د/ عادل هندى- منارات:


أولا: قيمة الأسرة ومكانتها في حياة المسلمين:
يقول علماء اللغة: أسرة الرجل: رهطه وعشيرته؛ لأنه يتقوّى بهم، والأسرة – كما في معاجم اللغة-: الدرع الحصين، وأهل الرجل وعشيرته والجماعة يربطها أمر مشترك، وليس في كتب اللغة أكثر من ذلك، ولكننا من هذا المنطلق نقول في مقدمة أهل الرجل: زوجه وأبناؤه. فالأسرة إذًا هي: عائلة الرجل وبيته وأهله الأقربون، ولها أركان: «زوج وزوجة وأبناء»، وإذا صلُح الأصل، كان الفرع أقْرب إلى الصلاح إذا شاء الله تعالى. وينشأ ناشئ الفتيان على ما كان عوّده أبوه!!
والأسرة في الشريعة الإسلامية هي: تلك الخليّة التي تضم الآباء والأُمهات، والأجداد والجدّات، والبنات والأبناء، وأبناء الأبناء. فإذا كان الفرد هو اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فإن الأُسرة هي الخليّة الحيّة في كيانه.
والأُسْرة هي اللبنة الأولى والبذرة المتألّقة في صناعة وإنتاج المجتمع (صالحًا كان أو فاسدًا)، وهي منبت الرّجال وكذا أنصاف الرّجال، لكن تبقى الأسرة الصالحة هي منبت الرجال المغاوير، وهي أول درجة من درجات بناء المجتمع الصالح.
وإذا كان البيت والشارع والمدرسة والمجتمع هي ركائز التربية الأساسية فإنّ الأسرة هي المؤثر الأول وهي أقوى تلك الركائز التي ينبغي أن تقوم على جوانب اجتماعية وخلقية وروحية؛ لأهميتها في حياة المسلم الذي يتلقى أول دروس الحياة منها.. ويلعب الآباء فيها دوراً كبيراً في تنشئة الجيل المسلم الذي يحمل نور الهداية إلى العالم أجمع.
تبقى الأسرة في حياة المسلمين هي الجدار العازِل، الذي يمنع الأعداء من دخول بلادنا حقًّا، وهي المؤسسة الوحيدة -إلى اللحظة- التي لا زالت صامدة أمام الهجمات الفكرية والأخلاقية..
ولنا أن ننظر بإمعان وتمعّنٍ في حياة وأُسَرِ الغرب الآن: وقد تشتت أبناؤها، ولا يُعرَف لهم غاية، ولا تجد تواصلا اجتماعيا حقيقيا بين أبنائها، كل منهم في واد يهيم فيه، بل وتحقق بعض الدول الغربية أعلى نسبة في الأولاد الذين لا يعرف لها نسبًا.. بينما الأسرة في الإسلام –رغم ما يُدَبّر لها- ما زالت صامدة عفيّة أمام كل التدبيرات والمؤامرات ضدّها. والمحافظة على الأسرة عبادة لله تعالى… فالأسرة المسلمة هي آخر الحصون أو آخر القلاع الباقية لنا أمام أعداء الله ورسوله.
واعلموا أيها المسلمون أنّ الأسرة الناجحة الرشيدة تضمن جنتان (جنـة الدنيا وجنـة الآخرة) فأمّا جنّة الدنيا فقد عبّر الله عنها بقوله: {من عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] فالحياة السعيدة جنَّةٌ من الله يمنّ بها على عبده في الحياة قبل الممات.. ويقول سبحانه أيضًا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]. فصحة العقل وصحة النفس جنتان في الدنيا لا يتحققان للعبد إلا بطاعة الله والسير على منهاجِه.
