداء المهمة على وجهها الصحيح في تنشئة الولد على أساس العقيدة والأخلاق وتعاليم الإسلام.
وإليكم طائفة من طرائف الأولين وأخبارهم عسى أن تكشف لكل ذي عقل وبصيرة عن مدى اهتمام السلف بتربية أبنائهم، وحرصهم الزائد على تعليمهم وتأديبهم، وكيف كانوا ينتقون لأولادهم أفضل المؤدبين علماً وخلقاً، وأميزهم أسلوباً وطريقة؟:
• روى الجاحظ أن عقبة بن أبي سفيان لما دفع ولده إلى المؤدب قال له: "ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بَنيّ إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت، وعلمهم سِيَر الحكماء، وأخلاق الأدباء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني، وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتّكِلنّ على عذر مني، فإني قد اتكلت على كفاية منك".
• وروى ابن خلدون في مقدمته أن هارون الرشيد لما دفع ولده الأمين إلى المؤدب قال له: "يا أحمر: إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصيّر يدك عليه مبسوطة، وطاعتك له واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين.. أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السُّنن، وبصّره بمواقع الكلام وبَدْئِه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته.. ولا تُمرّنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تُمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة".
• وبلغ من اعتناء السلف بالولد أنهم كانوا حريصين على متانة الرابطة بينهم وبين مؤدبيهم، فكانوا يحزنون إذا غابوا عن الأولاد فترة بسبب من الأسباب، لخوفهم على الأولاد أن لا يُؤدبوا على ما يريدون ويشتهون.. ذكر الراغب الأصفهاني أن المنصور بعث إلى مَن في الحبس من بني أمية من يقول لهم: "ما أشد ما مرّ بكم في هذا الحبس؟ فقالوا: "ما فقدنا من تربية أولادنا".
• وقال عبد الملك بن مروان ينصح مؤدّب ولده: "علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروِّهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الرجال وأهل العلم منهم، وجنّبهم السَفَلَة والخدم فإنهم أسوأ الناس أدباً.. ووقِّرهم في العلانية، وأنّبهم في السر، واضربهم على الكذب، إن الكذب يدعو إلى الفجور، وإن الفجور يدعو إلى النار...".
• وقال الحجاج لمؤدب بنيه: "علمهم السباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون من يكتب عنهم، ولا يجدون من يسبح عنهم".
• وقال أحد الحكماء لمعلم ولده: "لا تخرجهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن اصطكاك العلم في السمع، وازدحامه في الوهم مضلّة للفهم".
• وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الشام يقول لهم: "علّموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية".
• ومن وصية ابن سينا في تربية الولد: "أن يكون مع الصبي في مكتبه صِبْيَة حسنة آدابهم، مرضيّة عاداتهم، لأن الصبي عن الصبي ألقن، وهو عنه آخذ، وبه آنس".
• قال هشام بن عبد الملك لسليمان الكلبي مؤدب انبه: "إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني، وقد ولّيتك تأديبه، فعليك بتقوى الله، وأدِّ الأمانة، وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله، ثم روِّه من الشعر أحسنه ثم تخلل به في أحياء العرب، فهذ من صالح شعرهم، وبصره طرفاً من الحلال والحرام، والخُطب والمغازي..".
هذا غيض من فيض من اهتمام الخاصة والعامة بتربية أولادهم واختيار أفضل المؤدبين لهم مع تذكيرهم بقواعد التوجيه الصحيح، ومبادئ التربية العملية الفاضلة، لكونهم مسؤولين عنهم، مؤتمنين عليهم، محاسبين ومؤاخذين إن قصّروا في واجبهم وأهملوا حق تعليمهم وتربيتهم...
وإذا كان المربون من آباء وأمهات أو معلمين... مسؤولين عن تربية الأولاد، وعن تكوينهم وإعدادهم للحياة.. فعليهم أن يعلموا بجلاء ووضوح حدود مسؤوليتهم، ومراحلها المتكاملة، وجوانبها المتعددة، ليستطيعوا أن ينهضوا بمسؤوليتهم على أكمل وجه، وأنبل معنى...
وأهم هذه المسؤوليات – في نظر كثير من المربين – مرتّبة على الوجه التالي:
1- مَسؤولية التربية الإيمانية
2- مسؤولية التربية الخلقيَّة.
3- مسؤولية التربية الجسمية
4- مسؤولية التربية العقلية.
