الأزمة التي تتعرَّض لها حاليًّا الاقتصادات العالمية أصابت شعوب وحكومات العالم على السواء بالهلع، وأثارت العديد من علامات الاستفهام حول مستقبل الاقتصاد الرأسمالي الربوي الذي ساد العالم عقب انهيار الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.
كما أن الأزمة الحالية التي تضرب النظرية الرأسمالية الربوية في مقتل أعادت إلى الواجهة من جديد الحديث عن النظام الاقتصادي الإسلامي كبديلٍ؛ لكونه أكثر مثاليةً وأمانًا واستقرارًا.

 

وكان علماء الاقتصاد الوضعي قد تنبئوا من قبل بانهيار النظام الاقتصادي الاشتراكي؛ لأنه يقوم على مفاهيم ومبادئ تتعارض مع فطرة الإنسان وسجيته ومع أحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية، كما تنبَّأ العديد من رواد النظام الاقتصادي الرأسمالي بانهياره؛ لأنه يقوم على مفاهيم ومبادئ تتعارض مع سنن الله سبحانه وتعالى ومع القيم والأخلاق، كما أنه يقوم على الاحتكار والفوائد الربوية (نظام فوائد القروض والائتمان)، والتي يرونها أشد الشرور على وجه الأرض، وتقود إلى عبادة المال وسيطرة أصحاب القروض (المقرضون) على المقترضين، وتسلب حرياتهم وأعمالهم وديارهم، وتسبِّب آثارًا اجتماعية واقتصادية خطيرة.

 

تشخيص الأزمة

وإن تشخيص أسباب الأزمة هو مفتاح العلاج السليم؛ فتصور الشيء تصورًا سليمًا ودقيقًا ومحايدًا وموضوعيًّا هو جزء من تقديم الحل السليم الموضوعي الرصين.

 

يقول علماء الاقتصاد العالمي، ومنهم الذين حصلوا على جائزة نوبل في الاقتصاد، مثل "موريس آليه": إن النظام الاقتصادي الرأسمالي يقوم على بعض المفاهيم والقواعد التي هي أساس تدميره إذا لم تعالج وتصوَّب تصويبًا عاجلاً، كما تنبَّأ العديد من رجال الاقتصاد الثقات أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد يقوم على مبادئ تقود إلى إفلاسه.

 

ومما ذكروه من أسباب هذه الأزمة على حد آرائهم ما يلي:

أولاً: انتشار الفساد الأخلاقي الاقتصادي، مثل: الاستغلال والكذب، والشائعات المغرضة والغش، والتدليس والاحتكار والمعاملات الوهمية، وهذه الموبقات تؤدي إلى الظلم، أي ظلم أصحاب الأموال الأغنياء والدائنين للفقراء والمساكين والمدينين، وهذا سوف يقود إلى تذمر المظلومين عندما لا يستطيعون تحمل الظلم وإلى تذمر المدينين وحدوث الثورات الاجتماعية عند عدم سداد ديونهم وقروضهم.

 

ثانيًا: من أسباب الأزمة كذلك أن أصبحت المادة هي الطغيان وسلاح الطغاة والمسيطرة على السياسة واتخاذ القرارات السيادية في العالم، وأصبح المال هو معبود الماديين.

 

ثالثًا: يقوم النظام المصرفي الربوي على نظام الفائدة أخذًا وعطاءً، ويعمل في إطار منظومة تجارة الديون شراءً وبيعًا ووساطةً، وكلما ارتفع معدل الفائدة على الودائع ارتفع معدل الفائدة على القروض الممنوحة للأفراد والشركات، والمستفيد منها يتمثَّل في البنوك والمصارف والوسطاء الماليين.

 

والعبء والظلم يقع على المقترضين الذي يحصلون على القروض، سواء لأغراض الاستهلاك أو لأغراض الإنتاج، ويرى بعض الاقتصاديين أنه لا تتحقَّق التنمية الحقيقية والاستخدام الرشيد لعوامل الإنتاج إلا إذا كان سعر الفائدة صفرًا، وهذا ما قاله "آدم سميت" أبو الاقتصاديين (على حد رأيهم) ويرون أن البديل هو نظام المشاركة في الربح والخسارة؛ لأنه يحقِّق الاستقرار والأمن كذلك.. إن نظام الفائدة يقود إلى تركُّز الأموال في يد فئة قليلة سوف تسيطر على الثروة.

