اسم غائب حاضر بيننا، ناضل كثيرًا من أجل الوطن، وكافح طويلاً لنشر المبادئ الإسلامية إنه اسم جدير بأن يكون محلَّ دراسة الدراسين ومعرفة المثقفين.

إنه صالح عشماوي.. شخصية حفرت لها مكانةً بمداد من نور في ذاكرة التاريخ، ولم يكن واحدًا وُلد ثم مات فحسب، بل امتلك شخصيةً أثَّرت في محيط المجتمع والبيئة التي وُجد بها، فمنذ أن وُلد صالح عشماوي في بيئة تجاهد وتكافح الاستعمار الجاثم على صدر الأمة، وقد اشتعلت لديه صفاتُ العزة التي تأبَى وجود مستعمرٍ فوق تراب وطنه، وتفتَّحت لديه مشاعر وأحاسيس الأديب الذي ينشد الحرية لوطنه السليب.

لقد كافح صالح عشماوي بقلمه وعقله، وقاد المظاهرات وربَّى مع إخوانه جيلاً جاهد المستعمر الإنجليزي الغاصب، فأرَّق مضاجعه وأراق دمه، وأفزعه في حلمه؛ حتى خرج هذا المستعمر وهو يجرُّ أذيال الخيبة والحسرة.

نشأته

وُلد الأستاذ صالح عشماوي بالقاهرة في 22 من ذي الحجة 1328هـ الموافق 4 ديسمبر 1910م، وحفظ القرآن الكريم كاملاً وهو في سنٍّ مبكرة، وتدرَّج في دراسته بتفوق حتى تخرج في كلية التجارة العليا سنة 1351هـ= 1932م بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليًّا) وكان أول دفعته، ووُظِّف في بنك مصر لمدة سنة واحدة ثم تركه، واشتغل بالأعمال الحرة، وسافر إلى السودان عام 1353هـ= 1934م، وعمل على توثيق العلائق بين الشمال والجنوب، وكان من أثر دعوته إنشاء البعثة الاقتصادية سنة 1354هـ= 1935م، والتي عملت على زيادة وتنسيق التبادل التجاري بين مصر والسودان، ثم عاد إلى مصر سنة 1355هـ= 1936م، قطن في 22 ش صبري بالظاهر.

بين الصفوف المؤمنة

عاد صالح عشماوي من السودان عام 1936م، والتحق بالأحزاب الموجودة على الساحة، وتنقَّل بينها غير أنه لم يستقر به المقام في أحدها؛ لعدم اقتناعه ببرامجها ولعدم جديتها في العمل.

في تلك الفترة كانت دعوة الإخوان المسلمين قد انتقلت من الإسماعيلية في أكتوبر 1932م واستقر بها المقام في القاهرة، وبرزت على الساحة؛ فتعرف على الإمام البنا وأعجب بالإخوان، وفي 1937م انضم إلى الإخوان، وكانت صفاته ومؤهلاته تؤهِّله ليتبوَّأ مكانًا في القيادة، وبرزت موهبته في الكتابة فتوسَّم فيه الإمام البنا خيرًا، وأسند إليه رئاسة تحرير مجلة "النذير" التي صدرت عام 1938م، غير أنه تركها عندما آلت إلى جمعية "شباب محمد" عام 1940م، ثم تولَّى رياسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمين" النصف شهرية، ثم الجريدة اليومية وغيرها من صحف الإخوان، وقام صالح عشماوي بمهمته خيرَ قيام، فنهض بهذه الصحف.

وفي هذا يقول على لسانه: "أذكر يوم تخرجت في كلية التجارة العليا شابًّا واسع الآمال بعيد الغايات، وقد كنت أول دفعتي، وما كانت الدنيا عندي إلا لهوًّا ومتاعًا وتفاخرًا وزينةً..".
اختير عضوًا في مكتب الإرشاد أواخر عام 1939 بعد المؤتمر الخامس وظل في مكتب الإرشاد حتى عام 1953م.

