رسالة من: أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..
مضى شهر رجب بحُرْمَته وتفرُّده، ودخل شهر شعبان، واقتربنا من واحة رمضان الوارفة الظليلة.. والعاقل من يترقب مواسم الخير ومواقيت القبول وميادين السباق والفوز.. فلا يغفل عنها ولا ينام، وليتَّعِظ بمرور الشهور والأيام، وليذكر قول الله تبارك وتعالى: (وهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان: 62)، وقول حبيبه صلى الله عليه وسلم: "إن لله في أيام دهره لنفحات، ألا فتَعَرَّضُوا لها".
لقد كان الشعور بالزَّمَن وترقُّب الأوقات المباركة حِسًّا مرهفًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يقترب شهر رجب حتى يكون دعاؤه "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبَلِّغنا رمضان"، وكان أكثر صيامه بعد الفريضة صيام شهر شعبان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهرٍ قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا من شعبان"، ويُعلِّل ذلك بقوله: ذاك شهرٌ يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان"، ويقول: "إنه شهر تُرْفَعُ فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، وأُحِبُّ أن يُرفَع عملي وأنا صائم".
ولعلَّ من أهم الفوائد التي تعود على المسلم من إتقان العبادة فيه وتكثيفها هو الاستعداد لشهر رمضان المبارك، فمن قَلَّ صيامه وقيامه طيلة العام يُسْتَحَبّ له أن يستعدّ بالتدريب على النَّوافل قبيل رمضان، حتى إذا أتى شهر الفريضة وجده على أُهْبة الاستعداد، في شوقٍ وترقُّبٍ لأداء العبادات، مهما صعب القيام بها لظروف الطقس أو طول النهار "صُمْ يومًا شديد الحرِّ ليوم النشور".
إن أنفاسنا معدودة، وأعمارنا محدودة، والعاقل من يسابق الزمن، ويُعِدّ لكل شيء عُدَّته، حتى يحصد في أيام عمره من الأعمال الصالحة والحسنات السانحة ما يسُرُّه يوم انتهاء عمره وحلول أجله، وانتقاله إلى دار الجزاء والخلود، وما أقربه مِنَّا.. "إنَّ الجنة هي أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك".
إنَّ إعداد العُدَّة للأوقات المباركة والمواسم الطيبة ذكاءٌ وفِطنة، وأعظم منه انتهاز أوقات الغفلات التي تضيع على معظم الناس في تحصيل الطاعات، فهنا السَّبْق وهنا التميُّز، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "العبادة في الهرج كالهجرة إليَّ"، وفي رواية "العبادة في الفتنة كالهجرة إليَّ".
وقد كان السَّلَف الصالح يسمون شهر شعبان (شهر القرآن)؛ لأنهم يحرصون خلال هذا الشهر على مراجعة ما يحفظونه من آيات الذِّكر الحكيم، فيتداركون ما قد يتفلَّت منهم طيلة العام، استعدادًا للشهر العظيم الذي يُتْلَى فيه القرآن كله على الأمة كلها، هذا الكتاب المبارك الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأخرج للعالم (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، فهدى القلوب، وأنار البصائر، ونَظَّم الحياة، وحسَّن الأخلاق، وصنع الحضارات .
في هذا الشَّهر الكريم حدثت حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام، وقد أعطتنا نموذجًا لسرعة الاستجابة والتلبية لأوامر الله تعالى.. دون تردد أو تأخير، ودون نظر لاعتراضات المعترضين، وأراجيف المبطلين، وتهكُّم الساخرين، من أعداء الأمة الظاهرين، أو كارهيها المستخفين، والذين ليس لهم دورٌ ولا فعل إلا النَّقْد والاعتراض، حتى على الشيء ونقيضه.
حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّجِه إلى بيت المقدس في الصلاة بعد هجرته للمدينة قال اليهود: "يخالف ديننا ويتبع قبلتنا"، وحينما تحوَّل– بأمر من الله تعالى إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة-قالوا كما ذكر الله تعالى في كتابه الكريم: (مَا ولاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: 142)، فهم لا يكُفُّون عن السخرية والنقد والتهكُّم؛ لما تحويه قلوبهم من غلٍّ وحسد، وكراهيةٍ وبغض، فما على المؤمنين إلا تنفيذ أوامر الله عز وجل في سرعة وجِدِّيَّة، وعن حُبٍّ وشَوْقٍ؛ لأن في أوامر الله حكمة وفي طاعته خير، وفي سرعة الاستجابة سبقٌ إلى الفلاح، وإن تغيير القبلة بأمر الله سبحانه كما أن تغيير أي قرار بالشورى وإجماع الآراء يختلف جذريًّا عن تلوُّن المواقف بالهوى والمصلحة الشخصية وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فما يزيدنا تربُّص المتربصين، وكيد الكائدين، وحقد الحاسدين، وتشكيك المبطلين إلا تمسُّكًا بالحقِّ الذي هدانا الله إليه، ومسارعة إلى الخيرات، مقتدين بأنبياء الله صلوات الله عليه أجمعين، وبالسَّلف الصالح من عباد الله الطائعين (إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ ويَدْعُونَنَا رَغَبًا ورَهَبًا وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: 90).
إننا نستعدُّ لمواسم الخير بالعبادة والتطهر، والتدريب والعزم، وتقديم الخير للناس جميعًا؛ لنقترب أكثر من الله تعالى خالقنا ورازقنا، ولنقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر؛ لنكون أمةً واحدةً وصنفًا واحدًا في خلال هذه الأشهر الوارفة (وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج:77)، (وإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52).
وهناك من يستعدّ لاتباع الهوى وطاعة الشيطان، يكره وحدتنا ويمقت أخوتنا، يكيد بليلٍ ليدبِّر المؤامرات، ويشعل الفتن.. يُقلِّب الحقائق ويزوِّر التاريخ، لا يستمع لنصح ناصحٍ ولا إرشاد أمين، يُزيِّن القول ليخدع البسطاء من الناس (شياطين الإنس والجن يُوحِي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا)، وفي النهاية يبرأ منهم الشيطان ويقول لهم: (إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ)، (الحشر:16) (ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسَادَ * وإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ المِهَادُ) (البقرة: 204 - 206).
هؤلاء ينبغي أن نَحْذَرَهم؛ حتى لا يفرقوا جمعنا، ويُمزِّقوا صفوفنا، ويُعكِّروا صفونا، ويُفْسِدُوا علينا الأيام المباركة والمواسم الطيبة.
إننا ندعوهم جميعًا إلى الأمن والأمان والسَّعادة والسلام، وإيثار المصلحة العامة على الأنانية المفرطة؛ لأن الخير حينما يَعُمّ سَيُسْعِد الجميع، أما الفتنة فهي تأكل اليابس والأخضر، وتستجلب غضب الله تعالى: (واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ) (الأنفال: 25).
والملائكة تنادي في الطرقات وتهيب بالبشرية كلها أن تسمع، فإن الخير سيعمّ البشرية، كما أن الشرَّ سيحرق الجميع فتقول الملائكة: "يا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِل، ويا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِر".
ولنذكر نِعَمَ الله تعالى علينا جميعًا بالحُرِّية والكرامة والخلاص من الظالمين المفسدين، بأقل قدرٍ من التضحيات والآلام، ولنتطلَّع دائمًا إلى الأمام متوكلين على الله سبحانه، معتصمين بحبله.. إخوةً متحابِّين، متعاونين على الخير، نابذين للفرقة والشر...
ولنأخذ الحذر.. من أعداء خارجيٍّين.. لن يتوقَّفُوا عن نسج الشِّبَاك وحَبْكِ المؤامرات؛ لإجهاض ثورتنا وتكدير ربيعنا، والشيطان لا يُحِبّ أن يرانا سعداء أبدًا(إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ شَيْئًا إلا بِإذْنِ اللَّهِ) (المجادلة10)، (قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (آل عمران: 118)، (إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)(آل عمران: 120).
ولندخل جميعًا في ميدان السِّلْم والتَّعاون على الخير (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)(البقرة: 208)، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (المائدة: 2) طوبى لمن جعله الله تعالى مفتاحًا للخيرِ مِغلاقًا للشرِّ (وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26).
والله أكبر ولله الحمد
القاهرة في: الخميس 4 من شعبان 1434هـ، الموافق 13 من يونيو 2013م