بقلم : الشيخ عبد الله علوان.

مقدمة :


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أبان للعباد منهج التربية القويمة في قرآنه المجيد، وأوضح للعالمين مبادئ الخير والهدى والإصلاح في أحكام شرعه الحنيف.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله للإنسانية مؤدباً، وأنزل عليه تشريعاً يحقق للبشرية أسمى آيات عزها ومجدها، وأعظم غايات سؤددها ومكانتها، ورفعتها واستقرارها، وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، الذين أعطوا الأجيال المتعاقبة نماذج فريدة في تربية الأبناء وتكوين الأمم، وعلى من نهج نهجهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

1- فمن فضل هذا الإسلام على البشرية أن جاءها بمنهاج شامل قويم في تربية النفوس، وتنشئة الأجيال، وتكوين الأمم، وبناء الحضارات، وإرساء قواعد المجد والمدنية.. وما ذاك إلا لتحويل الإنسانية التائهة من ظلمات الشرك والجهالة والضلال والفوضى، إلى نور التوحيد والعلم والهدى والاستقرار.. وصدق الله العظيم في محكم تنزيله: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم} المائدة: 16.

2- ويكفي شريعة الإسلام فخراً وفضلاً أن شهد الخصوم بنمائها واستمرارها، واعترف الأعداء بحيويتها وخلودها.. وإليكم – يامن تستهويكم شهادات الغربيين - طائفة من أقوالهم، وطاقة من أريج مدحهم، وطيب ثنائهم، لتعرفوا ماذا يقول المنصفون من غير المسلمين عن رسالة الإسلام الخالدة، وتعاليمه السامية؟:
• نقل الأستاذ (غوستاف لوبون) عن الأستاذ (ليبري) قوله:
(لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوربا الحديثة عدة قرون).
• وقال (لين بول) في كتابه (العرب في إسبانيا): (فكانت أوربا الأمية تزخر بالجهل والحرمان، بينما كانت الأندلس تحمل إمامة العلم، وراية الثقافة في العالم).
• وقال (إلياس أبو شبكة) في كتابه (روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة): (إن زوال الحضارة الغربية كان شؤما على إسبانيا وأوربا، فالأندلس لم تعرف السعادة إلا في ظل العرب، وحالما ذهب العرب حلّ الدمار محل الثراء والجمال والخصب..).
• وقال (سيديلوت) في كتابه (تاريخ العرب): (كان المسلمون في القرون الوسطى متفردين في العلم والفلسفة والفنون، وقد نشروها أينما حلت أقدامهم، وتسربت عنهم إلى أوربا، فكانوا سبباً لنهضتها وإرتقائها).
• والكثير من المثقفين يعلمون شهادة الفيلسوف الإنكليزي المشهورة (برناردشو)، اسمعوا إلى ما يقوله بالحرف الواحد:
(لقد كان دين محمد موضع تقدير سام لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة، وإنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، وأرى واجباً أن يُدعى محمد "منقذ الإنسانية"، وإن رجلاً كشاكلته إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته..).
فهذه الأقوال، وأقوال غيرها، تعطي لكل ذي فهم وبصيرة البرهان تِلوَ البرهان على ما انطوى عليه نظام الإسلام من قوة دفع حضارية، ومبادئ تطويرية شاملة، وتعاليم حيوية خالدة.. والفضل كل الفضل بما اعترف به المنصفون وشهد به الأعداء:
شهد الأنام بفضله حتى العدا    والفضل ما شهدت به الأعداء