في النظام الخاص

 بجانب مهامه في الصحافة أسند إليه الإمام البنا الإشراف على النظام الخاص الذي أنشأه عام 1940م؛ بهدف:

1- محاربة المحتل الإنجليزي داخل القطر المصري.

2- التصدي للمخطط الصهيوني اليهودي للاحتلال فلسطين.

حيث دعا الإمام البنا خمسةً من الإخوان، وهم: صالح عشماوي، وحسين كمال الدين، وحامد شريت، وعبد العزيز أحمد، ومحمود عبد الحليم، وعهِد إليهم بإنشاء النظام الخاص وتدريبه، ورتَّب القيادة؛ بحيث يكون صالح عشماوي الأول، ويليه كمال الدين حسين، وقد وضعوا برنامجًا للدراسة داخل النظام، مثل:

1- دراسة عميقة ومستفيضة للجهاد في الإسلام، من خلال القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي.

2- التدريب على الأعمال العسكرية.

3- السمع والطاعة في المنشط والمكره.

وبرز هذا النظام في حرب فلسطين عام 1948م؛ حيث ضرب أروع الأمثال في الجهاد وكبَّل العدوَّ الصهيوني خسائر جسيمة، وذلك بشهادة اللواء أحمد المواوي وفؤاد صادق والحاج أمين الحسيني مفتى فلسطين، كما برز دوره في حرب القنال عام 1951م في نسف مخازن السلاح الإنجليزي وغيرها من المهامّ.

في باكستان

ولم يقتصر دور صالح عشماوي على ذلك فحسب، بل كان مبعوث الإخوان المسلمين لدولة الهند والباكستان، والتي كان زعيمها محمد علي جناح عام 1947م؛ حيث توجه وهو يحمل رسالةً من الإمام البنا لمحمد نجاح رئيس الدولة، وقد زار المدارس وبعض المنشآت الباكستانية، وفي هذا يقول: "لقد أتيت إلى الهند لكي أنشر دعوة الإخوان المسلمين"، وافتَتَح فروعًا للإخوان والأخوات فيها، وقال الإمام البنا فيه في رسالته لمحمد جناح: "وإني أقدم إلى حضراتكم الأخ المجاهد الأستاذ صالح عشماوي- وكيل الإخوان المسلمين ورئيس تحرير جريدتكم- التي لا تدع فرصةً تمر دون القيام بالواجب في تقوية الصلة بين الرأي العام المصري والباكستاني".

نشاطه الدعوي وإدارة الأزمات

منذ أن التحق صالح عشماوي بدعوة الإخوان عام 1937م، وقد أخضع نفسه وماله ووقته لخدمة الدعوة، فاختير عضوًا في مكتب الإرشاد في سبتمبر 1939م تقريبًا، وكان ذلك بعد حفل المؤتمر الخامس، وأصبح جنديًّا خدومًا لدعوته لم يشغله عنها شيء وأخذ يباشر أعمال المركز العام في وجود الإمام البنا أو في غيابه، وتم انتخابه وكيلاً للجماعة عام 1946م= 1365هـ، خاصةً بعد فصل الأستاذ أحمد السكري والدكتور إبراهيم حسن من الجماعة، فيما عُرف بـ"فتنة السكري".

رشَّح نفسه في انتخابات 1945م؛ بناءً على التوصيات التي وردت في رسالة المؤتمر السادس بخوض الإخوان للانتخابات، ورشَّح الأستاذ عبد الحكيم عابدين نفسه عن دائرة فيدمين الفيوم، والأستاذ عبد الفتاح البساطي عن دائرة بندر الفيوم، والسيد محمد حامد أبو النصر عن دائرة منفلوط، غير أن الانتخابات زوَّرتها السلطة ضدهم!

وقد عمل عشماوي مع إخوانه على عودة الجماعة وإلغاء قرار الحل، حتى إنه قاد مظاهرة أمام البرلمان المصري في 18 أبريل 1951م لإسقاط قانون نظام الجمعيات، والمطالبة بعودة الجماعة، وفعلاً صدَّق البرلمان على إسقاط هذا القانون، وفي 30 أبريل 1951 سقط الأمر العسكري بحلِّ الإخوان، واستمرَّ في الجماعة حتى حدثت بعض الخلاف في وجهات النظر بينه وبين بعض الإخوان ترك الجماعة على إثرها، غير أنه عاد الى أحضان دعوته وإخوانه بعد خروجهم من المعتقل في السبعينيات، وظل محافظًا على صحيفة (الدعوة) حتى خرجوا وقدمها لهم.