وأَمّا جنّة الآخرة: فيقول عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور: 21 – 24]. ويقول عزّ شأنه أيضًا متنعمًا على أهل الصلاح والفلاح من أسر الدنيا يوم القيامة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 70 – 72]. وصدق الله إذ يقول: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
ثانيًا: عناية الإسلام بالأُسْــرة:
لقد أوْلى الإسلام الأسرة رعايةً بالغة، وعنايةً فائقة، وشغلت الأُسرة حيّزاً كبيراً من أحكام القرآن والسنّة. وتبدأ رحلة العناية بالأسرة المسلمة قبل تأسيسها وإقامتها، ومع وجودها، بل حتى بعد انتهاء العلاقة بين الزوجين –لا قدّر الله- بالطلاق، وما ذاك إلا لعلو شأن الأسرة في الإسلام، وارتفاع قيمتها، ومن بين صور عناية الإسلام بالأسرة الآتي:
1. جعل الزوجية سنة كونية في الخلق، تمهيدًا لطلب ذلك من البشر على وجه الأرض، قال سبحانه: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] وقال عزّ شأنه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، وقال بصفة العموم: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]، وقال جل كماله: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 12].
2. الدعوة إلى تكوين الأسر وإقامة النكاح والزواج، حيث جعله الوسيلة الشرعية الوحيدة لإقامة حياة أسرية سليمة وصحيحة، ودعا إلى تيسير وسائله؛ فقال سبحانه ممتنًّا على عباده: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. فتكوين الأسرة دين، والحفاظ عليها إيمان، ومكافحة ما يهدد كيانها جهاد، ورعاية ثمراتها من أبناء وبنات جزء من شريعة الإسلام..
3. الدعوة إلى حُسْن اختيار الزوج والزوجة؛ فليست الحياة الأسرية عبارة عن قضاء شهوة جنسية؛ بل هي علاقة تقوم على أسس تعبدية وقيميّة وخلقية، كما أنها وسيلة التغيير في الأخلاق والقيم، من خلال منظومة التربية الصالحة، ففي القرآن يقول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].. فالدّعوة إلى النكاح جزء، والأهم هو الاختيار الحسنْ. وفي الحديث عند الترمذي وهو حديث حسن: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ». وكما في الحديث المتفق عليه -عند البخاري ومسلم- من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ“. فإذا كان الإسلام قد أمر بحُسْن اختيار الصاحب والصديق في طريق أو عمل أو جيرة، فمن باب أولى حُسْن اختيار رفيق الحياة وشريكها في الحياة الزّوْجِيّة؛ ففترتها أطْوَل، وضريبتها أعْلَى..
4. إعلان الدَّور الصحيح للأسرة في الحياة ووضع الخطوط العريضة لنجاحها: وبيان مهمة الأسرة في التربية على الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدَة للأبناء والبنات، فأرشد إلى مسئولية ولي الأَمْـر في حماية ونصيحة من يتولّى أمرهُم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وفي الحديث كما عند البخاري في صحيحه: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قَالَ: -وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ- «وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». كما جعل الإمامَـة في الخير أُمْنِيةُ الصالحين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
5. بيان الهدف السامي لبناء الأسرة واستمرارها: كهدف تحقيق الغاية الرئيسة وهي العبودية، وتوثيق الصلات الاجتماعية بين الناس في المجتمعات، فما كانت الحياة الزوجية والأسرية عبارة عن قضاء شهوة فحسب؛ يقول العقاد في (الفلسفة القرآنية): ليست العلاقة بين الرجل والمرأة صفقة تجارية بين شريكين في المعيشة، ولا ضرورة لإسكات صيحات الجسد والاستراحة من غوايته الشيطانية، ولا تسويغ الشهوة بمسوغ الشريعة، ولا هي علاقة عدمها خير من وجودها إذا تأتَّى للرجل أو للمرأة أن يستغني عنها…. ولكنها قبل هذا وبعده علاقة إنسانية جديرة بالاحترام والتقديس، فهي علاقة بين الزوج والزوجة، وبين الزوجين والأبناء، وبين هؤلاء جميعًا والأبوين، إلا أنها مع هذه العلاقات المتعدَّدة التي تُشكّل حجر الأساس في البناء الاجتماعي، وتشمل الزوجين والأبناء والآباء تبدأ في حقيقتها باجتماع رجل وامرأة في حياة واحدة ذات هدف مشترك، هو إثراء الحياة بمزيد من الحبّ والنسل الصالح.
