د/ رفيق حبيب

تتجمع خيوط كثيرة في مسار المرحلة الانتقالية لتضع أمام الثورة العديد من التحديات، فالتوقعات الخاصة بمحاكمة مبارك، تؤدي إلى صدور حكم من الرأي العام، قبل حكم المحكمة، وتؤدي إلى توقع شهادات معينة من الشهود، أيًّا كان حقيقة ما يعرفونه، ومع كل جلسة للمحاكمة يقاس ما يحدث بالمتوقع، وكلما كان ما يحدث أقل من المتوقع، نصبح أمام حالة من الغضب الشعبي وحتى في الجلسات السرية، كما في شهادة المشير، نجد توقعات، ثم يتم الحكم على الجلسة، والتي لم يعرف ما حدث فيها، بناء على التوقعات، والخلاصة المتكررة أن ما يحدث لا يلبي تطلعات الشعب وأهالي الشهداء، رغم أن ما يحدث لا يمكن أن يحدد طبيعة الحكم الذي سيصدر في نهاية المحاكمة.

والأهم من هذا، أن مسار المحكمة تمَّ ربطه بمسار الثورة، وربما أيضًا بمسار المستقبل، وكأن المحاكمة ونتيجتها سوف تحدد مستقبل مصر، وكل هذا يحدث بسبب تشابك عدة عناصر متفاعلة في الوعي العام السائد، وكلها تتعلق بالتوقعات التي تنتشر بين الناس في أعقاب الثورة، رغم أن الثورات لا تنجز أهدافها في أسابيع أو شهور، ولكن لأن الثورة عملية تغيير واسعة، فكل ما يحدث يراه الناس بأنه مؤشر على ما سوف يحدث غدًا، وكأن الفشل في تحقيق هدف اليوم يعني الفشل في تحقيق كل الأهداف غدًا.

وداخل حالة القلق الوجداني التي يعيشها الشارع المصري، تتجمع عدة مواقف من قوى وتجمعات، تؤثر على حالة الوعي العام أو تتداخل معها أو توظفها، فهناك مجموعات ترى أن الثورة تبدأ بعملية هدم كاملة، وهذه المجموعات توسع من مجال الهدم المطلوب، حتى يشمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه، لذا تترقب هذه المجموعات شهادة المشير، وتحدد لها مضمونًا بدون توفر معلومات مؤكدة، وتجعل أي شهادة تخالف المضمون المتوقع، هي تواطؤ من المشير مع النظام السابق، وهذه المجموعات تعجِّل بالصدام مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وربما تريد أيضًا الدخول في صدام على الأرض مع الشرطة والجيش؛ لأنها تتصور أن عملية الهدم لم تكتمل، وتتصور أنها لن تكتمل إلا بتوسيع المواجهة في الشارع، والبقاء في ميدان التحرير، واستعادة صينية الميدان مرة أخرى، والاعتصام بها، وهذا السيناريو يؤدي إلى استمرار حالة الفوضى، والانفلات الأمني، كما يؤدي إلى إضعاف جهاز الدولة بصورة قد تؤثر عليه سلبًا؛ لأن هذا المسار يعتمد على الهدم دون البناء، وعملية الهدم تعمق حالة غياب الدولة بكلِّ أركانها.

ولكن هناك مجموعات أخرى متداخلة مع الأولى، وبعضها صاحب شعار الدستور أولاً، تريد تأجيل العملية السياسية ونقل السلطة من المجلس العسكري؛ حتى يتم بناء نظام سياسي تشارك في صنعه بدور مؤثر، أيا كانت شعبيتها في الشارع، ومعظم هذه المجموعات تنتمي للتيار العلماني، وتريد وضع دستور علماني أو شبه علماني، يحول دون بناء دولة لها مرجعية إسلامية، وتجد هذه المجموعات أن الوسيلة المناسبة لهذا هي الضغط على المجلس العسكري لتنفيذ مطالبها، أو توريط المجلس العسكري حتى يضطر لتسليم البلاد إلى مجلس رئاسي يختار من هذه المجموعات ويحقق مطالبها، وبالنسبة لهذه المجموعات تصبح المواجهة مع القوات المسلحة ضرورة من ضرورات الضغط عليها، لذا تصبح شهادة المشير في محاكمة مبارك، فرصة مهمة لتوجيه الاتهامات للمجلس العسكري، ومحاكمة المشير وشهادته.

وهناك أيضًا مجموعات تريد تأجيل الانتخابات بأي صورة، لأنها تريد ترتيب مصالحها أولاً، بعد أن كانت مصالحها مؤمنة في زمن النظام السابق، وهي تحاول إعادة ترتيب الأوراق، حتى تعرف دورها في المستقبل، وتضمن لنفسها دورًا مهمًا، خاصة مجموعات رجال الأعمال، والتي سيطرت على وسائل الإعلام في زمن النظام السابق وبعد الثورة، وتعمل على تسخين أو توتير الحالة العامة، وربما تعمل أيضًا على تهييج الجماهير؛ لأنها ترى أن البقاء في المرحلة الانتقالية أطول فترة ممكنة أفضل، ليس للاستمرار في عملية الهدم، بل من أجل تثبيت أركان سياسات النظام السابق، والتي تمثل التوجه العام الحامي لمصالح هذه المجموعات، والذي أسست مصالحها وشبكات علاقاتها بناء على هذه السياسات زمن النظام السابق، لذا تصبح المواجهة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مهمة لهذا الطرف حتى تمتد المرحلة الانتقالية، وهنا تصبح شهادة المشير مادة هامة لتحقيق ما يريده أصحاب هذا التوجه.

وهناك بقايا النظام السابق، والتي تريد لها دورًا في العملية السياسية، ولا تقبل أن تتنحى تمامًا عن الحياة العامة، وبعضها يريد إعادة بناء سياسات النظام السابق، وبعضها يريد أن يكون له دور في أي نظام يقام، وهذه المجموعات تحاول نشر التوتر في الشارع المصري بكلِّ الصور، حتى لا يتم إزاحتها عن المشهد، وتعتبر أن بقاءها في المشهد شرط لاستمرار عملية التحول السياسي الديمقراطي، وكلما شعرت بأنها سوف تهمش، تحاول توتير الأجواء مرة أخرى، وتأتي شهادة المشير، فنجد هذه المجموعات تحاول أن توحي بأن المشير معها، وأنه مع نظام مبارك، وهي بهذا تهيج الجماهير ضده، وتجعل من شهادته وسيلة لفتح الباب أمام المواجهة مع القوات المسلحة.

كل هذه السيناريوهات تحاول مد المرحلة الانتقالية لأسباب مختلفة، وكلها يمكن أن تؤدي إلى سيناريو الفوضى، نظرًا لهشاشة الوضع الحالي، وقابليته للانهيار، وكل هذه التوجهات تتجمع كثيرًا، للدفع نحو الخروج للتظاهر، واستعادة صينية الميدان والاعتصام، وتجمع الأهالي تحت عنوان القصاص للشهداء، وتحاول إدانة القوات المسلحة، وفتح المواجهة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خاصة مع المشير، لذا تصبح شهادة المشير مدخلاً مهمًّا لإعادة المحاولة من جديد، أي محاول العودة للمربع الأول، ولأيام الثورة الأولى، والبداية من جديد، فربما تكون هذه البداية مناسبة لتوجهات هذه المجموعات ومواقفها السياسية، وما تراه مصلحة لها ولمصر، من وجهة نظرها.