5- مسؤولية التربية النفسية
6- مسؤولية التربية الاجتماعية.
7- مسؤولية التربية الجنسية.
ونحن – إن شاء الله – في هذا الجزء سنفصل الكلام في كل جانب من جوانب هذه المسؤوليات السبعة، وعلى الله قصد السبيل ومنه نستمد العون والتوفيق.
[1] ألحق الفصل السابع بالمجلد الثاني للضرورة (انظر المجلد الثاني صفحة 387).
الفصل الأول - مسؤولية التربية الإيمانية
المقصود بالتربية الإيمانية ربط الولد منذ تعقله بأصول الإيمان، وتعويده منذ تفهمه أركان الإسلام، وتعليمه من حين تمييزه مبادئ الشريعة الغراء...
ونعني بأصول الإيمان:
كل ما ثبت عن طريق الخبر الصادق من الحقائق الإيمانية، والأمور الغيبية: كالإيمان بالله سبحانه، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل جميعاً، والإيمان بسؤال ملكين، وعذاب القبر، والبعث، والحساب، والجنة، والنار... وسائر المغيبات.
ونعني بأركان الإسلام:
كل العبادات البدنية والمالية، وهي: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج من استطاع إليه سبيلا.
ونعني بمبادئ الشريعة:
كل ما يصتل بالمنهج الرباني، وتعاليم الإسلام من عقيدة، وعبادة، وأخلاق، وتشريع، وأنظمة، وأحكام..
فعلى المربي أن ينشِّئ الولد منذ نشأته على هذه المفاهيم من التربية الإيمانية، وعلى هذه الأسس من التعاليم الإسلامية.. حتى يرتبط بالإسلام عقيدة وعبادة، ويتصل به منهاجاص ونظاماً. فلا يعرف بعد هذا التوجيه والتربية سوى الإسلام ديناً، وسوى القرآن إماماً، وسوى الرسول صلوات الله وسلامه عليه قائداً وقدوة...
وهذا الشمول لمفاهيم التربية الإيمانية من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم وإرشاداته في تلقين الولد أصول الإيمان، وأركان الإسلام، وأحكام الشريعة...
وإليكم أهم إرشاداته ووصاياه عليه الصلاة والسلام:
1- أمره بالفتح على الولد بكلمة لا إله إلا الله:
لما روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله".
والسر في هذا:
لتكون كلمة التوحيد، وشعار الدخول في الإسلام أول ما يقرع سمع الطفل، وأول ما يفصح بها لسانه، وأول ما يتعقّلها من الكلمات والألفاظ.
سبق أن ذكرنا في فصل "أحكام المولود" استحباب التأذين في أذن المولود اليمنى، والإقامة في اليسرى... ولا يخفى ما في هذا العمل من أثر في تلقين الولد أصل العقيدة ومبدأ التوحيد والإيمان.
2- تعريفه أول ما يعقل أحكام الحلال والحرام:
لما أخرج ابن جرير، وابن المنذر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، ومروا أولادكم بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فذلك وقاية لهم ولكم من النار".
والسر في هذا:
حتى يفتح الولد عينيه منذ نشأته على أوامر الله فيُرَوّض على امتثالها، وعلى اجتناب نواهيه فيُدرّب على الابتعاد عنها... وحين يتفهم الولد منذ تعقّله أحكام الحلال والحرام، ويرتبط منذ صغره بأحكام الشريعة فإنه لا يعرف سوى الإسلام تشريعاً ومنهاجاً..
3- أمره بالعبادات وهو في سن السابعة:
لما روى الحاكم وأبو داود عن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"، ويقاس على الصلاة الترويض على بعض أيام الصوم إذا كان الولد يطيقه، وتعويده الحج إذا كان الأب يستطيعه.
والسر في هذا:
حتى يتعلم الولد أحكام هذه العبادات منذ نشأته، ويعتاد أداءها والقيام بها منذ نعومة أظفاره، وحتى يتربى على طاعة الله، والقيام بحقه، والشكر له، والالتجاء إليه، والثقة به، والاعتماد عليه، والتسليم لجنابه فيما ينوب ويروع..، وحتى يجد في هذه العبادات أيضاً الطهر لروحه، والصحة لجسمه، والتهذيب لخلقه، والإصلاح لأقواله وأفعاله!!