 

رابعًا: يقوم النظام المالي والمصرفي التقليدي على نظام جدولة الديون بسعر فائدة أعلى أو استبدال قرض واجب السداد بقرض جديد، وبسعر فائدة مرتفع، كما كان المرابون يقولون في الجاهلية "أتقضي أم تربي؟"، وهذا يُلقي أعباءً إضافيةً على المقترض المدين الذي عجز عن دفع القرض الأول بسبب سعر الفائدة الأصلي.

 

خامسًا: يقوم النظام المالي العالمي ونظام الأسواق المالية على نظام المشتقات المالية التي تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على معاملات وهمية ورقية شكلية تقوم على الاحتمالات، ولا يترتب عليها أية مبادلات فعلية للسلع والخدمات؛ فهي عينها المقامرات والمراهنات التي تقوم على الحظ والمقامرة، والأدهى والأمرُّ أن معظمها يقوم على ائتمانات من البنوك في شكل قروض، وعندما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ينهار كل شيء وتحدث الأزمة المالية.

 

سادسًا: من الأسباب كذلك سوء سلوكيات مؤسسات الوساطة المالية التي تقوم على إغراء الراغبين (المحتاجين) في القروض والتدليس عليهم وإغرائهم والغرر والجهالة بالحصول على القروض من المؤسسات المالية، ويطلبون عمولات عالية في حال وجود أخطار.

 

والذي يتحمل تبعة ذلك كله هو المقترض المدين الذي لا حول له ولا قوة، وهذا ما حدث فعلاً ويقود في النهاية إلى الأزمة.

 

سابعًا: يُعتبر التوسع والإفراط في تطبيق نظام بطاقات الائتمان بدون رصيد (السحب على المكشوف)، والتي تحمِّل صاحبها تكاليفَ عاليةً من أسباب الأزمة، وعندما يعجز صاحب البطاقة عن سداد ما عليه من مديونية يُزاد عليه في سعر الفائدة، وهكذا حتى يتم الحجز عليه أو رهن سيارته أو منزله، وهذا ما حدث فعلاً للعديد من حاملي هذه البطاقات، فقادتهم إلى خللٍ في ميزانية البيت، وكانت سببًا في أزمة في بعض البنوك الربوية.

 

الآثار المدمرة للأزمة

حتى هذه المرحلة من إرهاصات أزمة النظام المالي العالمي، والذي أصيب بجلطة خطيرة ونزيف داخلي في مخه، أدَّت إلى شللٍ في أعضاء الجسد وتجمُّد شرايين النشاط الاقتصادي.
ومن آثار ذلك السيئة ما يلي:

أولاً: الذعر والخوف والقلق والتخبط الذي أصاب الناس جميعًا، وأصبحت هذه الأزمة مثل سرطان الدم الذي يسري في الحياة الاقتصادية.

 

ثانيًا: إفلاس بعض البنوك والمصارف والمؤسسات المالية بسبب نقص السيولة وزيادة مسحوبات المودعين، واضطرار بعض الحكومات من خلال البنوك المركزية إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البقية الباقية؛ حتى لا يحدث انهيار تام للحياة الاقتصادية وتقع الدولة في دائرة الإفلاس.

 

ثالثًا: إفلاس بعض الشركات، والتي كانت تعتمد على صيغة التمويل بنظام القروض بفوائد، أو تقف بعض خطوطها الإنتاجية كما بدأت بعض البنوك بتنفيذ الرهونات والضمانات التي معها، وهذا سبَّب خللاً في التدفقات النقدية إليها.

 

رابعًا: فَقْد الوظائف وارتفاع نسبة طالبي الإعانات الاجتماعية الحكومية وغيرها، وهذا ألقى المزيد من الأعباء على ميزانيات الدول، وأوقف العديد من المشروعات الاستثمارية الجديدة.

