حازم سعيد :
طالعت بعجب شديد فزع كثير من أنصار الشرعية وتمحور نقاشاتهم خلال اليومين الماضيين حول تغير سياسة قناة الجزيرة مباشر مصر ثم غلقها ، وتابعت حالة الحزن التي انتابت كثيرين منهم .
أفهم أن تدور النقاشات بين المختصين بالإعلام ومن هم مسئولون عنهم وعن قيادة الثورة لتعويض خلل طارئ في منافذهم ومنابرهم ، خاصة مع مهنية الجزيرة وحرفيتها ، وأفهم أن يدور نقاش بيننا كأفراد ندعم الشرعية بأنفسنا ومالنا وفق بيعة بايعناها مع الله سبحانه كي يقوم كل واحد منا بدور يسد الخلل الذي تركته ولو بقدم في مفازة أو بحبة رمل في بناية عالية ...
ولكن أن يصل الأمر لانزعاج البعض وحزنهم وخوفهم ، فهذا ما لا أتصوره ولا أفهمه ولا أستوعبه ، ونحن الذين نعلم أنه مجرد منبر في النهاية ، حتى لو تعاظم دوره ، ونعلم أنه رغم وجود هذا المنبر فقد مرر الانقلابيون كثيراً من جرائمهم ومذابحهم وانتهاكاتهم ، وفوق ذلك كله – وهو الأهم والأعظم – فإننا نعلم أن النصر لا يأتي من منبر الجزيرة ، وإنما يأتي من عند الله العزيز الحكيم ، وأن هو القاهر فوق عباده ، فكيف نزعج أو نبتئس أو ننسى رب الكون المدبر للأمر !
تقاطع هذا مع مسودة كنت هيئتها للمقالة الجديدة حول بعض النقاط التي أراها مهمة لاستجلاب النصر – الذي هو من عند الله العزيز الحكيم – فزاد ذلك من عزمي على كتابة المقالة مع هذه الإشارة في المقدمة كي نلتفت – أفراداً وكيانات - إلى القواعد الأهم والأسباب الأولى – من مجرد منبر إعلامي مغلق - لاستجلاب النصر من عند الله سبحانه تأسيساً وتأصيلاً وتذكرةً ، والذكرى تنفع المؤمنين ، فإلى الموضوع :
أولاً : قواعد كلية في النصر :
أولها وأبسطها وأوضحها وفي نفس الوقت أعلاها وأعظمها وأجلها أن النصر من عند الله العزيز الحكيم ، وأنه لا يكون في كون الله إلا ما قدره الله ، وأنه لو اجتمع البشر كلهم على جلب منفعة أو دفع مفسدة فلن يستطيعوا إلا إذا أراد الله سبحانه ، وأنه لحكمة عنده يمكن للباطل إلى حين ، حتى يقوى عود المؤمنين ويشتد ويصلب وتصهرهم المحن والفتن والآلام ، وحتى يتهيؤوا لحمل أعباء إقامة الخلافة في الأرض ويعمروها على قواعد الحق والخير والعدل والتقوى ، فالحق يحتاج لبنيان قوي صلب يستطيع القيام به .
والمثل الحية في هذا الأمر أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً الصلاة والسلام ، وخذ خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام وهو يبتلى بالإلقاء في النار ( أيمكن الله سبحانه لعدوه من نبيه ورسوله حتى يضعه في النار ! ) ، وعندك يوسف عليه السلام وهو يلقى في الجب ، ثم لما ينسى ذلك ويتربى في القصور - ولأنه سيكون الأمين على خزائن الأرض - كان لابد له من تربية ربانية في ظاهرها محنة وهي في باطنها منحة إلهية ونفحة رحمانية فيسجن وينسى أمره لبضع سنين حتى إذا خرج من السجن كان الأمين الحفيظ ، وعندك موسى عليه السلام الذي يتربى في القصور ، ولكنه سيقود أمة كاملة ، فكان لابد له من الطرد والهرب والرعي والفلاحة حتى يقوى العود ويشتد ليعود يجابه فرعون ويقود أمة بني إسرائيل التي هي أعظم الأمم بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم لإزاحة فرعون عن عرشه .
وعندنا سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ينشؤه الله سبحانه يتيماً ويرعى الغنم ويحاصر في شعب أبي طالب ويكذبه قومه ويخرجوه من أرضه ويطرد أصحابه إلى الحبشة ثم يطرد هو وأصحابه إلى المدينة ويقتل أصحابه في أحد ويحاصر في الأحزاب ، حتى إذا ما اشتد العود وصلب وقوي وتربى معه وعلى يده أصحابه الكرام كانت الفتوحات والنصر المتتالي والحضارة الإسلامية الغالبة التي تمكنت عشرات القرون وسادت الأرض .
ومن هذه القواعد الكلية : أن الله رتب لتنزيل النصر على المؤمنين شرطاً أساسياً لازماً وهو تقوية الحبل المتين الذي يربط المؤمنين بربهم وخالقهم العظيم ، وهو سبحانه علمنا أنه قد مد هذا الحبل منذ الأمد ويحب أن يتعلق به عبده ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ... ) ، ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده .... ) .