3- وإذا كانت الشريعة الإسلامية تتصف بالربانية، وتتسم بالشمول، وتختص بالتجدد والاستمرار، فهل مبادئها الشاملة، ومعطياتها المتجددة.. فكرة مجردة في الأذهان ونظريات مدونة في الكتب، أم هي متحققة في أمة تلمسها الأيدي، وتراها العيون؟.
فلنُحِل الجواب إلى شهيد الإسلام سيد قطب – رحمه الله – ولنسمع منه ما يقوله: (وانتصر محمد بن عبد الله يوم صنع أصحابه – عليهم رضوان الله –صوراً حية من إيمانه.. تأكل الطعام، وتمشي في الأسواق. يوم صاغ من كلٍّ منهم قرآناً حيٍّا يدبّ على الأرض. يوم جعل من كل فرد نموذجاً مجسماً للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام.
إن النصوص وحدها لا تصنع شيئاً، وإن المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلاً، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكاً.
ومِنْ ثَمّ جعل محمد صلى الله عليه وسلم هدفه الأول أن يصنع رجالاً لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبّج خطباً، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، أما الفكرة ذاتها فقد تكفّل بها القرآن الكريم، وكان عمل محمد صلى الله عليه وسلم أن يحوّل الفكرة المجردة الى رجال تلمسهم الأيدي، وتراهم العيون..
ولقد انتصر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصاً وحوّل إيمانهم بالإسلام عملاً، وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئات وألوفاً، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، إنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله)[1].
ومن أراد أن يعرف شيئاً عن تربية الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جاء بعدهم بإحسان، فليستقرئ التاريخ ليسمع الكثير عن جليل مآثرهم وكريم فضائلهم.
فهل عرفت الدنيا أنبل منهم وأكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجلّ أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟!
ويكفيهم شرفاً وفخراً وخلوداً أن يقول القرآن العظيم في حقهم: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود} الفتح: 29.
ويقول: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون. وبالأسحار هم يستغفرون. وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} الذاريات: 17-19.
ويقول: {والذين تبوّؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يُوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون}. الحشر: 9.
ويقول: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} الأحزاب: 23.
هذا غيض من فيض مما نزل في كريم مآثرهم، وجميل محامدهم، وقد تحقق بهم فعلاً إقامة المجتمع الفاضل الذي كان حلم المفكرين، وأمنية الفلاسفة منذ القدم..
وكيف لا، والقاضي يجلس بينهم سنتين ولا يتخاصم إليه اثنان؟ ولماذا يتخاصمون وبين أيديهم القرآن؟ ولماذا يختلفون وهم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم؟ ولماذا يتباغضون والإسلام يأمرهم بالمحبة والإخاء، ويحضهم على التعاطف والإيثار؟
وإليكم ما قاله الصحابي الجليل (عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه في تعداد محامدهم وفضائلهم، ووجوب التأسّي بأفعالهم الحميدة، وأخلاقهم الكريمة.. (من كان متأسياً فليتأسّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلّها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً.. اختارهم الله لصُحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).

4- وظلت الأجيال المسلمة عبر القرون تستقي من معين فضائلهم، وتستضيء بنور مكارمهم، وتنهج في التربية نهجهم، وتسير في بناء المجد سيرهم.. حتى العصر الذي انحسر فيه عن المجتمع الإسلامي حكم الإسلام، وزالت في الأرض معالم الخلافة الإسلامية.. واستطاع أعداء الإسلام أن يصلوا إلى هدفهم الخبيث وغرضهم الدفين في تحويل العالم الإسلامي إلى أمم متناحرة، ودول متخاصمة متنابزة.. تتقاذفهم الأهواء، وتجتذبهم المطامع، وتفرقهم المبادئ، وينساقون وراء الشهوات والملذات، ويتخبطون في أوحال التحلل والإباحية، ويسيرون بلا هدف ولا غاية، ويعيشون من غير ما سعي إلى مجد ولا وحدة ولا كيان... تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، وتظنهم قوة ولكنهم غثاء كغثاء السيل.. حتى إن كثيراً من رجالات الإصلاح، وأرباب الدعوة إلى الله قد اعتراهم اليأس، واستحوذ عليهم القنوط، اعقتاداً منهم أن لا سبيل إلى إصلاح هذه الأمة، وأن لا أمل إلى استعادة مجدها واسترجاع عزتها وكيانها.. بل وُجِد من هؤلاء الدعاة من ينادي بالعزلة الكاملة، والتزام أحلاس البيوت، لظنهم أن هذا العصر هو آخر الزمان، وآن الأوان أن يخرج المسلم بنفسه ببضع غنيمات يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن[2] حتى يدركه الموت.