 

خامسًا: قيام بعض الدول بفرض المزيد من الضرائب لتعويض العجز في ميزانياتها بسبب ارتفاع ميزانية الدعم وتقديم المساعدات للشركات والبنوك المقبلة على الإفلاس، أو لدعم الودائع أو نحو ذلك.

 

سادسًا: فقدان المقترضين لأصولهم ومنازلهم المرهونة بسبب القروض، وأصبحوا في عداد المُشرَّدين واللاجئين والمُهجَّرين والفقراء والمساكين.

 

الأمن والاستقرار في الاقتصاد الإسلامي

يتساءل كثيرٌ من الناس: ما أثر أزمة النظام المالي العالمي على المؤسسات المالية الإسلامية من مصارف وشركات استثمار ودور تمويل وما في حكم ذلك؟

 

يجب ألا يكون ردود علماء الاقتصاد الإسلامي وخبراء المؤسسات المالية الإسلامية على الأحداث المالية والمصرفية العالمية ردَّ فعل، بل يجب إبراز مفاهيم وقواعد النظام الاقتصادي والمالي للناس وبيان مرجعيته وتطبيقاته، وتأكيد أن حدوث مثل هذه الأزمات كان سبب غياب تطبيق مفاهيمه ومبادئه ونظمه، وهذا ما سوف نتناوله من خلال التركيز على قواعد الأمن والاستقرار في النظام المالي والاقتصادي الإسلامي بما يضمن عدم حدوث مثل هذه الأزمات.
يقوم النظام المالي والاقتصادي الإسلامي، وكذلك مؤسساته المالية، على مجموعةٍ من القواعد التي تحقِّق له الأمن والاستقرار وتقليل الأخطار؛ وذلك بالمقارنة مع النظم الوضعية التي تقوم على نظام الفائدة والمشتقات المالية.

 

ومن أهم هذه القواعد ما يلي:

أولاً: يقوم النظام المالي والاقتصادي الإسلامي على منظومةٍ من القيم والمثل والأخلاق، مثل الأمانة والمصداقية، والشفافية والبينة، والتيسير والتعاون، والتكامل والتضامن؛ فلا اقتصاد إسلامي بدون أخلاق ومُثُل، وتُعتبر هذه المنظومة من الضمانات التي تحقِّق الأمن والاستقرار لكافة المتعاملين، وفي نفس الوقت تحرِّم الشريعة الإسلامية المعاملات المالية والاقتصادية التي تقوم على الكذب والمقامرة، والتدليس والغرر، والجهالة والاحتكار، والاستغلال والجشع، والظلم وأكل أموال الناس بالباطل.

 

ويُعتبر الالتزام بالقيم الإيمانية والأخلاقية عبادةً وطاعةً لله؛ يثاب عليها المسلم وتضبط سلوكه، سواء كان منتجًا أو مستهلكًا، بائعًا أو مشتريًا؛ وذلك في حالة الرواج والكساد وفي حالة الاستقرار أو في حالة الأزمة.

 

ثانيًا: يقوم النظام المالي والاقتصادي الإسلامي على قاعدة المشاركة في الربح والخسارة على قاعدة التداول الفعلي للأموال والموجودات، ويحكم ذلك ضوابط الحلال الطيب والأولويات الإسلامية، وتحقيق المنافع المشروعة والغنم بالغرم، والتفاعل الحقيقي بين أصحاب الأموال وأصحاب الأعمال والخبرة، والعمل وفق ضابط العدل والحق وبذل الجهد.. هذا يقلل من حدة أية أزمة؛ حيث لا يوجد فريق رابح دائمًا أبدًا وفريق خاسر دائمًا أبدًا، بل المشاركة في الربح والخسارة.

 

ولقد وضع الفقهاء وعلماء الاقتصاد الإسلامي مجموعةً من عقود الاستثمار والتمويل الإسلامي التي تقوم على ضوابط شرعية، ومن هذه العقود صيغ التمويل بالمضاربة وبالمشاركة،، وبالمرابحة والاستصناع والسلم والإجارة، والمزارعة والمساقاة، ونحو ذلك.

 

كما حرَّمت الشريعة الإسلامية كافة عقود التمويل بالاستثمار القائمة على التمويل بالقروض بفائدة، والتي تُعتبر من الأسباب الرئيسية للأزمة المالية العالمية الحاليَّة.