ثالثًا: تقاليد وعادات تهدّد كيان الأسرة في المجتمع:
ولقد ابتليت الأسرة أيها الأحباب ببلاءات متعددة، ساهمت في إبطال دورها المنوط بها؛ حيث بناء الأبناء وحُسْن تربيتهم، وكان من بين هذه الابتلاءات: عادات وتقاليد اعتادت عليها أُسَر كثيرة بحجّة أنّ: هكذا الناس يعيشون، ونسيَ أرباب هذه الأُسَرِ أو تناسَوْا أنّ الله سائلهم عمّا ملّكهم من مسئوليات ضخمة تجاه أسرهم وأهليهم، ومن بين هذه العادات والتقاليد التي تهدّد كيان الأسرة، ما يأتي:
1. الشغل المتواصل للزوجين وغياب الأب عن التربية والتوجيه: فلقد كثر البحث عن لقمة العيش -ولا عيب في ذلك إذا لم تلهي عن أولويات أخرى- حتى اعتقد البعض من الآباء أنهم يسمّنون بهائم في البيوت، ونسوْا أن هناك تسمينًا تربويا مطلوبًا. فلا يكون شغل الآباء معوقًا للمسئولية التربية والأخلاقية.
2. روح اللامبالاة وعدم الاهتمام بالتربية الخلقية للأبناء، مع الحرص على التقليد للعادات المرذولة والإصرار عليها؛ وما ذاك إلا لسبب الأمية الدينية والتعبدية.
3. الفهم الخاطئ للقَوامة في الأسرة: فكما عند ابن ماجة: «خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ» [حديث صحيح] .. فليست القوامة قسوة، وليست مقاما يضاف إلى الرجل للتكبر أو التعالي على المرأة، فلربّما كان من النساء من هنّ أفضل من الرجال!!
4. غياب العاطفة والحب أحيانًا كثيرة: وقد قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن العشرة بالمعروف: الكلمة الطيبة من حب وعشق وهيام وغزل ودلال، كما كان يفعل سيدنا رسول الله، الذي لم تمنعه مشاغله من التصريح لزوجه بأنه يحبه، فأظهر وفاءه لأمنا خديجة حتى بعد وفاتها بقوله كما عند مسلم من حديث عائشة: «إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا» وهو الذي صرّح بحبه لأم المؤمنين عائشة يوم سُئِلَ: من أحبّ الناس إليك؟، فعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: “عَائِشَةُ”. قَالَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: “أَبُوهَا” [رواه الترمذي في السنن وهو حديث صحيح]
5. عدم التوازن بين الحنان والقسوة في التربية للأبناء؛ فلعلنا نجد أسرًا تربي أبناءها بالحنان والتدليل الزائد، حتى رأينا شبابًا وبنات قد انحرفوا لعدم وجود مراقبة ولزيادة الحنان غير المنضبط، وأسرًا أخرى تربي أبناءها على القهر والعنف، فتخرج أجيال مشوهة تعادي البشر والمجتمع وتنحرف انحرافات سلوكية عنيفة، فلا أقل من التوازن في هذا الشأن.
6. اعتبار الطلاق سيفًا أو سلاحًا في وجه المرأة، يستخدمُه الرجل متى شاء.
7. التناقض في أقوال الوالِدَيْن وسلوكياتهم. (الخلل التربوي) (القدوة المختلّة)؛ فالآباء والأمهات الذين ينسوْن أنّ الأبناء يقلّدون بما يرونه بأعينهم أكثر مما يسمعونه بآذانهم، قد عرّضوا أبناءهم للعراك الداخلي: أيصدّق ما يقال له، أم يراه بعينه، فلا بد من أن يكون الآباء والأمهات أصحاب أخلاق فاضلة سليمة، وأن يكونوا قدوة أمام أبنائهم وبناتهم.
8. الفراغ وعدم الإفادة من الوقت في الحياة الأسرية.
9. العنف الأسريّ: وله صور متعددة، منها: (العنف اللفظي) (العنف الماديّ المحسوس) (الثقافة الذكوريّة والعمل على التفريق بين الأبناء والبنات؛ لثقافات واعتقادات غير صحيحة).
10 غياب ثقافة التعاون الأسري عن كثير من البيوت. وقد ثبت عند البخاري في الصحيح لما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة عن رسول الله، ففي الحديث عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَصْنَعُ فِي البَيْتِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ خَرَجَ».
