بقلم - د/ عبدالجواد قنصوة 
رئيس المركز الإسلامي للتعليم 
شارلوت تورث كارولينا 
الولايات المتحدة الأمريكية 
 
 
بين الثورات والشعوب
ثورات الشعوب ، تقوم علي أوضاع فاسدة ، ونظم مستبدة ، ومظالم متعددة ، وآثرة متحكمة ، وهوي جامح، تسلب معه حقوق العباد ، وضروريات الحياة فضلا عن حاجاتها لصالح فئة غير مستحقة ، وعصابة مسيطرة ، ويصبح الإنسان مسلوب الحرية والكرامة ، مهان النفس والقيمة ، مستعبد ، مغلل الفكر والإرادة حتي والحركة.
وبهذه الاوضاع وأمثالها يتولد شعور الغضب ، ويتنامي الإحساس بالظلم ، حتي إذا لم يعد للإنسان طاقة علي الاحتمال ، أو صبر علي الضيم ، وأصبح لا يملك شيئا من حاجاته وضرورياته الأساسية ، ولم يعد لديه ما يفقده أو يبكي عليه .أو رأي أن قيمه ومبادئه وموروث آبائه بدأ في التاكل والتبدل والاستخفاف به وإهانته . عند ذلك يبدأ في الحراك والاحتجاج والثورة . 
أنواع الثورات  :
للأسباب السابقة نجد أن الثورات نوعان :
النوع الأول : ثورات قيم ومبادئ وأفكار وأيدلوجيات .
النوع الثاني : ثورات حاجات وضروريات .
ومن عجيب الأقدار أن الحاكم المستبد الظالم لا يقدر علي الاتيان بمظالمه إلا في ظل غياب الوعي ومسخ الشعب . ولا يتم له ذلك إلا من طريق استخفاف الإنسان بفسقه وجهله وشهواته فيقدم له ذلك ، فيصبح لا يعرف حق من باطل ، يخاف من كل شئ ، مفرط في كل شئ حتي مقومات حياته ، كما قال الله عن بني إسرائيل في حياة الذل التي كانوا يعيشونها تحت الفرعون :" ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة " أي حياة ، وعندما وصف الله شعب الفرعون وما كانوا عليه من هوان وسبب ذلك فقال :" فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين " . كل هذا مما قدم لهم من باطل مزين ، وحق مدلس :قال تعالي :" يوحي بعضهم إلي بعض زخرف القول غرورا " ، وقال سبحانه عن الحق المدلس علي الناس ليرفضوه :" أتذر موسي وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك ".
النوع الأول : ثورات القيم والمبادئ 
فكلما كان الشعب واعيا مثقفا عارفا لحقوقه ملتزما بواجباته ، يعرف المعروف وينكرالمنكر ، 
يصبح عند ذلك شعب –في مجمله – يمتلك من الشجاعة والفاعلية وقوة الإرادة ما يجعله عصيا علي الظلم والاستخفاف والضيم ، وعندها تصبح الثورة علي الأوضاع الفاسدة والباطلة ثورة مبادئ وأفكار وقيم ، إذ أن الشعب يلتف حول دعاتها ويستجيب لندائها في المحافظة علي هويته ومبادئه ، ويصبح عند ذلك دعاة الثورة والثوار في حماية ومأمن من الظالم عن طريق شعوبهم فلا يسلموهم للباطل والفرعون ، وعلي هذا يلعب الفرعون ، فيقوم باتهام الدعاة والثائرين بأنهم دعاة فتنة وتغيير هوية وتكفير مجتمع وتحريف ملة قال تعالي :" أني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد " ويقول " فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ( 36 ) وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون ( 37 ) " . "مَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَٰذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ" .ويوصف الدعاة والثوار بكل نقيصة استعداءا للشعب عليهم ، حتي ينخدع الشعب بباطله ويحسبه علي الحق وغيره علي الباطل ، فيقف معه ويناصره – في مجمله – لكونه شعب عمي عليه الأمر وغيب ردحا من الزمان ، حتي يقول الملأ منه استنهاضا للفرعون وحفزا له في مقاومة الدعاة والثوار "أتذر موسي وقومه ليفسدوا في ألأرض ويذرك وآلهتك " إنه التفويض القديم الجديد ، فيكون الرد " سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون " . 
أما في الشعوب الواعية والناضجة فالوضع غير ذلك  ،إلتفاف حول الدعاة وأصحاب المبادئ ودعاة التغيير وأصحاب الثورات شدا من أذرهم وحماية لهم ومدافعة معهم للباطل ، قال الله عن شعيب وإلتفاف رهطه حوله وعدم إسلامه للباطل والفرعون (الحاكم ) :" ولولا رهطك لرجمناك " وقال أصحاب محمد لمحمد صلي الله عليه وسلم :( والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسي لموسي "إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ولكن نقول لك إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا واحدا عنك ، إنا لقوم صبر في الحرب صدق عند اللقاء ، والله نسأل أن يرك منا خيرا ).