4- تأديبه على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن الكريم:
لما روى الطبراني عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحبّ آل بيته، وتلاوة القرآن، فإن حَمَلَة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه".
ويتفرع عن هذا:
تعليمهم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسير الصحابة الكرام، وشخصيات القادة العظماء، والمعارك الحاسمة في التاريخ..
والسر في هذا:
حتى يتأسّى الأولاد بِسَير الأولين حركة وبطولة وجهاداً.. وحتى يرتبطوا بالتاريخ شعوراً وعزة وفخاراً.. وحتى يرتبطوا بالقرآن الكريم روحاً ومنهاجاً وتلاوة..
وإليكم ما قاله علماء التربية الإسلاميون في وجوب تلقين الولد تلاوة القرآن، ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومآثر الجدود الأبطال:
• يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن الكريم".
وأوصى الإمام الغزالي في إحيائه: "بتعليم الطفل القرآن الكريم، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار، ثم بعض الأحكام الدينية".
• وأشار ابن خلدون في مقدمته إلى أهمية تعليم القرآن للأطفال وتحفيظه، وأوضح أن تعليم القرآن هو أساس التعليم في جميع المناهج الدراسية في مختلف البلاد الإسلامية، لأنه شعار من شعائر الدين يؤدي إلى تثبيت العقيدة، ورسوخ الإيمان.
• ولقد نصح ابن سينا في كتاب السياسة بالبدء بتعليم الطفل القرآن الكريم بمجرد استعداده جسميّاً وعقليّاً لهذا التعليم، ليرضع اللغة الأصيلة، وترسخ في نفسه معالم الإيمان.
• ومما يروى في كتب التاريخ والأدب أن الفضل بن زيد رأى مرة ابن امرأة من الأعراب، فأعجب بمنظره، فسألها عنه فقالت: "إذا أتم خمس سنوات أسلمتُه إلى المؤدب فحفظ القرآن فتلاه، وعلّمه الشعر فرواه، ورُغِّب في مفاخر قومه، ولُقِّن مآثر آبائه وأجداده، فلما بلغ الحُلم حملته على أعناق الخيل، فتمرّس وتفرّس، ولبس السلاح ومشى بين بيوت الحي، وأصغى إلى صوت الصارخ...".
وسبق أن ذكرنا في مبحث اهتمام الأولين بتربية أبنائهم أنهم حين كانوا يدفعون أولادهم إلى المؤدّب أول شيء يشيرون إليه، وينصحون به، تعليم أولادهم القرآن الكريم، وتلاوتهم له، وتحفيظهم إياه.. حتى تتقوم ألسنتهم، وتسمو أرواحهم، وتخشع قلوبهم، وتدمع عيونهم، ويترسخ في نفوسهم الإيمان واليقين.
والذي نخلص إليه بعد ما تقدم:
أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد اهتم بتلقين الولد منذ نشأته أصول الإيمان، وأركان الإسلام، وأحكام الشريعة، وتأديبه على حب الرسول صلى الله عليه وسلم وحب آل بيته، وحب الأصحاب والقواد والفاتحين، وتلاوة القرآن الكريم.. حتى يتربى الولد على الإيمان الكامل، والعقيدة الراسخة، وحب الرعيل الأول من الجدود البواسل الأمجاد.. وإذا ترعرع وكبر لم يتزعزع بالدجل الإلحادي، ولم يتأثر بدعايات أهل الكفر والضلال!!.
فما أجدر المربين أن يربوا أبناءهم على هذه الأسس، ويسلكوا معهم هذه الوسائل.. ليضمنوا سلامة عقيدتهم من الزيغ والإلحاد والانحراف!!
من الأمور المسلَّم بها لدى علماء التربية والأخلاق أن الطفل حين يولد يولد على فطرة التوحيد، وعقيدة الإيمان بالله، وعلى أصالة الطهر والبراءة.. فإذا تهيأت له التربية المنزلية الواعية، والخلطة الاجتماعية الصالحة، والبيئة التعليمية المؤمنة.. نشأ الولد – لا شك – على الإيمان الراسخ، والأخلاق الفاضلة، والتربية الصالحة..
وهذه الحقيقة من الفطرة الإيمانية قد قررها القرآن الكريم، وأكدها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثبتها علماء التربية والأخلاق.
- أما أن القرآن الكريم قررها فلقوله تبارك وتعالى:
{فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} الروم: 30.
