20/08/2009

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد؛

فلم يزل الموفَّقون ينتهزون الفرص الثمينة للفوز بخيري الدنيا والآخرة، ولا يتأخرون في استثمار ما هيأ الله لهم من أسباب الخير، ولذلك تجدهم في رمضان الخير يعمرون نهارهم بالصيام وليلهم بالقيام، ويسابقون أوقاتهم وينافسون إخوانهم في الذكر والقرآن والطاعات، مستجيبين لقوله r: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، فِيهِ خَيْرٌ يُغَشِّيكُمُ اللهُ فِيهِ، فَتُنَزَّلُ الرَّحْمَةُ، وَتُحَطُّ الخَطَايَا، وَيُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ، فَيَنْظُرُ اللهُ إِلَى تَنَافُسِكُمْ، وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلَائِكَتَهُ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» (الطبراني).

وإذ يتقدم الإخوان المسلمون بالتهنئة للأمة في مشارق الأرض ومغاربها بمطلع هذا الشهر الكريم، ويدعونهم للاستفادة من (مدرسة الثلاثين يوما) فإنني أشير إلى بعض دروسها المباركة، لعل الله ينفع بها:

1 - رمضان شهر الصوم عن المعاصي:

يدرك أصحابُ العزائم القوية أن الصيامَ تربيةٌ نفسيةٌ ساميةٌ، وتدريبٌ راقٍ على الصبر وكظم الغيظ، وأنه ليس المقصودُ من تشريع الصيام نفسَ الجوع والعطش، بل ما يتبعه من قوةِ الإرادة والسموّ الأخلاقي والروحي، وكسرِ الشهوات، وتطويعِ النفسِ الأمَّارةِ بالسوءِ للنفسِ المطمئنَّة، بمعنى أنه وقايةٌ وحِصنٌ من الوقوع في المعاصي، وواقٍ لصاحبه مما يؤذيه من الشهوات ومن ممارسة شيءٍ من الأقوال أو الأفعال غيرِ اللائقة، وإن اعتدى غيرُه عليه بقوله أو بفعله، على حد قوله r: «الصِّيَامُ جُنَّـةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفـُثْ، وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِم» (متفق عليه)، وقوله r: «أَعِـفُّوا الصِّيَامَ، فَإِنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ مِنَ الطَّعَامِ وَلَا مِنَ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّ الصِّيامَ مِنَ المَعَاصِي، فَإِذَا صَامَ أَحَدُكُمْ فَجَهِلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَـاِئٌم» (الطيالسي)، وقوله  r: «مَنْ صَـامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدُودَهُ، وَتَحَفَّـظَ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّـظَ كَفَّـرَ مَا قَبْلَـُه» (صححه ابن حبان).

فإذا لم يحصل ذلك فإن الله لا ينظر لهذا الصيام نظرَ القبول، على حد قوله r: «رُبَّ - أو كَمْ مِنْ - صَائِمٍ حَظََُّـهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعُ والْعَطَشُ، ورُبَّ - أو كَمْ مِنْ -  قَائِمٍ حَظُّـهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» (أحمد وصححه ابن خزيمة)، وقوله r: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (البخاري) وبذلك ينصحنا جابر بن عبد الله t فيقول: «إذا صمتَ فلْيَصُمْ سَمْعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والـمَحارم، ودَعْ أذى الخاصة، ولْيَكُنْ عليك وقارٌ وسكينةٌ يومَ صيامك، ولا تجعلْ يومَ فطرِك وصومِك سواء».

فتخيَّل معي كيف يكون حالُ الدنيا لو أن هذا الصومَ الذي أراده الله تحقق في حياة الناس أجمعين، أو حتى في حياة المسلمين، فطهَّر النفوس من رذائلها وفسادها، وتعهدها بمكارم الأخلاق في رحلةٍ تدريبيةٍ سنويةٍ مُدّتُها ثلاثون يوما، تمد القلب بزاد الصبر والثبات والعزم وقوة الإرادة، وتحقق فيه معنى التقوى التي جعلها الله غاية لهذه الفريضة المباركة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:183).

فهل يلتفت لهذه المعاني أصحابُ القلوب المؤمنة الحية فينسجوا على منوال أسلافهم من الصالحين، ويملؤوا الدنيا نوراً وسلاماً وبركة، ويُشيعوا فيها أخلاقَ الطُّهْرِ والصفاءِ، وقِيَم الحق والعدل والإخاء، حتى يتحقق لهم النصر والعزة والتمكين؟!.