وهذا التصور اليائس للإصلاح ناتج عن أسباب ثلاثة:

(أ) ناتج عن الجهل بطبيعة هذا الدين.
(ب) وناتج عن حب الدنيا وكراهية الموت.
(ج) وناتج عن الجهل بالغاية التي من أجلها خلق المسلم.

(أ) ويوم يفهم المسلمون أن الإسلام دين القوة، وأن شعاره في ذلك {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...} الأنفال: 60.

ويوم يفهمون أن الإسلام دين العلم: العلم الشرعي والعلم الكوني على السواء، وأن شعاره في ذلك: {وقل ربّ زدني علماً} طه: 114.
ويوم يفهمون أن الإسلام اعتبر الإنسان خليفة الله في الأرض يملك زمامها ويستخرج دفائنها، ويطلع على كل سر فيها، وأن شعاره في ذلك: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} الأنعام: 165.
ويوم يفهمون أن الإسلام كرّم الإنسان، وفضّله على كثير مما خلق الله، ليضطلع بمسؤولياته، ويؤدي المهمة الموكَّل بها، وأن شعاره في ذلك: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً} الإسراء: 70.
ويوم يفهمون أن الإسلام يعتبر الإنسان مسؤولا عن عقله، ومسؤولاً عن حواسه إذا هو قام بدور الإهمال والتعطيل، وأن شعاره في ذلك: {ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}. الإسراء: 36.
ويوم يفهمون أن الإسلام اعتبر هذا الكون مسخراً للإنسان، ليستعمله في خدمة العلم، وخدمة الإنسانية، وأن شعاره في ذلك: {وسخَّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه...} الجاثية: 12.
ويوم يفهمون أن الإسلام دين التأمل والتفكير في خلق السموات والأرض للوصول إلى الحقائق الثابتة، وأن شعاره في ذلك: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض...} يونس: 102.
ويوم يفهمون أن الإسلام دين العمل والنشاط والحيوية، وأن شعاره في ذلك: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا، فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}. الملك: 15.
ويوم يفهمون أن الإسلام يحرم اليأس، وينهى عن القنوط وأن شعاره في ذلك: {إنه لا ييأس من رّوح الله إلا القوم الكافرون} يوسف: 87.
ويوم يفهمون أن الإسلام دين العزة والكرامة، فيجب أن يتوِّجوا رؤوسهم بها ويرفعوا في العالم لواءها، وأن شعاره في ذلك: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكنّ المنافقين لا يعلمون} المنافقون: 8.
... يوم يفهم المسلمون عن دينهم كل هذا، ويعرف الناس – وعلى رأسهم الدعاة إلى الله – طبيعة هذا الدين، وحقيقة هذا الإسلام فلا يتملكهم يأس، ولا يدبّ في نفوسهم قنوط.. بل ينطلقون في مضمار الدعوة والإصلاح والبناء.. وليعودوا – كما كان سلفهم – أساتذة للدنيا، وهداة للأمم، ومنارات متلألئة في ظلمات الحياة.. فتستقي البشرية من علومهم، وتنهل من معين معارفهم وحضارتهم على مر العصور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

(ب) ويوم يتحرر المسلمون – وعلى رأسهم العلماء ورجال الدعوة إلى الله – من حب الدنيا، والركون إليها، والتمتع الزائد بلذائذها وطيباتها.. ويجعلون هداية الناس، وإصلاح المجتمع، والسعي إلى إقامة حكم الله في الأرض.. أكبر همهم، ومبلغ علمهم، وغاية الغايات، ومنطلق العزائم والنيات.
ويوم يتحررون من الجبن، والخوف، وكراهية الموت، ويوقنون من قرارة نفوسهم أن الأرزاق بيد الله، وأن الذي يضر وينفع هو الله، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوهم بشيء لم ينفعوهم إلا بشيء قد كتبه الله لهم، وإن اجتمعوا على أن يضروهم بشيء لن يضروهم إلا بشيء قد كتبه الله عليهم.
... يوم يوقن المسلمون بهذا، ويتحررون من أسباب الضعف والوهن، فعندئذ ينطلقون في ميادين الدعوة إلى الله، وفي مجالات التربية والتوجيه والإصلاح.. غير هيّابين ولا وجلين، مبلّغين رسالات ربهم لا يخشون أحداً إلا الله. بل واثقين كل الثقة أن الله سبحانه سينصرهم، ويمكن لهم في الأرض، ويبدلهم من بعد خوف أمناً، ومن بعد ذلة عزاً، ومن بعد تفرق وحدة، وما ذلك على الله بعزيز، إن هم صحَّحوا النيات، وعقدوا الهمة والعزيمة، وتحرروا من اليأس والخوف وحب الدنيا!!..