كاتب صحفي

ترك صالح عشماوي تراثًا عظيمًا من الكتابات لم يظهر حتى الآن؛ حيث تُعتبر كتاباته قريبةَ الشبه بكتابات الإمام البنا في الأسلوب والتعبير، برزت موهبته في الكتابة، فولاَّه الإمام البنا رئاسة تحرير مجلة (النذير)، والتي صدرت في 30 من ربيع الأول 1357هـ، الموافق 30 مايو 1938م، وظلت تصدر باسم الإخوان حتى تركها الإمام البنا فيما عُرف بـ"فتنة شباب محمد"، وتوقفت عن الصدور باسم الإخوان من 28 من ذي القعدة 1358هـ الموافق 8 يناير 1940م.

وعندما أصدر الإخوان مجلة الإخوان النصف شهرية في 17 من شعبان 1361هـ، الموافق 29 أغسطس 1942م تولى الأستاذ صالح عشماوي رئاسة تحريرها حتى توقفت عن الصدور في 26 من محرم 1368هـ الموافق 27 نوفمبر 1948م قرب حل الجماعة والذي كان في 8 ديسمبر 1948م.

وفي 3 جماد الآخر 1365هـ، الموافق 5 مايو 1946 صدرت جريدة "الإخوان المسلمين" اليومية، ورأَس تحريرها الأستاذ زكريا خورشيد حتى العدد 383 الذي صدر في 20 يوليو 1947م، انتقلت رئاسة التحرير للأستاذ صالح عشماوي، وظلت الجريدة تصدر حتى توقفت في 2 من صفر 1368هـ، الموافق 3 ديسمبر 1948م.

وفي 13 شعبان 1369هـ، الموافق 30 مايو 1950م أصدر الأستاذ صالح أول عدد من مجلة المباحث القضائية، والتي كانت تنطق باسم الإخوان، وتوقفت في 15 من ربيع الثاني 1370هـ، الموافق 23 يناير 1951م.

وعمل- رحمه الله- على استصدار صحيفة للإخوان، وتم ذلك عندما صدر قرار بإصدار صحيفة "الدعوة"، والتي صدر العدد الأول منها في 22 من ربيع الثاني 1370هـ الموافق 30 يناير 1951م، غير أنها توقَّفت في 24 من ربيع الثاني 1373هـ، الموافق 1 ديسمبر 1953م، وأُعيد فتحها مرةً أخرى بعد خروج الإخوان من المعتقلات، فصدرت مرةً أخرى عام 1976م، غير أنها توقفت مرة ثالثة في محنة سبتمبر 1981م، وبعدها اعتُقل الأستاذ صالح مع من اعتُقل وأفرج عنه بعد مقتل السادات.

وقد اهتم بكل نواحي مجالات الكتابة؛ فقد كتب في الأمور السياسية وكانت مقالاته تتميز بالقوة والجرأة والصراحة، وبخاصة ما كان منها ضد الظلم والطغيان والاستبداد السياسي، الذي كانت تمارسه الحكومات العميلة المدعومة من الاستعمار الأجنبي وبخاصة الإنجليزي والفرنسي.

وكتب في نواحي الإصلاح الاجتماعي؛ فحين نشرت مجلة "المصور" صورةً غير كريمة لوزير الأوقاف عندما حضر حفلاً دعت له هدى شعراوي في بيتها، كتب الأستاذ صالح عشماوي مقالةً بعنوان: (هذه العمامة نبرأ منها إلى الله ونستعدي عليها جلالة الملك).