وهل يلتفت لتلك المعاني أولئك الذين جعلوا همَّهم نصرةَ الباطل، وقولَ الزور، ورميَ البرآء بالعيوب، واضطهادَ المصلحين، فيراجعوا أنفسَهم ومواقفَهم، ويصحِّحوا خطأَهم ومنطلقاتِهم، ويمدُّوا أيديَهم للتعاون مع المخلصين؛ ليتحقق للأمة ما يليق بها من مكانةٍ لائقةٍ في عالم الناس.

2- رمضان شهر الوحدة والتعاون:

الوحدة هي شعار هذه الأمة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (الأنبياء:92)، وشريعة الإسلام الغراء تحرص على تحقيق هذه الوحدة بكل سبيل، والناظرُ إلى العبادات التي فرضها الله على عباده يدرك بيقينٍ أنه يجعل وحدة العبادة وإخلاص العبودية لله أهمَّ سبيل لتحقيق وحدة الأمة، وللصيام من ذلك نصيب كبير، فالجميعُ يبدأ صومَه مع صيحة المؤذِّن للفجر ويتناول إفطارَه مع صيحته للمغرب، والجميعُ يتحرك لإحياء الليل بالقيام، فضلاً عما يقتضيه الصومُ من توحيد المشاعر والأفكار، يقول الرافعي رحمه الله: «هذا الصومُ فقرٌ إجباريٌّ، تفرضه الشريعةُ على الناس فرضاً، ليتساوى الجميعُ في بواطنهم، سواءٌ منهم مَنْ ملك المليون من الدنانير، ومَنْ ملك القرش الواحد، ومَنْ لم يملك شيئاً.. فقرٌ إجباريٌّ يُرَادُ به إشعارُ النفس الإنسانية بطريقةٍ عمليةٍ واضحةٍ كل الوضوح: أن الحياة الصحيحة وراء الحياة، لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمِّها حين يتساوى الناسُ في الشعور، لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد، لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.. وبهذا يضع الإنسانيةَ كلَّها في حالةٍ نفسيةٍ واحدةٍ، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوتَ الروح، يُعَلِّم الرحمةَ ويدعو إليها، فيُشْبِع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة هي كلُّ ما في الاشتراكية من الحق».

وكم هي ماسّةٌ حاجةُ أمتِنا لهذه المعاني الجليلة في هذه الأيام التي تطاول فيها الأعداءُ، وكثُر فيها السفهاءُ، ولم تسلم فيها الأيدي الآثمةُ- وإن كانت مسلمةً أحياناً- من الدماء المسلمة في مواطن كثيرةٍ وعزيزةٍ من جسد الأمة، في فلسطين قلب العروبة والإسلام، وفي يمن الإيمان والحكمة، وفي عراق التاريخ والحضارة، وفي سودان الخير، وفي القرن الإفريقي في الصومال، وفي أفغانستان، وباكستان، وتركستان الشرقية، وغيرها على امتداد رقعة أمتنا الإسلامية المحروبة.

ولهذا فإن الإخوان المسلمين يحدوهم الأمل أن يكون رمضانُ هذا العام عنواناً لانطلاق تعاونٍ إسلاميٍّ وعربي لتوحيد الموقف إزاء كل القضايا التي تشغلنا، ولحقْن تلك الدماء التي تسيل وتضميد تلك الجروح التي تنزف، ورأْب تلك الصدوع التي فرقت بين أبناء الوطن الواحد، وباعدت بين أبناء القطر الواحد والأمة الواحدة، ويتوجه الإخوانُ بالنداء إلى كل حرٍّ أصيلٍ من صُنَّاع القرار على امتداد عالمنا الإسلامي أن يُسهِم بما استطاع في الإصلاح بين الأشقاء المتخاصمين، والتقريب بين الفرقاء المتباعدين، والعمل على تشكيل موقف عربي وإسلامي موحد يعيد للأمة هيبتها وعزتها ومكانتها في العالمين.

3 – رمضان شهر الأمل ومواجهة اليأس:

في هذا الشهر المبارك حصلت الانتصارات الكبرى في تاريخ الأمة، بدءاً من يوم الفرقان وفتح مكة حتى نصر العاشر من رمضان على الصهاينة، وتحررت الإرادةُ المسلمة من عُقَد الخوف واليأس والقنوط، وأدركت أن الصبر مفتاح الفرج، وأن مع العسر يُسْريْن. أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ جَلالُهُ عَلَى نَبِيِّهِ r بِمَكَّةَ: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر:45)، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ t: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ جَمْعٍ؟ ذَلِكَ قَبْلَ بَدْرٍ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَانْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ، نَظَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فِي آثَارِهِمْ مُصْلِتًا بِالسَّيْفِ، يَقُولُ: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾، وَكَانَتْ لِيَوْمِ بَدْرٍ... الحديث (الطبراني).