- أما أنه عليه الصلاة والسلام أكدها فلما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجِّسانه...".
- أما أن علماء التربية والأخلاق قد أثبتوها فبعد قليل سنستشهد بأقوال الغربيين والشرقيين عند الكلام عن أهمية التربية الإنسانية، وأثرها في إصلاح سلوك الأفراد، وتقويم اعوجاج الشعوب، ونجتزئ في هذا المجال ما قرّره الإمام الغزالي في تعويد الولد خصال الخير، أو مبادئ الشر باعتبار قابليته وفطرته، فمما قاله في هذه المناسبة: "والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك.. وصيانته بأن يؤدّبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق..".
وما أحسن ما قال بعضهم:
وينشأ ناشئ الفتيان منّا
على ما كان عوّده أبوه
ومادان الفتى بحجّى ولكن
يعوده التديّن أقربوه
ومن هذا العرض لأهمية الفطرة وأثرها.. نعلم أن الولد إذا نشأ في بيت منحرف، وتعلم في بيئة ضالة، وخالط جماعة فاسدة.. فلا شك أنه سيرضع لَبان الفساد، ويتربى على أسوأ الأخلاق، ويتلقن مبادئ الكفر والضلال.. وسرعان ما يتحول من السعادة إلى الشقاء، ويتدرج من الإيمان إلى الإلحاد، وينتقل من الإسلام إلى الكفر.. وعندئذ يصعب رده إلى جادة الحق، وإلى سبيل الإيمان والهدى..
ولا بأس في هذه المناسبة أن أستعرض معك – أيها المربي – صوراً من واقعنا الاجتماعي ونماذج من بيئات الضلال والفساد، لتعلم العوامل التي تؤدي إلى انحراف الولد في عقيدته وأخلاقه، وتعلم كذلك أنه إذا تساهل الأولياء والآباء في تربية أبنائهم، فسيؤدي بهم الأمر – على الأغلب – إلى الزيغ والانحراف، واعتناق مبادئ الكفر والإلحاد!!..
• فالأب الذي يدفع بولده إلى المدارس الأجنبية، والمعاهد التبشيرية يرضع من لبانها، ويتلقف التوجيه والتعليم على يد مبشريها.. لا شك أن الولد سينطبع على الزيغ والضلال، ويتدرج على الكفر والإلحاد.. بل ستترسخ في نفسه مشاعر الكره للإسلام، وأحقاد العداوة لهذا الدين.
• والأب الذي يسلم قياد ولده لأساتذة ملحدين، ومربين أشرار، يلقنونه مبادئ الكفر، ويغرسون في سويداء قلبه بذور الضلال.. لا شك أن الولد سينشأ على التربية الإلحادية، والتوجيه العلماني الخطير.
• والأب الذي يسمح لولده أن يطالع ما شاء من كتب الملحدين والماديين، ويقرأ ما أراد من مطاعن المبشرين والمستعمرين.. لا شك أن الولد سيتشكك بحقيقة عقيدته ودينه، ويهزأ بتاريخه وأمجاده، ويكون حرباً على مبادئ الإسلام.
• والأب الذي يرخي لولده العنان، ويترك حبله على غاربه ليخالط من رفقاء الزيغ والضلال ما يرغب، ويعتنق من المبادئ الضالة والأفكار المستوردة ما يشاء.. لا شك أن الولد سيسخر لا محالة بكل القيم الدينية والمبادئ الخلقية التي جاءت بها الأديان والشرائع.
• والأب الذي يترك المجال لولده لأن ينتمي إلى أحزاب إلحادية كافرة، وإلى منظمات علمانية لا دينية، وإلى هيئات لا ترتبط بالإسلام عقيدة وفكراً وتاريخاً.. لا شك أن الولد سيتربى على عقائد ضالة، وينشأ على مبادئ إلحادية كافرة، بل يكون حرباً على الأديان والقيم والمقدسات!!..
وليس النبتُ ينبت في جنان
كمثل النبت ينبتُ في الفلاةِ
وهل يرجَى لأطفالٍ كمالٌ
إذا ارتضعوا ثُدَيّ الناقصات
وإذا كان على المربين بشكل عام، والأبوين بشكل خاص مسؤولية كبرى في تنشئة الولد على عقيدة الإيمان، واجب أعظم في تلقينه مبادئ الإسلام.. فينبغي أن نعرف حدود هذه المسؤولية، وأبعاد هذا الواجب.. ليعلم كل من كان له في عنقه حق التوجيه والتربية المهمة الملقاة على عاتقه في تنشئة الولد على التربية الإيمانية الكاملة المرضية.
