24/04/2010

 

أ. د/ محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. إخوتي وأحبابي في الله.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، حديثي اليوم من القلب حول مهمتنا نحو الآخرين، نعم نحن نحمل همَّ هذه الأمة، ومشاكلها لا بد أن تكون في بؤرة اهتمامنا؛ ولكن كيف نعالج هذه المشاكل، فهذا دورنا؛ لأننا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".

 

أكبر مشكلةٍ يعانيها الناس الآن هي المشكلة الاقتصادية، وكما تعلمون فإن ربعي بن عامر- رضي الله عنه- عندما لخَّص رسالته قال: "إن الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء من عبادةِ العباد إلى عبادة رب العباد"، والجزء الذي يعنيني في حديثه عندما قال: "ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، هذا التعبير الموجز مهم جدًّا؛ لأننا نريد أن نأخذ بأيدي الناس من ضيق الدنيا لنوسع لهم هذه الدنيا الضيقة، فالدنيا ضاقت الآن على الناس، وضيَّقت عليهم أنفسهم بما رحبت؛ بسبب كثير من المشاكل، ولكن العلاج لا بد أن يكون في أيدي الذين يحملون الحق والنور.. الذين يحملون الإسلام كحل جذري لجميع مشاكل البشرية وليس فقط لمشاكل المسلمين، وهنا السؤال.. كيف يتحقق ذلك؟!

 

كيف من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا؟.. نعم، كيف تتسع الدنيا، تتسع بأن تكون نافذة تطل على الآخرة، وكأنك تفتح شباكًا في غرفة ضيقة على مكان فسيح يطل على الآخرة؛ لأنه سوف تتسع الدنيا عندما تنظر من خلالها للآخرة.

 

وإن كانوا سيقولون إن هذا الكلام لا يحل المشاكل.. فتعالوا معنا لحل المشاكل..

 

إن جذر حل المشاكل هو بالعودة للجذر الإيماني في كل القضايا.. مثل الخرسانة، فالخرسانة المسلحة في جميع الأبنية واحدة، تركيبتها واحدة وهي: القيم والأخلاق والأساسيات التي لا بد أن يرتكز عليها أي حل، وإن لم يرتكز المبنى على هذه الأساسيات والقيم سينهار مهما كان ارتفاعه، وفوق هذا الأساس وهذه الخرسانة المسلحة تختلف الأشكال فوق سطح الأرض.

 

وإذا رجعنا إلى الجزء الإيماني العقائدي القيمي حتى عند غير المسلمين؛ فهناك جذر قيمي أخلاقي، اتفق عليه الجميع.

 

فكيف تحل المشاكل الاقتصادية؟ عندما تشعر وأنت تتابع قصة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهو من أهم وأشهر أنبياء بني إسرائيل؛ فإن القصة تقدِّم نموذجًا لرجل في صورة من الضنك والضغوط البشرية التي لم تحدث لبشر، تعالوا ندرسها سويًّا:

هذا رجل مظلوم مضطهد وهارب، وخرج خوفًا من أن يقتله هؤلاء، وهذه قضية أحتاج أن أنبهك بأن هناك مَن يأتمرون بك ليقتلوك، ﴿فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ﴾ (القصص: من الآية 20).

 

﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ (القصص: من الآية 21).. نموذج من الخوف والجوع والفقر والحاجة، وأيضًا سافر من هنا من مصر إلى بلاد الشام وإلى مدين، مسافة مئات الأميال، ليس معه مال ولا دابة ولا مأكل ولا مشرب ولا ملبس، سافر في خوف ورعب وقلق.