وكتب في المجال الدعوي ردًّا على الذين طالبوا بتغيير العمل تحت اسم الإخوان؛ فقال في مقالة قوية بعنوان (ثبات) جاء فيها: "إن الذين ملُّوا الكفاح، وضعفوا عن أعباء الجهاد، ويريدون أن يستريحوا باسم غير اسمهم، وبوجوه غير وجوههم، ولأهداف غير أهدافهم، أمرهم إلى الله، ونسأل لهم الهداية، ولهم أن يعتكفوا في صمت وهدوء، ولكن ليس لهم أن يحاولوا خداع أحد، أو يشقوا طريق المؤمنين الثابتين، أما المؤمنون الصادقون، فلن يعملوا باسم غير اسمهم، ولن يظهروا للناس بوجوه غير وجوههم، ولن يجاهدوا من أجل أهداف غير الأهداف التي قاتلوا في سبيلها، وسيفشل معهم كل إغراء ووعد، كما فشل من قبل كل بطش ووعيد ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)﴾ (الروم)".

أثنى عليه المستشار عبد الله العقيل في أعلامه، وتحدث عن دوره الصحفي الريادي؛ فقال: لقد كان بحقٍّ رائدَ الصحافة الإسلامية؛ حيث قام بتطويرها، وبذل كل جهد مستطاع لتحويلها من صحافة تقليديّة إلى صحافة حديثة، ملتزمة بمنهج الإسلام، ومستفيدة من الفن الصحفي المعاصر، الذي يُعنَى بالإخراج والخبر والتحقيق الصحافي، ويتابع الأحداث ويحللها ويعلّق عليها.

وأضاف العقيل قائلاً: التزم العشماوي الطابع الإسلامي المعاصر في عرض الخبر الصادق، بعيدًا عن التهويل والمبالغة والتشويش والإثارة التي تلجأ إليها بعض الصحف متخذةً الوسائل غير المشروعة للتسويق.

محنة ومنحة

تعرض الأستاذ صالح للمحن في الدعوة؛ فبعد حل الجماعة تم اعتقاله مع إخوانه وأودع سجن الطور؛ حيث ظل به حتى أُفرج عنه بعد أن أقال الملك وزارة إبراهيم عبد الهادي، التي اغتالت الإمام البنا في 12 فبراير 1949م، واعتقَلَت وعذَّبت الإخوان حتى عُرف عصره بالعسكري الأسود.

بعد اغتيال الإمام البنا كان معظم الإخوان خلف الأسوار، وبعد خروجهم أقام الأستاذ عبد الحكيم عابدين- سكرتير الجماعة- والأستاذ عبد الكريم منصور- صهر الإمام البنا- دعوة للمطالبة بإلغاء قانون الحل وعودة الجماعة وأملاكها، وفي 30 أبريل 1951م سقط الأمر العسكري وعادت الجماعة.

وفاته


توفي الأستاذ صالح عشماوي بعد كفاح طويل وعمل متواصل لأكثر من نصف قرن لخدمة الدعوة الإسلامية بلسانه وقلمه في يوم الإثنين الثامن من ربيع الأول 1404هـ، الموافق الثاني عشر من ديسمبر 1983م.

رحم الله الأستاذ المجاهد، وحشرنا الله وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.

-----------------

* المراجع:

1- جمعة أمين عبد العزيز، سلسلة كتب أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الرابع والخامس والسادس، دار التوزيع والنشر الإسلامية.

2 – أحمد عادل كمال، النقط فوق الحروف، الطبعة الثانية، الزهراء للإعلام العربي، 1409هـ، 1989م.

3- محمود عبد الحليم، الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ، الجزء الثالث، الطبعة الرابعة، دار الدعوة، 1985م.

4- شعيب الغباشي، صحافة الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2000م.

5 – محمد فتحي شعير، وسائل الإعلام المطبوعة في دعوة الإخوان المسلمين، الطبعة الأولى، دار المجتمع للنشر والتوزيع بالسعودية، 1985م.

6 - صحيفة الدعوة- العدد (21)، (22)- ربيع الأول 1398هـ/ فبراير 1978م، ربيع الثاني 1358هـ/ مارس 1978م.

7- عبد الله العقيل: من أعلام الحركة الإسلامية، دار التوزيع والنشر الاسلامية.