(ج) ويوم يعرف المسلمون أنهم خلقوا في الحياة لأجل هدف سام وغاية نبيلة، هذه الغاية قد قررها الله لهم في محكم تنزيله حين قال:

{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات: 56.
ولكن ما هي هذه العبودية التي يريدها الله منا، ويأمرنا بها، ويحضنا عليها؟ إنها الخضوع والانقياد لمنهجه الثابت، وصراطه المستقيم.
إنها حمل الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
إنها التكليف المستمر في إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
إنها إعطاء الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.
إنها رفض المبادئ والأفكار التي لا تنبثق من شريعة الإسلام.
هذه هي مهمة المسلم في الأرض، وهذه هي غايته في الحياة.. فحين يعطي المسلم ولاءه لله ورسوله والمؤمنين يكون عبداً لله، وحين يحمل الأمانة بنفس مؤمنة وعزيمة صادقة يكون عبداً لله، وحين لا يقبل هدياً إلا هديه ولا تشريعاً إلا تشريع دينه يكون عبداً لله، وحين يستمر في حركية دائمة وجهاد دائب ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام يكون عبداً لله.
وإلا... فإنه يكون هملاً من سقط المتاع، عبداً للهوى، وعبداً للطاغوت، وعبداً لليأس والجمود والقنوط... يسير بلا غاية، ويتخبط بلا هدى، ويتعثّر بلا دليل.. {أو من كان ميتاً فأحييناه، وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زُيّن للكافرين ما كانوا يعملون} الأنعام: 122.

إذن فليعلم المسلمون طبيعة دينهم.

وليتحرروا من حب الدنيا وكراهية الموت.

وليعرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، وعلى أساسها وجدوا.

حتى ينهضوا بالإسلام من جديد، ويستعيدوا مجدهم الداثر، وعزيمتهم المنيعة، وقوتهم الهائلة، ووحدتهم الشاملة، وما ذلك على الله بعزيز.

5- ولكن ما السبيل إلى الإصلاح؟ وما البداية الصحيحة في تكوين المجتمع الصالح؟ وما المهمة الملقاة على كاهل الآباء والمربين، ورجالات التربية والإصلاح في هذا العصر؟ كل هذه التساؤلات في الحقيقة تدور حول منطلق واحد، وترمي إلى غاية واحدة...
أما أنها تدور حول منطلق واحد: فلأن كل من يهمه أمر الإصلاح، وكل من يعتني بقضية التربية.. يسعى جهده لتغيير هذا الواقع المرير الذي يتخبط أكثر الناس فيه، ويبذل كل ما يملك من وسائل وإمكانيات ليرى هذا المجتمع في المستوى اللائق، والحياة الهانئة الكريمة.
وأما أنها ترمي إلى غاية واحدة: فلأن كل العاملين في حقل التربية والتوجيه والإصلاح.. يجندون قواهم، ويشحذون عزائمهم لإقامة المجتمع الفاضل، وإيجاد الأمة القوية في إيمانها، والقوية في أخلاقها، والقوية في جسمها، والقوية في علومها، والقوية في نفسيتها.. لتستطيع أن تصل إلى النصر المؤزر، والوحدة الشاملة، والمجد الضخم العريض!!..
ولكن ما ملاك هذا كله؟ وما وسائل تطبيقه، ومراحل تنفيذه؟
الجواب يكمن في كلمة واحدة، ألا وهي: كلمة "التربية".
ولكن لهذه الكلمة مدلولات كثيرة، ومجالات واسعة، ومفهومات شاملة!!..
فمن مدلولاتها ومفهوماتها: تربية الفرد، وتربية الأسرة، وتربية المجتمع، وتربية الإنسانية.. وتحت كل صنف من هذه الأصناف تتفرع أنواع، وتندرج أقسام.. وكلها تهدف إلى إقامة المجتمع الفاضل، وإيجاد الأمة المثلى.
وما تربية الأولاد إلا فرع من تربية الفرد الذي يسعى الإسلام إلى إعداده وتكوينه ليكون عضواً نافعاً، وإنسانا صالحاً في الحياة.
بل تربية الولد إن – أُحسنت ووجهت – ما هي في الحقيقة إلا أساس متين في إعداد الفرد الصالح، وتهيئته للقيام بأعباء المسؤولية، وتكاليف الحياة.