10. غياب الشورى الأُسَرِية: قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال أيضًا: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233]. وهذا رسول الله محمد سيد الناس لم يتأفف أن يستشير زوجه ويأخذ برأيها، حتى كان رأيها سببا في حماية المسلمين من خطورة مخالفة أمر النبي يوم الحديبية.
رابعًا: صفات الأُسْرة التي ينشدُها الإسلام:
أولا: أسرة ربانية: هي أسرة ربانية, أسرة تعرف لماذا هي في هذه الدنيا؟ وما هي الغاية التي من وراء هذه الدنيا؟ وما هي رسالتها في هذه الحياة؟ أسرة تعمل على تربية أبنائها وتنشئتهم على العقيدة الصحيحة والعبادة السليمة، وهذا يعقوب عليه السلام يعلمنا درسًا –ما أروعه- وهو على فراش موته، ها هو كما حكى عنه القرآن: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]. وهذا أبٌ حنونٌ ينصح ابنه فيقول: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
والربانية في حياة الأسرة ليس شعارًا؛ بل هو طريقة حياةٍ وسلوك، وربانية الأسرة وقربها من ربها تضمن صلاح حال الأبناء وحفظهم؛ كما قال القرآن الكريم: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء: 9]. ولنذكر ربانية الأسرة المحمدية، التي قام فيها رسول الله ليلة يصلي لربه، ويقول لزوجه عائشة: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» [حديث متفق عليه].
ثانيًا: أسرة تفهم الإسلام فهمًا حقيقيًّا تعيش به وتعيش له: تفهم أنّ كل حركة في هذه الحياة إنّما هي عبادة لله ربّ العالمين، وتربّي أبناءها على التعبّد الدائم والإعانة على الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]. نريد أُسْرةً مِن ورَاء هَذا الفهم الصحيح للإسلام تنتج إنسانًا ينبض وجدانه وقلبه وكيانه إيمانًا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا، ويتحرّك أو يسكن وفق منهج الاستسلام لله والرضا به.
ولا شكّ أن أسرة نبي الله إبراهيم قد فاقت كل الأسر، وتبعتها أسرة أبي بكر الصديق، التي فهمت الإسلام وقامت تعمل له وتضحي من أجله براحتها ومالها ونفسها. وأسرة بني أيوب المجاهدة، التي حملت همّ الإسلام والمسلمين، وقامت ناهضة تسعى لتحرير بيت المقدس، حتى حرره الله على يد المالك الناصر صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب -رحم الله الجميع-.. نريد أسرا في مجتمعنا تفهم الإسلام وتدرك أنها مسئولة عنه أمام الله يوم القيامة: ماذا قدّمت لدين الله؟!!.
ثالثًا: أسرة معينةٌ على الطاعة والعبادة: فمما لا شكّ فيه أنّ أهمّ ما يميز الأسرة المسلمة الصالحة عن غيرها أن تكون أسرة متعاونة على طاعة الخالق وتنفيذ أوامره، وهذا مثال يحكيه لنا رسول الله -كما عند ابن ماجة وأبي داوود في الحديث الصحيح-: “مَن استيقظَ مِن الليل، وأيقظ امرأته، فصليا ركعتين جميعاً، كتِبَا مِن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات”. رحم الله تلك الأسرة التي تتعاون على الطاعة والعبادة، يعين الرجل امرأته وتعين المرأة زوجها على طاعة الله تعالى، وتخوفه ويخوفها من الحرام في المال أو المعاملة.
أسرة معينة على الطاعة تأخذ بيد أبنائها إلى طاعة المولى جلّ في عُلاه، تنفيذًا لأمر الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. وفي الحديث الصحيح عند أحمد في مسنده، يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: “مروا صبْيانكم بالصلاة إذا بلغوا سَبعا، واضْربوهم عليها إذا بلغوا عَشرا، وفرقوا بينهمَ في المضاجع”.