 

ثالثًا: حرَّمت الشريعة الإسلامية نظام المشتقات المالية، والتي تقوم على معالات وهمية يسودها الغرر والجهالة، ولقد كيَّف فقهاء الاقتصاد الإسلامي مثل هذه المعاملات على أنها من المقامرات المنهي عنها شرعًا.

 

وقد أكد الخبراء وأصحاب البصيرة من علماء الاقتصاد الوضعي أن من أسباب الأزمة المالية العالمية المعاصرة هو نظام المشتقات المالية؛ لأنها لا تسبّب تنمية اقتصادية حقيقية، بل هي وسيلة من وسائل خلق النقود التي تُسبِّب التضخم وارتفاع الأسعار، كما تقود إلى أرذل الأخلاق، كما أنها تُسبِّب الانهيار السريع في المؤسسات المالية التي تتعامل بمثل هذا النظام، وما حدث في أسواق دول شرق آسيا ليس منا ببعيد.

 

رابعًا: لقد حرَّمت الشريعة الإسلامية كافة صور وصيغ أشكال بيع الدَّين بالدَّين، مثل "خصم الأوراق التجارية وخصم الشيكات المؤجلة السداد"، كما حرَّمت نظام جدولة الديون مع رفع سعر الفائدة، ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ (بيع الدَّين بالدَّين).

 

ولقد أكد خبراء وعلماء الاقتصاد الوضعي أن من أسباب الأزمة المالية المعاصرة هو قيام بعض شركات الوساطة المالية بالتجارة في الديون؛ مما أدى إلى اشتعال الأزمة، وهذا ما حدث فعلاً.

 

خامسًا: يقوم النظام المالي الاقتصادي الإسلامي على مبدأ التيسير على المقترض الذي لا يستطيع سداد الدين لسباب قهرية، يقول الله تبارك وتعالى:?وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280)? (البقرة).

 

في حين أكد علماء النظام المالي والاقتصادي الوضعي أن من أسباب الأزمة توقُّف المدين عن السداد، وقيام الدائن برفع سعر الفائدة أو تدوير القرض بفائدة أعلى، أو تنفيذ الرهن على المدين وتشريده وطرده؛ فلا يُرقَب فيه إلاًّ ولا ذمة، وهذا يقود إلى أزمة اجتماعية وإنسانية، تُسبِّب العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك.

 

الاقتصاد الإسلامي هو المنقذ

تبيَّن من تحليل أسباب الأزمة المالية المعاصرة أنها تتركز على النظم الوضعية الآتية:

1- نظام الفائدة (الربا) على الودائع ونظام الفائدة على القروض.

2- نظام التجارة بالديون أخذًا وعطاءً.

3- نظام جدولة الديون مع رفع سعر الفائدة مقابل زيادة الأجل.

4- نظام بيع الديون.

5- نظام المشتقات الذي يقوم على المعاملات الاجتماعية والحظ.

كما تبيَّن من مفاهيم وقواعد وضوابط النظام المالي والاقتصادي الإسلامي ومؤسساته المالية أنه يحرِّم كل هذه النظم التي كانت سببًا في وجود الأزمة وتتعارض مع فطرة الإنسان والمقاصد الشرعية.

 

فلقد حرَّمت الشريعة الإسلامية نظام الفائدة الربوية على القروض والائتمان، وأحلَّت نظم التمويل والاستثمار القائمة على المشاركة وتفاعل رأس المال والعمل في إطار قاعدة الغنم بالغرم.

 

كما حرَّمت الشريعة الإسلامية كافة صور الغرر والجهالة، والتدليس والمقامرة، والغش والكذب، والإشاعات والاستغلال، وأكل أموال الناس بالباطل، وأكدت الالتزام بالصدق والأمانة والشفافية.

 

الخلاصة:

نخلص مما سبق إلى أنه عندما يتم الالتزام بقواعد وضوابط الاقتصاد الإسلامي يمكن الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية التي تضرب العالم حاليًّا، وصدق الله القائل:?فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)? (طه).
وقوله تبارك وتعالى: ?يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)? (البقرة).

---------

* خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية بجامعة الأزهر.