6- وما هذا الكتاب الذي بين يديك – أخي القارئ - إلا تبيان للمنهج الكامل الصحيح في تربية الأولاد في الإسلام.. وحين يوفقك الله سبحانه لقراءته تعلم أن من مزايا هذا التشريع الإسلامي مزية الشمول، الشمول الكامل لكل ما يسعد الإنسانية في دينها ودنياها وآخرتها، ويتبين لك كذلك أن للإسلام طريقته في التربية، ومنهجه في الإصلاح.. فحينما يأخذ المربون بطريقته ومنهجه.. يحل في الأمة الاستقرار والأمن والسعادة محل الفوضى والخوف والشقاء.. ويتضح لناظريك أيضاً أن هذا الإسلام هو دين الحياة، ودين الإنسانية، ودين الوعي والتربية والإصلاح.. وحينما تهتدي البشرية بهديه، وتستقي الأمم من معينه، وتأخذ الدول بمبادئه وتشريعه، فإن السلام في العالم يسود، ومعالم المجتمع الفاضل تتراءى للأعين بجلاء ووضوح، ويعيش الناس في ظلال الإسلام سعداء آمنين!!..
لماذا؟.. لأنه دين رب العالمين، ورسالة فخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم والتشريع الشامل الكامل الذي ارتضاه الله للبشرية ليكون لها دستوراً ومنهاجاً.

7- ومن الملاحظ أن المكتبة الإسلامية فقيرة في كل ما كتب عن تربية الأولاد في الإسلام، وحتى الآن لم أعثر – فيما اطلعت عليه – على كتاب جامع شامل مستقل يبحث عن تربية الولد منذ ولادته إلى سن التكليف، اللهم إلا كتاب (تحفة المودود في أحكام المولود) لابن القيم الجوزية رحمه الله، فإنه يبحث فقط في المولود، وما يتعلق به من أحكام، وقد استفدت منه كثيراً في كتابه الفصل الثالث وما بعده في القسم الأول، فجزى الله مؤلفه أفضل الجزاء، وأجزل مثوبته، ورفعه في الدار الآخرة مقاماً عليّاً.
والله يعلم كم بذلت من جهد! وكم بحثت في مراجع! لأخرج لقراء العربية كتاباً جامعاً مستقلاً يتناول تربية الولد منذ الولادة إلى التمييز إلى المراهقة إلى سن التكليف.. ويتناول كذلك المنهج الكامل الذي يجب أن يسير عليه الآباء والمربون، وكل من له في عنقه حق التوجيه والتربية.
وقد جاء الكتاب – والحمد لله – موفياً بالغرض، محققاً للهدف، مفصلاً الوسائل والغايات.. هذا ولا أدعي الكمال فيما كتبت، والعصمة فيما بحثت، والاستيعاب فيما ألفت، ولكن أرجو من الله سبحانه أن تكون هذه البداءة حافزاً لرواد الفكر الإسلامي في هذا العصر في أن يشحذوا أقلامهم ويحركوا هممهم وعزائمهم.. ليكتبوا في حقل تربية الأولاد، ويستوعبوا البحث فيها، ويكثروا من البحوث والتآليف لتبيان وسائلها وغاياتها.. لنرى بعد قليل أن المكتبة الإسلامية قد فاضت بالكتب التربوية، والبحوث الإرشادية.. ليكون عند كل من يهمه أمر التربية المراجع الوافية لاتباع أفضل الطرق في إعداد الولد إسلاميّاً، وتكوينه روحيّاً وخلقيّاً وفكريّاً.. ويوم تتضافر جهود العاملين في الكتابة عن التربية الإسلامية، ويؤدون ما عليهم من واجب ومسؤولية في هذا المضمار.. يكونون قد أبانوا للجيل الحاضر طريق العز والقوة، ووضحوا لكل ذي عينين من أبناء الإنسانية الوسائل العملية التي تؤدي إلى إقامة المجتمع الفاضل، وتكوين الجيل المثالي.

