صادق أمين

إن الأخ الصادق حياته شوق إلى الله ؛ من أجله يضحي بالغالي و الرخيص و النفس و النفيس؛ حتى صارت حياته في هذا الجو الحركي النابض سعادةً لا يحلم بها أثرياء العالم، حتى و لو كانت حياته في ظاهرها متقشفة خشنة متواضعة محددوة؛ و لكن في قلبه من السعادة ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم إذ هو المقصود بالحديث القدسي: ( إن أغبط أوليائي عندي ـ أي أحق من يتمنى الناس مثل حاله ـ لمؤمنٌ خفيف الحاذ ـ أي خفيف الظهر من العيال و متع الحياة ـ ذو حظٍ من الصلاة أحسن عبادة ربه و أطاعه في السر و كان غامضا في الناس و لا يشار إليه بالأصابع و كان رزقه كفافا فصبر على ذلك ، ثم نقر ـ صلى الله عليه و سلم ـ بإصبعيه فقال : عُجلت منيته ، قلت بواكيه ، قل تراثه ) رواه الترمذي و حسنه ابن ماجه .

فإذا كانت هذي الحياة هنا، فلا تكن أنت هناك حيث قال صلى الله عليه و سلم : (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، إن أُعطِيَ رضي وإن مُنِع غضب، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ).

و أفضل منه ( طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنْ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ ) .

قد كبر الرب ـ سبحانه ـ في قلبه فصغرت الحياة ، نشيده ( وربك فكبر ) وكان على نهج إبراهيم عليه السلام إذ قال: ( لا أحب الآفلين ) ، همته تروض المستحيل و لا ترضى بالقليل ؛ إذ عرف قدر نفسه ؛ إنه يحمل الوحي آخر رسالات السماء إلى الأرض ؛ لذا ينام و يحلم و يستيقظ مجاهدا في سبيل الله ؛ أيقن يقينا لا ريب فيه أنه ستار القدرة و يأخذ الأجرة.

يمارس ضربا فريدا من الصبر عبر عنه الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ في تعليقه على قول الله تعالي (فاصبر إن وعد الله حق؛ فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون). غافر/77

( وهنا نقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق؛ إن هذا الرسول الذي يلاقي ما يلاقي من الأذى والتكذيب والكبر والكنود , يقال له ما مفهومه: أد واجبك وقف عنده؛ فأما النتائج فليست من أمرك، حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق بعض وعيد الله للمتكبرين المكذبين، ليس له أن يعلق به قلبه !؛ إنه يعمل وكفى؛ يؤدي واجبه ويمضي؛ فالأمر ليس أمره والقضية ليست قضيته؛ إن الأمر كله لله، والله يفعل به ما يريد .

يا لله ! يا للمرتقى العالي . ويا للأدب الكامل . الذي يأخذ الله به أصحاب هذه الدعوة . في شخص رسوله الكريم .

وإنه لأمر شاق على النفس البشرية، أمر يحتاج إلى الصبر على أشواق القلب البشري العنيفة، ألعله من أجل هذا كان التوجيه إلى الصبر في هذا الموضع من السورة؛ فلم يكن هذا تكراراً للأمر الذي سبق فيها، إنما كان توجيهاً إلى صبر من لون جديد، ربما كان أشق من الصبر على الإيذاء والكبر والتكذيب ؟!

إن احتجاز النفس البشرية عن الرغبة في أن ترى كيف يأخذ الله أعداءه وأعداء دعوته, بينما يقع عليها العداء والخصومة من أولئك الأعداء , أمر شديد على النفس صعيب، ولكنه الأدب الإلهي العالي , والإعداد الإلهي لأصفيائه المختارين, وتخليص النفس المختارة من كل شيء لها فيه أرب , حتى ولو كان هذا الأرب هو الانتصار من أعداء هذا الدين !

ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغي أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله في كل حين؛ فهذا هو حزام النجاة في خضم الرغائب, التي تبدو بريئة في أول الأمر, ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم !). أ.هـ

لأجل ذلك تلفى الأخ الصادق في رحلته مع كتيبة الحق إذا استُنفِر بادر و إن بادر أتقن و إن حمي الوطيس صبر؛ فارس بالنهار في ميدان الدعوة و الحياة و مناهضة الشر، يسحرك بأخلاقه وبالحق الذي بين جنبيه و بنفسيته التي أقبلت على الله ، متوهج توهج الأحجار الكريمة نور و لا نار، راهب بالليل قد نزع نفسه من بين أحضان الدنيا؛ يلتمس الرضا و العون من رب السماء؛ يدعوه :( اللهم ثبت قدمي في المضي على دربك و امنحني القوة للتضحية بالنفس في سبيلك و هب لي قوة الصبر و التحمل ) .

و ساعتئذ تحلو الطريق و تسمو النفوس، و تحدوها الأماني في ثواب ( والسابقون السابقون أولئك المقربون ).