وحدود هذه المسؤولية مرتبة على الشكل التالي:
1- أن يرشدوهم إلى الإيمان بالله، وقدرته المعجزة، وإبداعه الرائع:
وذلك عن طريق التأمل والتفكير في خلق السموات والأرض. وذلك في سن الإدراك والتمييز. ويحسن أن يتدرجوا معهم في المحسوس إلى المعقول، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن البسيط إلى المركب.. حتى يصلوا معهم في نهاية الشوط إلى قضية الإيمان عن اقتناع وحجة وبرهان...، وحين يأخذ الولد منذ الصغر القضايا الإيمانية الثابتة.. وتنصب في ذهنه وفكره الأدلة التوحيدية الراسخة.. فلا تستطيع معاول الهدم أن تنال من قلبه العامر، ولا يمكن لدعاة السوء أن يؤثروا على عقله الناضج، ولا يقدر إنسان أن يزعزع نفسيته المؤمنة.. لما وصل إليه من إيمان ثابت، ويقين راسخ، وقناعة كاملة.
وهذه الطريقة من التدرج من الأدنى إلى الأعلى، ومن المحسوس إلى المعقول.. في الوصول إلى الحقيقة هي طريقة القرآن الكريم.. وإليكم طرفاً من آياته الباهرة:
- {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب، ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون. وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون. أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون؟} النحل: 10-17.
- {إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} البقرة: 164.
- {فلينظر الإنسان مم خلق. خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصُّلب والترائب. إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر} الطارق: 5-10.
- {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنَّا صببنا الماء صباً. ثم شققنا الأرض شقاً. فأنبتنا فيها حباً. وعنباً وقضباً. وزيتوناً ونخلاً. وحدائق غُلباً. وفاكهة وأباً. متاعاً لكم ولأنعامكم..} عبس: 24-32.
- {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانُها، ومن الجبال جُدَد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور} فاطر: 27-28.
- {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرةً وذكرى لكل عبد مُنيب} ق: 6-8.
إلى غير ذلك من هذه الآيات الكثيرة المستفيضة التي لا تعد ولا تحصى..
2- أن يغرسوا في نفوسهم روح الخشوع والتقوى والعبودية لله رب العالمين:
وذلك بتفتيح بصائرهم على القدرة المعجزة، والملكوت الهائل الكبير في كل شيء.. في الدقيق والكبير.. في الجامد والحي.. في النبتة النابتة والشجرة النامية.. في الزهرة الفوّاحة البديعة الألوان.. في ملايين الملايين من الخلائق العجيبة الصنع، البديعة التكوين.. فما يملك القلب إزاء ذلك إلا أن يخشع ويهتز لعظمة الله، وما تملك النفس تجاه هذا إلا أن تحس بتقوى الله ومراقبته، وأن تشعر بكليتها وقرارة وجدانها بِلذَّة الطاعة وحلاوة العبادة لله رب العالمين.
ومن وسائل تقوية الخشوع، وترسيخ التقوى في نفس الولد: ترويضه في سن التمييز على التّخشع في الصلاة، وتأديبه على التحزن والتباكي عند سماع القرآن الكريم. وهذه هي صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين، وخصيصة المؤمنين الصادقين..
ولنستمع إلى القرآن العظيم في تمجيده الخاشعين، وثنائه على الأتقياء المخبتين:
- {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون} المؤمنون: 1-2.
- {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً، مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء} الزمر: 23.
- {وبشِّر المخبتين. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} الحج: 34-35.
- {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجداً وبكيّاً} مريم: 58.
- {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} الحديد: 16.
وهذه الظاهرة من الخشوع والإخبات والتحزن.. هو ما كان عليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وما كان عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم، والسلف الصالح، والعارفون بالله رحمهم الله. فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ عليّ القرآن". فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأتُ عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}، قال: "حسبك الآن"، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
وعن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر رضي الله عنه، هكذا كنا حتى قست القلوب.
وأخبار السلف في بكائه وتخشّعهم في صلاتهم، وفي سماعهم للقرآن الكريم أكثر من أن تحصى، وقصصهم الرائعة في كتب الأخلاق والتربية كثيرة ومستفيضة...