8- ولقد رأيت أن أُخِرج كتاب (تربية الأولاد في الإسلام) في ثلاثة أقسام متتابعة، كل قسم يتناول عدة فصول، وكل فصل يندرج تحته عدة موضوعات، وستكون عناوين الفصول في كل قسم على النحو التالي:

القسم الأول: ويتناول أربعة فصول:
الفصل الأول: الزواج المثالي وارتباطه بالتربية.
الفصل الثاني: الشعور النفسي نحو الأولاد.
الفصل الثالث: أحكام عامة تتعلق بالمولود، ويشمل هذا الفصل أربعة مباحث:
الأول: ما يفعله المربي عند الولادة.
الثاني: تسمية المولود وأحكامها.
الثالث: عقيقة المولود وأحكامها.
الرابع: ختان المولود وأحكامه.
الفصل الرابع: أسباب الانحراف عند الأولاد ومعالجته.
القسم الثاني: وهو بحث واحد تحت عنوان (المسؤوليات الكبرى لدى المربين) ويتناول سبعة فصول:
الفصل الأول: مسؤولية التربية الإيمانية.
الفصل الثاني: مسؤولية التربية الخلقية.
الفصل الثالث: مسؤولية التربية الجسمية.
الفصل الرابع: مسؤولية التربية العقلية.
الفصل الخامس: مسؤولية التربية النفسية.
الفصل السادس: مسؤولية التربية الاجتماعية.
الفصل السابع: مسؤولية التربية الجنسية.
القسم الثالث: ويتناول ثلاثة فصول وخاتمة:
الفصل الأول: وسائل التربية المؤثرة.
الفصل الثاني: القواعد الأساسية في تربية الولد.
الفصل الثالث: اقتراحات تربوية لا بد منها.
وأخيراً: خاتمة المطاف.

تلكم هي الخطوط العريضة لفصول كل قسم من أقسام الكتاب. وستجد أخي القارئ أن تحت كل فصل من هذه الفصول بحوثاً هامة، وموضوعات مفيدة.. وكلها تستهدف توضيح المنهج الأفضل في التربية القويمة للأبناء، وإعدادهم أعضاء صالحين للحياة، وجنوداً أقوياء للإسلام، وشباباً وثاباً يحملون في نفوسهم أنبل معاني الكرامة والتضحية والفداء.

وفي الختام أسأل الله سبحانه أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبله مني يوم العرض عليه، وأن يجعل من هذه السلسلة أداة نفع للعباد، وشعلة نور وهداية لكل من يريد أن يسير في الحياة على هدى وصراط مستقيم، إنه أفضل مأمول، وبالإجابة جدير.

المؤلف

عبدالله ناصح علوان

يـتـبـع



[1] من كتاب (دراسات إسلامية) للشهيد سيد قطب فصل (انتصار محمد بن عبد الله).

[2] روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن". الحديث محمول على من يفتن بدينه ويجبر على الردة، أما أنه مادام يوجد مسلمون يؤدون الشعائر، ويطبقون على أنفسهم أحكام الإسلام، ومادام أنه ثمة مجال للتعاون، وتحقيق العز الإسلامي فإنه يحرم على المسلمين العزلة والانزواء، لأنه مالا يتحقق الواجب إلا به فهو واجب، ولهذا وجب على المسلمين اليوم أن يحققوا حكم الله، ويقيموا دولة الإسلام.. وإلا فهم آثمون.