النوع الثاني :ثورات الضروريات والحاجات  .
وكلما كان الشعب مغيبا مجهلا ، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، منشغلا بقوت يومه ، وتدبير 
حاجاته ، لا يجد سعة في الوقت ولا فرصة للراحة والتفكير ومطحونا في تغطية ضرورات وحاجات أسرته ومن يعول ، كانت – والحال هكذا – القدرة علي الحراك بطيئة ، والتفاعل مع دعاة الثورة ضعيفة أو منعدمة ، بل قد تعد حينها نوع من الترف الفكري ، ويأتي في سلم الأوليات قبلها الكثير، خاصة في ظل الأوضاع الاجتماعية المقطعة الأوصال ، والتي لايسأل فيها أحد عن الأخر ، وغابت قيم التكافل والتضامن الاجتماعي فيصبح الإنسان منشغلا بنفسه لا بغيره ، وتصبح الحركة والاستجابة بطيئة أو منعدمة ، وحينها يرتع الظالم ، ويشتد قسوة وإفساد ونهبا للمقدرات ويزداد الفقير فقرا والجاهل جهلا والثري فحشا ، وهكذا يظل المجتمع منجرفا إلي الهاوية . 
وبهذا يصبح المجتمع والفرد مكبل بأغلال كثيرة ، منسحقا لضغط الضرورة ونداء الحاجة وعوز الأيام التي لا يجدها ويصعب أو تتوقف بدونها الحياة ، ومن هنا تبدأ ثورات الجياع والمهمشين ، الذين لايجدون ما يقيم حياتهم  . ولهذا وجدنا سيدنا عمر رضي الله عنه يقول :" لو كان الفقر رجلا لقتلته " ويقول رضي الله عنه :" عجبت لمن لا يجد قوت يومه  كيف لا يخرج علي الناس بسيفه " ووجدنا الله سبحانه يفرض علي الأغنياء حركة أموالهم واستثمارها حتي لا تأكلها الزكاة ولا تكون دولة بينهم فلا ينتفع منها الفقراء " كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم " وجعل للفقير فيها حق معلوم " وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم "وهو الزكاة ثم الصدقات وهي غير محددة . 
وعليه فيجب علي الدعاة والثائرين أن يدركوا خصائص الشعوب وطبائع المرحلة وظروف الناس فضلا عن مقومات الزمان وإمكانات الخصوم وأدواتهم ووسائلهم في التوجيه والسيطرة والمغالبة ، حتي يكون الحراك حراكا صحيحا مناسبا مكافئا لوسائل الخصم وأفعاله وخططه في إدارة الصراع . فلا يعقل أن يخاطب مجتمع قبلي، بما يخاطب به مجتمع مدني ، ولا يعقل مخاطبة مجتمع مثقف بما يخاطب به مجتمع أمي، ولا يعقل مخاطبة محتمع أو فرد صاحب مصلحة وهوي ،بما يخاطب به إنسان صاحب مبدأ وفكرة ، ولا يعقل مخاطبة إنسان مرفه بما يخاطب به إنسان لا يملك قوت يومه أو دواء مرضه ، أو ثوب جسده ، ولهذا جاء في الاثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه " " حدِّثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " رواه البخاري ، وعن عبدالله بن مسعود قال: "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة". صحيح مسلم . وفي الغنية للشيخ عبد القادر قدس الله سره بلفظ :"أمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قدر عقولهم" ورواه الديلمي بسند ضعيف ،وإن كان في الحديث ضعف إلا أنه هنا 
يستدل به ويشهد له حديثا البخاري ومسلم السابقين .
لذا علي الثوار أن يفهموا ذلك ومنه ينطلقوا في التعامل مع الشعب والخصم بوسائل وأساليب وأدوات وخطط مناسبة ومكافئة ، ورحم الله عمر إذ يقول :"أنا لست بالخب ولكن لا يخدعني الخب" . 