وربما يجد المربي في ترويض الولد على الخشوع والتحزُّن والبكاء.. صعوبة ومشقة في بدء الترويض والتعليم، ولكن في التنبيه تارة، والمثابرة أخرى، والتأسي ثالثة.. يصبح التخشع والتحزن خلقاً أصيلا في الولد، وطبعاً كريماً من طباعه وأخلاقه...
وما أحسن ما قال بعضهم:
قد ينفع الأدبُ الأولادَ في صغر
وليس ينفعهم من بعده أدب
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت
ولا تلين ولو ليّنتَهُ الخُشب
وهذا التعويد من البكاء والتخشع، في أخذ الأولياء به، وترويضهم عليه هو ما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام في قوله:
"اقرؤوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا". رواه الطبراني.
3- أن يربّوا فيهم روح المراقبة لله سبحانه في كل تصرفاتهم وأحوالهم:
وذلك بترويض الولد على أن الله سبحانه يرقبه ويراه، ويعلم سره ونجواه، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.. وتخليق الولد على مراقبة الله تعالى يجب أن تكون غاية المربي وهمَّه وهدفه الأكبر، وذلك لا يكون إلا في ترويض الولد عليها وهو يعمل، وترويضه عليها وهو يفكر، وترويضُه عليها وهو يُحِسّ:
أما ترويضه على مراقبة الله وهو يعمل... فليتعلّم الإخلاص لله رب العالمين في كل أقواله وأعماله وسائر تصرفاته، ولكي يقصد وجه الله سبحانه في كل عمل يسبقه نية، وعندئذ يتحقق بالعبودية الخالصة لله تعالى، ويكون مِمّن شملهم القرآن بقوله:
{وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنفاء، ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة}. البينة: 05.
وكذلك على المربي أن يُشعِر الولد بأن الله سبحانه لا يقبل منه أي عمل إلا إذا قصد من ورائه وجه الله، وابتغى به مرضاته.. للحديث الذي رواه أبو داود والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وابتُغي به وجهه"، ولقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...".
أما ترويضه على مراقبة الله وهو يفكر... فليتعلم الأفكار التي تقرّبه من خالقه العظيم.. والتي بها ينفع نفسه، وينفع مجتمعه، وينفع الناس أجمعين.. بل يجب أن يُروَّض على أن يكون عقله وقلبه وهواه تبعاً لما جاء به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكذلك على المربي أن يؤدب الولد على المحاسبة حتى على الخواطر السيئة، والأفكار الشاردة.. وأن يُحفّظه أواخر سورة البقرة[1] مع بيان ما فيها من إرشادات وأدعية لما تشتمله هذه الآيات من توجيه إلى مراقبة الله، والمحاسبة للنفس، والالتجاء إلى خالق الأرض والسموات، ومناجاته والدعاء له.
أما ترويضه على مراقبة الله وهو يحس... فليتعلم كل إحساس نظيف، وليتربّى على كل شعور طاهر... فلا يحسد، ولا يحقد، ولا ينمّ، ولا يتمتع المتاع الدَّنِس، ولا يشتهي الشهوات الباطلة.. وكلما أصابه نزغ من الشيطان، أو هاجسة من النفس الأمّارة بالسوء تذكر أن الله سبحانه معه يسمعه ويراه فإذا هو متذكر مبصر.. وهذا النمط من التربية والمراقبة قد وجه إليه المربي الأول عليه الصلاة والسلام في إجابته السائل عن الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وقد أشار إليه القرآن الكريم بقوله:
{وإما ينزغنك من الشياطن نزغٌ فاستعذ بالله إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسَّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} الأعراف: 200-201.
وهذه الظاهرة من الترويض والتعليم.. كانت ديدن السلف الصالح في ترويضهم لأولادهم، وتأديبهم عليها، وإليكم ما قصه الإمام الغزالي في إحيائه:
(قال سهل بن عبد الله التستري: كنت أنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل، فأنظر إلى صلاة خالي (محمد بن سوار)، فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إليّ، الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة، قال لي: خالي احفظ ما علمتك ودُمْ عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه، وناظراً إليه، وشاهده.. أيعصيه؟ إياك والمعصية..) وأصبح سهل رحمه اله من كبار العارفين، ومن رجال الله الصالحين.. بفضل خاله الذي أدَّبه وعلمه ورباه، وغرس في نفسه وهو صغير أكرم معاني الإيمان والمراقبة، وأنبل مكارم الأخلاق.
