بقلم : محمد منصور
 
يُحكى أن قطة كانت تتمتع بحاسة شم قوية، دخلت حظيرة مليئة بالأواني المنزلية، وفي داخل إحداهن سمك؛ فما كان إلا أن قادتها حاستهاالقوية ـ مباشرة ـ نحو الإناء المستهدف.
 
وفي مناسبة أخرى، تدخل قطة مزكومة؛ فأعياها البحث عن السمك، لفترة أطول من صاحبتها، و بعد عدة محاولات من الشم هنا و هناك و قلب الأواني، وصلت إليه.
 
وفي إحدى المرات، حُبست القطتان في الحظيرة، و أخذت كل منها ـ على حدة ـ تبحث عن مخرج لها؛ فأما الأولى صاحبة حاسة الشم الحاد ـ وهي ليست جائعة هذه المرة بل تريد الخروج ـ تحاول مرات عديدة و لكن من فتحة الحظيرة المغلقة فقط ، في حين أن القطة المزكومة تجد فتحة أخرى في وقت قياسي؛ ذلك أن تجربتها الأولي أمدتها بخريطة مفصلة عن المكان و مداخله و مخارجه، خلال تجوالها أول مرة، أما قطتنا الأولى ـ رغماً عن حاستها القوية في الشم ـ فقد فشلت في النهاية.
 
وما أشبه الشعب المصري بقطتنا الأولي؛ يومئذ أسقط النظام في 18 يوماً، و التي لم تكن كافية لإمداده بما يحفظ عليه ثورته و أن يدرك حجم الفساد الفعلي و لم تُتِحْ له تدريبا كافيا؛ يكسبه النفس الطويل؛ لتتبع و دخر الفساد المتغلغل حتى النخاع في مؤسسات الدولة و مفاصلها الحساسة و الغير الحساسة، وكذلك لم يكتمل لديه نمو الوعي و الإرادة و التحدي اللازمين لمواجهة الدولة العميقة المضادة للثورة؛ و ما كان إلا أن أُوتي من حيث لم يحتسب. 
 
و قد كان من آثار ذلك؛ الانقلاب المشؤوم و نجاحه في بلبلة الرأي العام و إحداث انقسام حاد في المجتمع، و ما كان الانقلاب قادرا على أن يحقق ذلك النجاح؛ لولا سذاجة الناس و مناخهم الفكري و السياسي الصالح لنمو هذه الفتن و استشرائها، وكانت المذابح المتتالية و الاعتقالات و المحاكمات؛ ففغر قطاع من الشعب فاه و أُسْقِطَ في يده و شُلَّ ذهنه عن التفكير و جمد في مكانه لبعض الوقت. 
 
و ما ذكرته لكم آنفا، ما كان إلا نبذة؛ تُعين على قراءة ما حدث في المشهد المصري، سطراً سطراً، ثم نضع نقطة و نبدأ من أول السطر لنقول:
 
ما مصيرنا ؟ و إلي متى نظل ألعوبة في يد كل خائن ؟ 
هل خلقنا الله لنكون مطية يركبها كل فاسد و انتهازي ؟ 
هل كتب علينا أن تبقى حياتنا سلسلة متصلة الحلقات من الإذلال و الضياع 
؟
و بالإجابة عما سبق؛ تترابط الخيوط و يستقيم فهم ما نحن فيه ومدى بشاعة الجريمة اليومية التي يواصلها الانقلاب، وهي جريمة يشارك فيها الطيبون بالسلبية و القعود عن الكفاح؛ خوفا من فوات رزق أو موت.
 
و الكثير لا يدرك أن الخوف يمكن أن يكون قوة ساحقة و يستطيع أن يُلحق هزائم بالناس، أكثر من أي قوة في العالم، و في نفس الوقت يقع كل ما نريده من حرية و عزة و كرامة و عدالة على الجانب الآخر من الخوف.
 
ففي غزوة الخندق ظل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و المسلمون وهم قرابة 1500 مقاتل، طيلة 34 يوماً على قدم و ساق؛ للعمل على صد الأحزاب، البالغ عددهم 10000 مقاتل، و لم يتدخل الوحي لحظة واحدة لوضع خطة مناسبة من السماء مباشرة ولم يسأل الصحابة ذلك، و لم تنزل الملائكة لحفر الخندق، مسافة أكثر من أربعة كيلومترات و بعمق أكثر من خمسة أمتار وعرض ما يقرب من ثمانية أمتار ف غضون 10 أيام في الوقت الذي لا توجد خطة بديلة عنه.
 
قاموا بهذا العمل من ألفه إلى يائه، تحت ضغط و مرارة التعب و السهر و الجوع و البرد الشديد، ولكن الإيمان بقضيتهم و حرصهم على العقيدة والعزة؛ أذهب عنهم الحزن و التعب؛ لأن الليالي النضالية الرهيبة امتداد ضخم لعمر طويل، ملئ بالحركة و الحيوية و الفكر .. حياة حافلة بكل ما تحمله كلمة " حياة " من معني.
 
بل كان الحذر كل الحذر، من الرغبة الآثمة في الهرب من الواجب، و كان المستحيل أن تُخذل تلك الإرادة الجبارة إرادة الحق الذي ينطلق في مواجهة الشرير، برغم اتساع الفارق بينهما؛ من حيث القوة المادية؛ لأن القوة المادية وحدها لا تخيف المؤمنين بالله.
و لأن كل منهم كما يقول الأستاذ: سيد قطب " قطرة في نهر الحياة و لكنها قطرة تحس بأهداف النهر من المضي و التدفق و الإرواء و الإحياء؛ و عندئذ تكون للحياة في نظره قيم أخرى.
 
و من بعد هذا البذل و العطاء الضخم في غزوة الأحزاب؛ قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا ).
 
نعم إذ بهذه الشخصية المؤمنة الواثقة بوعد الله و رسوله و المضحية بكل ما لديها، المستفرغة لكل طاقاتها و مواهبها؛ لا يجسر كائن من كان أن يقف في طريق نهضتها.
و لذا عندما قيل لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: مَنْ أعلم الناس ؟
قال : أعلم الناس أعرف الناس بالحق عند تخبط الناس، و لو كان قليل العمل يمشي على استه ).
 
أرأيتم كم هي منحة من الله ما نحن فيه و ماذا يريد بنا ولنا ؟
 
فقد أراد الله ـ عز شأنه ـ لنا منحة جديدة بكفاح جديد بإيمان جديد و مقاومة في استماته؛ لأن المعركة ليست ميؤوس منها؛ ( و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ).
و إذا بي ـ في الختام ـ أسمع صوت الشهيد سيد قطب و هو يقول:
 
( إن يوم الخلاص لقريب و إن الفجر ليبعث خيوطه، و إن النور سيتشقق به الأفق و لن ينام هذا الشعب بعد صحوته و لن يموت هذا الشعب بعد بعثه، و لو كان مقدرا له الموت لمات، و لن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحه؛ لأنها من روح الله؛ و الله حي لا يموت ).