وكذلك أن أي تقصير في توطيد هذه الآصرة الربانية لهو سبب في تأخير هذا النصر ، والقاعدة الذهبية في ذلك وصية أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص ، وهي النصيحة التي نغفل عنها كثيراً نحن جنود الرحمن فنبيح لأنفسنا - ما ليس لأمثالنا ولا لمن هم في مقاماتنا المعرفية والخبراتية – ما لا ينبغي من حظوظ النفس ومعصية الرحمن مع الغفلة عن أن ذلك يستلزم خروجنا من إطار الجندية والعبودية الحقيقية ...
انظر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول لسعد وهو قائد جيش الإسلام للعراق : " يا سعد، لا يغرنّك أن قيل: إنك خال رسول الله ؛ فإنه ليس لله نسب إلا الطاعة ، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بُعِث حتى فارقنا ، فالزمه فإن ذلك الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتَها ورغبت عنها حبِطَ عملك، وكنتَ من الخاسرين".
ومن القواعد الكلية - ولا أحصيها وإنما أذكر بنقاط مهمة فقط - في موضوع النصر أن للنصر معانٍ عدة أدناها ما يراه الناس من التمكين والغلبة الظاهرة لأهل الحق ، وأعلاها الثبات على الحق مهما كانت الإغراءات والابتلاءات والفتن ، وأن يقف المؤمن مواقف عزة وعلو وإباء مهما كانت التحديات أو المصاعب أو الأخطار ، والنموذج والمثال الحي بخلاف ما نراه من ثبات أهل الحق الآن هو نموذج أصحاب الأخدود ، الذين قضوا وفضلوا إيمانهم والتمسك بمنهجهم عن الحياة الدنيا فارتضوا الإلقاء في الأخاديد الملأى بالنيران على حياة دنيوية ذليلة على غير ما ارتضوا لأنفسهم ، وكذلك السحرة بعد أن آمنوا بموسي عليه السلام وفضلوا إيثار ما جاءهم من الحق ورضوا بالنكال الذي حاق بهم من فرعون على أن يذلوا أنفسهم بالعودة إلى ما صرفهم الله عنه من الشرك .
ثانياً : الإساءة للحبل الموصول مع السماء ، والانتقاص من مقام العبودية :
ولما تقدم من القواعد الكلية أركز لك هنا على الحذر من معاصي الجند فبها يهزم الجيش ، وانظر إلى وصية عمر الماضية وتلك كانت أثناء توديعه للجيش وكانت مشافهة ثم أرسل أخرى بعدها بحين وهي وصية حق لها أن تكتب بماء الذهب وأعيدها لك أخي القارئ لنتدبرها ونعيها معاً ، حيث ما أحوجنا إليها هذه الأيام ، كتب أمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله عه لسعد يقول :
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد.. فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العُدَّة على العدو، وأقوى العدة في الحرب .
وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا ولن نغلبهم بقوتنا".
من هنا ينبغي عليا نحن أنصار الشرعية وجند الحق أن نحذر من المعاصي وأخطرها معاصي القلب من الشرك الخفي والرياء وحب الشهرة والرئاسة .
ومعاصي الجوارح وعلى رأسها الخلوات بخلاف الغيبة ومعاصي الجوارح الأخرى ، ومن المضامين في هذا الباب والتي أحب أن أشير إليها ويكفيني الإشارة التي يفهمها اللبيب موضوع التعامل مع المال العام وأموال الصدقات والتبرعات وإنفاقها في حلها والتصرف المنضبط فيها وأن يأكل من يحق له الأكل من هذا المال العام - لاستحقاقه له بأوجه من الوجوه – بالمعروف ، وأن يراقب الله فيه وفي إنفاقه وفي نفسه وأهله ، والحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرمات ، ومن استبرأ فقد استبرأ لنفسه ، هذا ملف يبنغي على أولي الألباب أن يتفطنوا إليه ويتورعوا عنه ويهتموا برقابته ، حتى لا يكون سبباً في تأخير النصر .
ثالثاً : الأخذ بالأسباب :
من الأبواب المهمة التي ينبغي الإشارة لها في هذا الباب أن النصر والرزق والأجل كلها قضايا بيد الله سبحانه ، من هنا فإن أخذنا بالأسباب ليس هو ما يجلبها ، إلا ما كان من مثيل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء والقضاء يتعاركان " وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يرد القدر إلا الدعاء " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، على اعتبار أن الدعاء هو أحد الأسباب .
إذا كان الأمر كذلك فلماذا نسعى ونأخذ بالأسباب ؟ وكيف ينبغي أن يكون سعينا وأخذنا ؟ رغم أن النصر والرزق والأجل ليسوا مترتبين ترتباً مباشراً على السعي كما أزعم ؟
أقول أن السعي والأخذ بالأسباب هو تكليف نلتزم به عبادة لله وطاعة له سبحانه ، وليس مقدمة لنتيجة ، أو شرطاً لكينونة ، والله سبحانه يقول : " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ، وقال سبحانه : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " .
وطالما هو عبادة فإننا نمارسه بأقصى ما نستطيع من الإتقان والتجويد حسبة لله وطاعة له ، وابتغاء مرضاته التي توجب تنزل النصر على عباده المؤمنين .
فعلينا على قدر عظم من نعبد – جل جلاله - أن نجتهد في هذه العبادة فنجد وندأب ونعمل عقولنا في التفكير والتخطيط بأقصى ما نستطيع ، ونختار لكل وظيفة وكل مهمة من هو أرضى لله وأكثر قدرة وحنكة ومعرفة ومقدرة على القيام بها ، ونبتكر ونطور ونستفيد من الخبرات والتجارب الماضية ، ونعمل عقلنا بأشد ما نقدر على ترتيب النتائج على الأسباب والنظر لمآلات الأمور .
ثم بعد ذلك – وهو الأهم – نؤثر العملي على النظري ، وإن من أكثر ما أعلم أن دعوة الإخوان عليه ومن أعظم ما أحببته فيها هو إيثار العملي على النظري وأن الإخوان قوم عمليون ، لذلك فإنني أحذر أشد التحذير – إعذاراً إلى الله – من ظاهرة أراها " مقيتة " في كثير من طبقات الإخوان التي يطلق عليها قيادات وسيطة ، خاصة فيما هو من اللجان الفنية ، حيث يجلس أعضاء اللجان الساعات تلو الساعات تنظيراً وتأصيلاً وتدبراً وإمعاناً للنظر ، ثم إذا خرجوا بواجبات وتكليفات رأيتهم يمضون الأسبوع تلو الأسبوع بلا إنتاج ولا تنفيذ ، ثم لما يحين الموعد التالي إذا بالنظريات والأفكار والآراء والأطروحات ...
أيها القوم هذا مما لا يرضى الله ، وهذا مما ليست عليه دعوة الإخوان العملية التي تؤثر العمل والجهاد والتضحية والعطاء ، وتميز رجال الجهاد والعمل والكفاح على رجال النظريات والأقوال . وما أبرئ نفسي ....
وكل ذلك ينبغي علينا أن نفعله عبادة لله وطاعة له وحسبة عنده سبحانه ، وكلنا أمل ورجاء أن يرضى الله سبحانه عنا فينزل علينا نصره في الدنيا وسحائب رحمته في الآخرة .
كبسولات :
قرأت مقالة الإعلامي الإخواني الشهير الأستاذ أحمد منصور عن تجدد قيادات الإخوان وأن ذلك مما يفزع الانقلابيين ومن وراءهم من مدبري الانقلاب الحقيقيين ، وموضوع المقالة جيد رغم ما قد أختلف معه فيه من معلومات ( ومعلوماتي هنا أدق من معلوماته ) ، وكذلك ما قد أختلف معه من تثمين دور الشباب – وأنا في آخر العهد بمرحلتهم – أو من أن لازم تغير القيادة بالشباب أن تتطور الجماعة وتتغير ولا يقف في وجهها شئ . ومع اختلافي معه فلست ألومه في شئ من ذلك .
ولكن الذي ألومه عليه وأتمنى ممن تتلمذ على يد الأستاذ محمد هلال رحمه الله أن يتوقف عنه هو كثرة النقد الذي يسفه فيه قادةً ورموزاً للإخوان وشيوخاً كباراً ورثونا هذه الدعوة الطاهرة المباركة بدءاً من الرئيس النقي الطاهر محمد مرسي ومرورواً برفاق دربه من شيوخ وقادة هذه الجماعة ...
وهذا ألومه عليه هو وغيره – من كثيرين – ممن وجدوا ويوجدوا في سلم درجات هذه الجماعة ويشاركون أحياناً بالرأي والقرار ويعلمون الطريقة – الصواب والحق - الشورية التي تدير بها الجماعة أمورها فيكون صحيحاً ، حتى وإن بدا أن المآلات في ظاهر أمرها خاطئة . ورغم هذه المشاركة والمعرفة بل والتبني أثناء الحدث ، ثم حين تظهر المآلات ويبدو ظاهرها سيئاً إذا بهذا الذي شارك وانتدب وأيد ووافق ورضي وتبني ... إذا به ينتقد ؟!!! كيف ذلك ؟!!! وما محمد فؤاد جاب الله منا ببعيد .
وأنا هنا لا أرغب في الدخول بجدليات ، وإنما ألفت النظر إلى نقطة أهم وهي مراعاة مقام من ورثونا هذه الدعوة – حتى وإن أخطؤوا – فالله سبحانه علمنا بهذه الأية المباركة ألا ننسى حق معلمينا ومورثي الخير لنا وهداتنا إلى الحق ، فقال سبحانه في محكم كتابه : " ولا تنسوا الفضل بينكم " ... أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن لا ينسي فضل كل ذي فضل عليه .. اللهم آمين .
------------