وحينما ينهج المربون في تربية الأولاد هذا النهج، وحينما يسير الآباء والأمهات في تأديب الأبناء على هاتيك القواعد... يستطيعون في فترة يسيرة من الزمن أن يكوّنوا جيلاً مسلماً مؤمناً بالله، معتزّاً بدينه، مفتخراً بتاريخه وأمجاده.. ويستطيعون كذلك أن يكوِّنوا مجتمعاً نظيفاً من الإلحاد، نظيفاً من الميوعة، نظيفاً من الحقد، نظيفاً من الجريمة.
وهذه التربية الإيمانية التي فصلنا فيها، ودار الكلام حولها.. هي التي يلح عليها كبار علماء التربية والأخلاق في بلاد الغرب لتحرر المجتمع من الإلحاد والرذيلة والميوعة والجريمة..
وإليكم طرفاً من أقوالهم:
• كتب "دستوفسكي" أعظم قصصي في عالم الغرب ليبين كيف أصبح الإنسان متلبِّساً بالشياطين حين هجر الله تعالى[2].
• ويقول الأديب الفرنسي الشهير "فولتير" ساخراً من طبقة الملحدين الماديين المشككين:
(لِمَ تشككون في الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرقني خادمي!!..).
• ويقول الدكتور "هنري لُنك" الطبيب النفسي الأمريكي في كتابه "العودة إلى الإيمان".
(فإن هؤلاء الآباء الذين كانوا يتساءلون كيف ينمّون عادات أولادهم الخلقية ويشكلونها، في حين ينقصهم هم أنفسهم تلك التأثيرات الدينية التي كانت قد شكلت أخلاقهم من قبل، كانوا في الحقيقة يجابهون مشكلة لا حل لها، فلم يوجد بعد ذلك البديل الكامل الذي يحل محل تلك القوة الهائلة التي يخلقها الإيمان بالخالق وبناموسه الخَلْقي الإلهي في قلوب الناس..).
• وذكرت مجلة الحج المكية في السنة 23 من الجزء الثالث عن لسان "سوتيلانا" بنت استالين: (أن السبب الحقيق لهجر وطنها وأولادها هو "الدين" فقد نشأت في بيت ملحد لا يعرف أحد من أفراده "الرب"، ولا يُذكر عندهم عمداً ولا سهواً.. ولما بلغت سن الرشد وجدت في نفسها – من غير أي دافع خارجي – إحساساً قويّاً بأن الحياة من غير الإيمان بالله ليست حياة، كما لا يمكن أن يقام بين الناس أي عدل أو أي إنصاف من غير الإيمان بالله، وشعرت من قرارة نفسها أن الإنسان في حاجة إلى الإيمان كحاجته إلى الماء والهواء..).
• وقد أعلن الفيلسوف "كانت" أنه لا وجود للأخلاق دون اعتقادات ثلاث: (وجود الإله، وخلود الروح، والحساب بعد الموت).
والذي نخلص إليه بعد ما تقدم: أن الإيمان بالله هو أساس إصلاح الولد، وملاك تربيته الخُلقية والنفسية... ولقد رأيت – أخي القارئ – من أقوال علماء التربية والأخلاق في العالم، الصلة الوثيقة بين الإيمان والخلق، والرابطة المتينة بين العقيدة والعمل، وإن شاء الله في معالجتنا لبحث "مسؤولية التربية الخلقية" فسنفصل القول عن أثر الإيمان في تقويم سلوك الولد، وتهذيب خلقه، وتقويم اعوجاجه، وعلى الله قصد السبيل، ومنه نستمد العون والتوفيق.
وصفوة القول إن مسؤولية التربية الإيمانية لدى المربين والآباء والأمهات.. لهي مسؤولية هامة وخطيرة لكونها منبع الفضائل، ومبعث الكمالات.. بل هي الركيزة الأساسية لدخول الولد في حظيرة الإيمان، وقنطرة الإسلام.. وبدون هذه التربية لا ينهض الولد بمسؤولية، ولا يتصف بأمانة، ولا يعرف غاية، ولا يتحقق بمعنى الإنسانية الفاضلة، ولا يعمل لمثل أعلى ولا هدف نبيل.. بل يعيش عيشة البهائم ليس له هم سوى أن يسد جوعته، ويشبع غريزته، وينطلق وراء الشهوات والملذات، ويصاحب الأشقياء والمجرمين.. وعندئذ يكون من الزمرة الكافرة، والفئة الإباحية الضالة التي قال الله عنها في محكم كتابه:
{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم} محمد: 12.