 

تعالوا لنرى هذا الإنسان وهو في هذه الظروف السيئة.. ظروف أصعب ما يمكن أن نرى فيها الإنسان.. وجد فتاتين ﴿امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ﴾ (القصص: من الآية 22) أي أنهما في حاجة إلى مساعدة، هاتان الفتاتان عندهما كل شيء وهو ليس عنده شيء، فهما عندهما أسرة وأب وبيت وطعام وشراب، وعندهما دواب، ومعهم حيوانات لها من المنتجات الحيوانية ما يكفيهم من الحاجة الضرورية بل يفيض عليهم، لكن ينقصهم شيء؛ أن يساعدهم رجل، ذو صفتين.. ما هاتان الصفتان؟

 

العزيمة على مساعدة الغير، والرغبة في النجدة والرجولة والشهامة والكرم الداخلي من النفس البشرية لمساعدة الغير، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس، حببهم في الخير، وحبب الخير إليهم"، وأيضًا القوة البدنية التي من الممكن أن تساعد هاتين الفتاتين.

 

كأني أتصور أن سيدنا موسى لا يملك من الدنيا إلا هاتين الصفتين، ولا يملك من الدنيا شيئًا آخر إلا غيرهما، ووجد هاتين الفتاتين تحتاجان لما عنده فقط من الصفات، أما هما فعندهما الكثير، ولكنهما احتاجا إلى ما عنده من الصفتين الضروريتين.

 

هاتان الصفتان لم يبخل بهما سيدنا موسى على من يحتاجهما، وهو بهمته وعزيمته وشهامته ورجولته، وهذه صفاته الداخلية، أما قوته البدنية- وهذه صفاته الخارجية- قوي أمين، قوي ذو همة وذو شهامة, ذهب لمساعدة هاتين الفتاتين ابتغاء مرضاة الله، وانتهى الأمر بأن أدَّى ما عليه، تخيلوا لو كان سيدنا موسى شُغل بنفسه، وقال إني أكثر حاجة منهما، ولا يشغلني أمرهما بأي حال من الأحوال، وليشغلني همي وليشغلني أمري.. أكانت تُحل مشاكله كما أبرزت لنا الحادثة والقصة في القرآن الكريم؟

 

تعالوا لننظر.. لقد حُلت جميع مشاكله بسبب نجدته لمحتاجة، عندما قدَّم ما عنده لمحتاج أكرمه الله عز وجل، ما دام هذا ابتغاء مرضاة الله تُحل لك جميع مشاكلك.. لقد تزوَّج من ذات عفاف وشرف، ومسكن ومطعم ومشرب ومرتب وأمن وأمان.. أرأيتم كيف قد حُلت جميع مشاكله؟ حلت؛ لأنه لم ينكفئ على نفسه ولم ينشغل بهموم نفسه، بل دائمًا يتخطى آلام نفسه ويبحث عن غيره من المحتاجين، حتى لو كان ما يحتاجونه هو فقط ما عنده، وعندهم أكثر مما عنده.

 

أرأيتم سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهو في أمسِّ الحاجة والعوز بل والظلم في داخل السجن؟ تخطى آلامه وبحث عن آلام الآخرين، فكان في هذا الموقف ابتغاء مرضاة الله وعودته إلى بيته وأهله، وعودة إخوانه إليه وعودة أخيه إلى أبيه، ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدًا، والملك ورب العزة أتاه من تأويل الأحاديث.

 

هذه القضايا عندما ننظر إليها من المنظور الإيماني نجد أن من أكرمه الله وتخطى آلام نفسه وحاجات نفسه وبحث عن حاجات الآخرين.. فالله عز وجل في حاجته ما دام هو في حاجة الآخرين، وهذه هي البداية الإيمانية، وعندها سنجد أن الله عز وجل قد أكرم من قدَّم ما عنده ابتغاء مرضاة الله، فحل له رب العزة مشاكله، وبهذا يخرج من ضيق الدنيا ويخرج نفسه من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة..

 

ولنا حديث آخر حول العلاج المادي لهذا الضيق المادي؛ لنستكمل فيه ما فوق الأرض مما ألقيناه الآن من الأساس والخرسانة الإيمانية لنتناول الحل المادي للمشاكل المادية.