رابعًا: أسرة مُسَارِعَةٌ إلى كلّ خير: ألا ما أجمل أن تعيش الأسرة المسلمة بروح العطاء والبذل والسعي في الخير؛ وتلك بركة من الله على عبد من عباده، فهذا عيسى عليه السلام يتحدث عن نفسه –حين كان مولودًا أمام قومه- {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 30، 31]. وقد أجمع المفسرون أنّ المعنى: «جعلني بركة أينما حللت أو ارتحلت» وهكذا المؤمنون كالغيث أينما وقع نفع!!
وها هي أسرة نبي الله زكريا -عليه السلام- يتحدّث عنها القرآن مادحًا إياها؛ فيقول الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89، 90]. إنها الأسرة التي تتشارك وتتعاون من أجل إسعاد الآخرين وتعمل على بثّ الخير في ربوع المجتمع. ويبقى في ميزانها ما قدّمت وبذلت للمجتمع والبشرية، فبدلاً من أن يكون في ميزانها السوء والفواحش، يكون في ميزانها الخير من القول والعمل والعطاء.
خامسًا: أسرة تحفظ الفطرة ونقاءها: فالذي يريده الإسلام من الأسرة أن تعمل على حفظ نقاء الفطرة الإنسانية التي خلق الله علي البشر؛ فعند البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآيَةَ… فلا بد من الحفاظ على هذه الفطرة وعدم تدنيسها؛ حماية للأبناء أولا من الانحراف عن هذه الفطرة، وحماية للمجتمعات؛ فالمجتمعات الشاذّة في أخلاقها وقيمها إنما جاء شذوذها من شذوذ المربي الأول للولد أو البنت، شذ عن الفطرة السوية في ألفاظه، ملبسه، كلماته، حركاته، علاقاته، معاملاته وسلوكياته.
سادسًا: أسرة مشجعة محفّزة ترْعى الموهوب وتعمل على إطلاق مواهبه وتنميتها: ولنرى رسول الله يوم أن دخل على بيته -وهو عند أم المؤمنين حفصة- أخو حفصة (عبدالله بن عمر) وإذا برسول الله يقول له: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ» كما روى البخاري وذكر عن سالم: «فكان بعد لا يترك قيام الليل ولا ينام منه إلا قليلاً». نريد أُسَرَنَا أُسَرًا مشجّعة للأبناء والبنات للوصول إلى طموحاتهم المشروعة الناجحة، نحفّز هممهم ونشجعهم للوصول إلى ما يطمحون، أذكر أن هندًا بنت عتبة وقفت يومًا أمام أحد أسياد قريش وهي تلاعِب ولدهَا معاوية -وكان صبيًّا صغيرًا-، فقال لها هذا الرجل: (إني لأرجو لولدك هذا أن يسود قريشًا) فردّت قائلةً وهي غاضبة –وقد نظرت لولدها-: ((ثكلته أُمّه إن لم يسد الدنيا كلها)). هكذا تكون التربية والتشجيع للأبناء والبنات، وصدق الله إذ يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} [الأنعام: 151] وليس القتل للبدن فقط، فهناك قتل للطموح والأماني العالية المشروعة.. فاحرصوا على إيقاظ طموحات الأبناء وتوجيهها توجيهًا حسنا لخدمة دينهم ودنياهم..
سابعًا: أسرة مربية على الأخلاق والقيم: تعمل على تربية البدن والروح معًا، وكذا العقل والعاطفة معًا. فأين أسر المسلمين من تربية الأبناء على الأدب والبنات على الحياء والعفّـة. إن تربية الأبناء على الأخلاق الطيبة والقيم الفاضلة لهو أساس من أسس البناء لا الهدم، والتعمير لا التخريب. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم: كما يحكي لنا الإمام أحمد في مسنده، والحديث حسن لغيره، وفيه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لِأَلْعَبَ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا عَبْدَ اللهِ تَعَالَ أُعْطِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ؟” قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ” هكذا تكون التربية!! وبمثل هذه التربية ينشأ أبناؤنا على القيم والأخلاق، يتعلّم الصدق والأمانة، ولا يغدر ولا يخون!!..
نسأل الله تعالى أن يحفظ بيوتنا وأن يسترنا ويحفظ أعراضَنَا ويوفقنا دائما لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وآخرتنا.