فعلى الأب أو المربي ألا يترك فرصة سانحة تمر إلا وقد زود الولد بالبراهين التي تدل على الله، وبالإرشادات التي تثبت الإيمان، وباللفتات التي تقوّي فيه جانب العقيدة.. وهذا الأسلوب من انتهاز الفرص في النصائح الإيمانية، هو أسلوب المُربي الأول صلوات الله وسلامه عليه حيث كان يسعى دائماً إلى أن يوجه الأولاد إلى كل ما يرفع من شأنهم، ويرسخ الإيمان واليقين في أعماق نفوسهم.
وإليك – أخي القارئ – بعض النماذج من توجيهه وأسلوبه عليه الصلاة والسلام:
روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف".
وفي رواية غير الترمذي: "احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً".
وختاماً: أقترح على المربين والمعلمين والآباء.. أن يختاروا لتلاميهم وأبنائهم أفضل الكتب لتعليم الأولاد عقيدة التوحيد منذ سن التعقل والتمييز، وأرى أن يكون التعليم على مراحل، كل مرحلة تتفق مع سن الولد ومع نضجه وثقافته..
دراسة المرحلة الأولى:
وهي ما بين سن العاشرة إلى الخامسة عشرة:
1- كتاب "المعرفة" لفضيلة العالم المرشد الشيخ عبد الكريم رفاعي رحمه الله.
2- وكتاب "العقائد" للإمام حسن البنا رحمه الله.
3- وكتاب "الجواهر الكلامية" للأستاذ طاهر الجزائري.
دراسة المرحلة الثانية:
وهي ما بين سن البلوغ إلى سن العشرين:
1- "أصول العقائد" للأستاذ عبد الله عرواني.
2- كتاب "الوجود الحق" للدكتور حسن هويدي.
3- كتاب "شبهات وردود" للمؤلف.
دراسة المرحلة الثالثة:
وهي ما بعد سن العشرين:
1- كتاب "كبرى اليقينيات الكونية" للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.
2- كتاب "الله جل جلاله" للأستاذ سعيد حوّى.
3- كتاب "قصة الإيمان" للأستاذ نديم الجسر.

ويضاف إلى كتب مرحلتي الثانية والثالثة كتب عقيدية وفكرية أخرى، فعلى كل شاب مسلم أن يقتنيها ويمر على دراستها، ويتعمق في فهمها ومطالعتها لكونها ترسخ جانب العقيدة، وتزيد من معين الإيمان...
وأهم هذه الكتب هي:
1- الدين في مواجهة العلم للأستاذ وحيد الدين خان.
2- الإسلام يتحدى للأستاذ العالم وحيد الدين خان.
3- الله يتجلى في عصر العلم لمجموعة من علماء الغرب.
4- العلم يدعو إلى الإيمان لكريسى موريسون.
5- الله والعلم الحديث لعبد الرزاق نوفل.
6- الطب في محراب الإيمان للدكتور خالص كنجو.
7- قصة الهداية للمؤلف.
إلى غير ذلك من هذه الكتب التي تقوي الإيمان، وترسخ معاني العقيدة والإسلام.. هذا إن كان الولد مثقفاً يتابع مراحل دراسته حتى الجامعة.. أما إذا كان الولد مقتصراً في دراسته على المرحلة الابتدائية ثم نزل الحياة العملية لابتغاء الرزق، فعلى الأب أن يسعى جهده في تعليمه عقيدة التوحيد في أوقات فراغه على يد أساتذة أكفاء يلقنونه مبادئ الإيمان، ويغرسون في نفسه بذور التوحيد الخالص حتى يعرف بوضوح ما يجب لله، وما يجوز، وما يستحيل.. وعندئذ ينشأ على التربية الإيمانية الخالصة.. فلا يتزعزع بشبهة ولا ينساق وراء فتنة أو إغراء!!.
[1] الآيات تبدأ من قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم...} ... إلى آخر السورة.
[2] من كتاب "مباهج الفلسفة" لـ (ول ديوارنت) ج: 2 ص 276.

يتبع