د. حمدي شعيب

(ثُوَّار ما بعد الثورة)!؟.

تعبير رائع وموحٍ؛ قرأته في بعض الصحف يصف نوعية من الشخصيات السياسية والإعلامية والفكرية بل والقضائية؛ التي ابتلينا بها وقد أفرزتها مرحلة تداعيات ما بعد ثورتنا؛ وهم يشكلون ما يمكن أن نسميه (ظاهرة سارقي الفرح)!؟.

والغريب أن أبرز السمات المشتركة التي جمعت هذا الخليط؛ هي ظاهرة الجلبة أو الصراخ، حب الظهور، والولع بالسلطة، وعشق الوهج الإعلامي، والتنقل الممنهج والمستمر على الفضائيات، والتفنن في كشف عورات الآخر، ورفض قرارات الآخر، وأطروحات الآخر، وتوجهات الآخر، ومبادرات الآخر، وتاريخ الآخر، وإنجازات الآخر؛ خاصة إذا كانت خلفياته إسلامية!؟.

أو سياسة (أنا لك بالمرصاد)!؟.

تاريخك ... يا ... يا الميدان!؟:

ولعل أخطر سمة تميزهم؛ وتلك التي تخيفنا؛ هي تلك العملية الممنهجة لتشويه تاريخ الثورة وثوارها، ولكل ما هو جميل في ثورتنا.

وهي المحنة القاسية التي يعيشها رفقاء التحرير؛ خاصة الإسلاميين الآن؛ خاصة من صنع وشارك وحمى ثورتنا!.

لتحدث أقسى وأسرع عملية تزوير للتاريخ ففي خلال عامين فقط من عمر الثورة تحول الثائر إلى خائن، والمخلص إلى عميل!؟.

بل والأدهى من ذلك أن يتحول الخائن إلى ثائر يقود المظاهرات التي تطالب باستكمال أهداف الثورة التي ما قامت إلا ضده وضد النظام الذي اقتات على موائده، ويتحول العميل إلى رمز ثوري مخلص تسانده آلة إعلامية فاجرة بضجيج يصم آذان الجماهير ليل نهار!.

وتحول الميدان العظيم بسماته ومكوناته وشخوصه وأخلاقياته التي أبهرت العالم إلى النقيض؛ ليغدو مرتعاً للبلطجة وكل ما هو منافي للعرف وللثورة وللأخلاق بل وللرجولة وللعقلانية!؟.

وكأننا بالميدان المسكين يشكو حاله ويستدعي رفقاء زمنه الجميل!؟.

وكأننا كذلك بالتاريخ يشكو الميدان!؟.

الراقصون على جراح كعب!؟:

فكم هو قاسٍ على النفس أن تتعرض لمحنة!؟.

ولكن الأقسى هو أن يمارس البعض بجهل أو بتجاهل متعمد تشويه إنجازك العظيم بصمودك ونجاحك في اختبار محنتك!؟.

فهو ألم فوق الألم، أو أرزاء فوق الأرزاء؛ كما قال الشاعر:

رماني القومُ بالأرزاءِ حتــى ... فؤادي في غشاءٍ من نبـــــالِ

فصرتُ إذا أصابتني سهــامٌ ... تكسرت النصالُ على النصـــالِ

وهي اللمسة التربوية الرائعة في تجربة كعب رضي الله عنه، وشموخه أمام كل من رقص على جراح محنته!؟.

وكل من فهمه خطأ!؟.

وكل من حاول طمس جمال تجربته الرائدة في الصدق مع النفس قبل الصدق مع الآخرين!؟.

وكل من ظل حتى الآن يقرأ تجربته ويقصها؛ بل ويدرسها لتلاميذه ومحبيه؛ ثم ينسى ما يؤلم كعب رضي الله عنه!؟.

أيها الراقصون على جراح هذا الرقيق الشفوق والشاعر الجميل؛ استمعوا لهذا التصحيح والتنويه الخطير:

"قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله: وعلى الثلاثة الذين خلفوا".!؟.

وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه!؟". [البخاري]

هكذا يضع كعب رضي الله عنه أيدينا على المعنى الغائب لتخلفهم؛ إنه يعلن ويصرح ويناشد كل المتابعين لتجربته؛ إن التخلف ليس هو التخلف عن الغزو مع الحبيب صلى الله عليك وسلم!؟.

ولكن الصحيح والتوثيق في التخلف هنا؛ هو تخليفهم أي تأجيل وإرجاء البت في أمرهم حتى يقضي الله عز وجل في أقوالهم، وليختبر صدقهم، وليمحص هؤلاء القدوة!؟.

فحتى متى نرتكب هذه الأخطاء البالغة في حق الرقيق كعب وصحبه رضي الله عنهم، وفي حق تجاربنا، وفي حق تاريخنا، وفي حق قدواتنا، وفي حق من فجر وشارك وحمى ثورتنا؟!.

 فن صناعة الجلبة!؟:

أما الجلبة الإعلامية لهؤلاء الثوار الجدد؛ فتذكرنا بما جاء في إحدى قصص (كليلة ودمنة) أن (دبشليم) الملك سأل (بيدبا) الفيلسوف الحكيم عن فن صناعة الجلبة.

فقال الحكيم: ذات يوم سمع الأسد جلبة عظيمة في الغابة؛ فأرسل ثعلباً إلى مصدر الصوت؛ فتوجه الثعلب نحوه؛ فلما أتاه وجده ضخــماً, ووجد شجرة عظيمة معلق عليها طبلة عظيمة؛ وكلما هبت الريح على أغصان تلك الشجرة حرَكتها, فضربت الطبل, فسُمع له صوتٌ عظيم باهر؛ فعالجه حتى شقه، واستغرب أنه أجوف لا شيء فيه.

فعاد لملك الغابة يخبره؛ فابتسم وقال له: هكذا الأجوف هو الأعلى صوتاً، وأن أفشل الأشياء أجهرها صوتاً، وأعظمها جثة.

وهي الحقيقة التي تفضح طبيعة وسياسة هؤلاء الراقصين الآن على جراحنا وعلى جراح ثورتنا، وعلى جراح تاريخنا، وعلى دقات طبول الجلبة الإعلامية الماكرة!؟.

_______________
زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS)
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
[email protected]