لم يكن أكثرُ القرشيين تشاؤماً يتصور أن جمعَهم سيولي الأدبار، وأن مكةَ المكرَّمةَ ستُفْتَح على المهاجرين والأنصار، وأن كلمةَ الله ستعلو بعد أن كان محمد r يختبئ في غار، ولكنَّ المؤمنين الصادقين كانوا ينتظرون تحقيقَ موعودِ الله لهم بالنصر، ويوقنون بتحقُّقِه على كل حال، بعد أن قال لهم نبيهم r: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ والنهار، حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَ الْمَدَرِ، وَبَيْتَ الْوَبَرِ، حَتَّى يُعِزَّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَيُذِلَّ الْكُفَّارَ» (الطبراني). كما لم يكن أكثرُ الصليبيين تشاؤماً يتوقَّع أن يخرج من بلاد الشام – فضلاً عن بيت المقدس- بعد أن عَلَوْا فيها عقوداً من الزمان، لكنَّ صلاحَ الدين ومَنْ وراءه من جند الإيمان كانوا مُفْعَمِين بالأمل القوي في تطهير بيت المقدس وعموم بلاد الشام من كل أثر لأولئك المعتدين، وقد تحقق ذلك كله في رمضان.

ولا يزال رمضانُ والصيامُ يعمل عمله في هذه الأمة التي استعصت على الذوبان، ولا تزال (مدرسة الثلاثين يوما) تُخَرِّج الأحرارَ الذين لا يبالون بما يَلْقَوْن في سبيل نشر دينهم وعزَّة أوطانهم، ويَكُفُّون عن الشرِّ أيديَهم وألسنتَهم، على الرغم مما يجدون من ظلم ذوي قرباهم وأبناء جلدتهم من الحكام المستبدين وبعض الكتاب غير المنصفين

وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً         على النفس من وَقْعِ الحُسام المهنَّد

ولا تزال ذاتُ المدرسة تُخَرِّج الأبطالَ الذين يقارعون العدو ويَقْرَعونه، من كتائب القسام وسرايا القدس وكتائب الأقصى وغيرهم من المجاهدين الذين لم ينقطع أملُهم وأملُ الأمة معهم يوماً في نصر الله والفتح، وإنهم لعلى موعدٍ جديدٍ مع دورةٍ تدريبيةٍ جديدةٍ في مدرسة الصيام، تزداد بها روحُهم إشراقاً وأَلَقًا، وإرادتُهم تصميماً وعزماً، ونفوسُهم ثقةً وأملاً في النصر العزيز ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾  (الإسراء:51).

ولا تزال مدرسة الثلاثين يوما تمد أهلها والملتحقين بها بالدروس النافعة، ولنا عودة إلى بعضها إن شاء الله.

كلمة إلى أهل غزة الصامدين:

أهنئكم وأهنئ كل شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج بالشهر الكريم، وأسأل الله أن يجعل لكم ولكل المظلومين فيه فرجاً ومخرجاً، وأن يجتمع شملُكم جميعاً في الدولة الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

وكم ساءنا وساءَ كلَّ حرٍّ غيورٍ ما جرى من أحداثٍ مؤسفةٍ في رفح، وتمنينا لو أنَّ السلاح الذي رُفع في هذه الفتنة كان موجَّهًا إلى نحور الصهاينة، ولو أن الدماءَ المسلمة التي سالت كانت قرباناً للنصر على الاحتلال وعُربونا مقبولاً لإعلان الدولة الحرة على كامل التراب الفلسطيني، ولكن أبى شياطينُ الإنس والجن إلا أن تُطِل الفتنةُ بقرنها، وأن توقَظ من نومها، وأبى اللهُ والمؤمنونَ إلا قطعَ دابرها ووأْدَها في مهدها.

وإني أتوجه إلى أبناء شعبنا المجاهد الصامد ألَّا يقبلوا بأن تختلطَ الأوراقُ وتلتبس الحقائقُ عليهم، وأن يحرِّروا ولاءَهم فلا يكون إلا لله ورسوله، وأن يحرِّروا أهدافَهم فلا تكون إلا في خدمة قضية التحرير لوطنهم، وأن يحدِّدوا عدوَّهم فلا يتجاوزوا الصهاينة ومَنْ ظاهرهم وحارب معهم، وأن يتبصَّروا ميدانَ الجهاد الحقيقي فلا يكون غيرَ الأرض التي اغتصبها عدوُّهم، وأن يحتكم الجميعُ إلى منطق الشرع والعقل والحوار، حتى لا يشمتَ بهم أعداؤُهم، ولا يُسَاءَ بهم مُحِبُّوهم وأصدقاؤُهم.

وكل عام وأمتنا الإسلامية بألف خير، والله أكبر ولله الحمد

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 القاهرة فى : 29 من شعبان 1430هـ الموافق 20 من أغسطس 2009م