من عقبات الطريق :
ومن عقبات الطريق التي تواجه الدعاة للتغيير والثوار في الحركة ، وجود  فئة حاسدة وأخري حاقدة، مقعدة ومثبطة عن العمل لا يهمهم إلا أنفسهم ، ولا يرجون للأمة خيرا علي يد غيرهم ، فلا هم عملوا ، ولا هم تركوا الناس يعملون وصدق الله القائل في مثلهم :" أم يحسدون الناس علي ما آتاهم الله من فضله " " (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا ( 18 ) أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا ( 19 ) الأحزاب). فيبدؤن في التثبيط  واتهام الثوار والدعاة بكل نقيصة ويتلمسون للبرءاء العيب ليظلوا في دائرة الضوء وحديث الناس ، وهما منهم أنهم بذلك يقومون بالحراك والعمل المطلوب ، وأنهم هم الأصوب والأفضل وما هي إلا أوهام عقول وأضغاث أحلام، وارتداء ثياب ثورة ليسوا منها في شئ ،وصدق من قال عنأمثالهم ( ثوار الفضائيات والغرف المغلقة ) فإذا ما جد الجد وجدتهم أو الفارين من الزحف والمنسحبين من الميدان ، متعللين بعلل هي أوهي من خيط العنكبوت ( سيطرة الأمن – غلق المنافذ – استعمال الرصاص الحي من الشرطة ) وكأنهم لا يعرفون أن الثورة والدعوة للإصلاح طريقها مفروش بالمتاعب والدماء وليست الورود والرياحين ،وقد تكفل الله لمثل هؤلاء بالفضيحة والرد إلي منزلتهم الحقيقية وإن انخدع فيهم الناس فترة من الزمن فإنما هي لنقاء الصفوف وتمحيص الصدور .
إن نكاية هؤلاء لن تدوم ولن تكون إلا أذي سرعان ما ينكشف ويزول كما قال الله سبحانه " لن يضروكم إلا أذي " وقد تكفل الله بالرد عن أصحاب الحق وحملة الخير وأصحاب الدعوات " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " وقال :"  إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون النحل  (128) ". 
ومن معوقات هؤلاء التشويش علي دعاة الحق ،وإثارة الشبهات حولهم، واتهامهم بالعمل لمصلحتهم الشخصية أو الفئوية دون حمل هموم الناس ومطالبهم ، ومطالبة حملة المشاعل بأن يتخلوا عن مطالبهم وشعارهم "ودوا لو تدهن فيدهنون " وقال عنهم " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ( 145 ) ". 
 والعمل مع مثل هؤلاء يتلخص في قول الله سبحانه :" قل الله ثم ذرهم " أن تمضي في طريقك لا تلوي علي شئ ، مشاورا ومستنصحا الخلصاء ورفقة الطريق وأصحاب الفن وتجارب الآخرين ، ثم الصبر علي الآذي حسبة لله تعالي والتوكل عليه واستمطار رحمته وعونه بعد استفراغ الجهد وبذل الطاقة " ومَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) " إبراهيم .وقال تعالي :" وقل اعملوا فسيري الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وقال صلي الله عليه وسلم " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " . 
وليكن معروفا لدي الجميع أمرين في مثل هذه المواقف والفتن لخصهما حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم :
الأول : من كان به خيرا فلن يضيعه الله وسيرده ردا جميلا وسيلحقه بنا "إن كان  به خيرا يلحقه الله بنا " لذا يجب علي الدعاة والثوار الكف عن الناس والأخرين ولا يردوا الإساءة بمثلها إمتثالا لقوله سبحانه " فأصفح الصفح الجميل " " فاصفح عنهم وقل سلام " لعل الله أن يري الحق حقا ، ويشرح الصدر فيجد من يفئ للحق طريقا للعودة وإلتحام الصفوف،فيكون جده مع الحق لا عليه ، ولذا قال معاوية رضي الله عنه :"لو أني بيني وبين الناس شعرة ما انقطقت" ، والقاعدة في الفتن احتمال الأذي والصبر علي المكاره وتحمل اللأواء من رفقاء الطريق "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك علي ظهرها من دابة  " وفي المعركة لاتقام حدود .فافهم فإنه دقيق.وليكن مثالنا في ذلك يعقوب عليه السلام عندما جاءه أبناؤه معتذرين فقال :" قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ( 92 ) " يوسف . وقد قالها محمد صلي الله عليه وسلم لقومه يوم الفتح حين أوصاهم علي أن يأتوه من قبل وجهه ويقولون له ما قاله أخوة يوسف لأبيهم .
والثاني :أن لا نأسي علي أحد ، ولا نقف نبكي أطلالا  ، وإنما لنا عبرة بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم :" عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والذي نفسي بيده لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد" رواه مسلم ." وإن كان غير ذلك أراحكم الله منه ".والله يقول :" لكي لا تأسوا علي ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " .ولا تدري أين الخير . 
لذا فعليك بما أوصاك الله به وفرضه عليك وهو العمل  والإخلا ص والحسبة لله سبحانه خدمة لعباده ودفاعا عن المظلومين ، وتنكيسا للباطل ورايته مستمدا العون منه والاتكال عليه ، غير منتظر لأحد أو من أحد العون والمدد ن فإن جاء فبها ونعمت وحسنت الصحبة ونعم الأنصار ، وإن كان غير ذلك فالله يصطفي من خلقه من يشاء ويختار ، وكل ميسر لما خلق له . 
وعليك أن لا تدفع ضريبة في  غير محلها ، أو تصارع في غير ميدان ، أو تحاول بعث أحياء من قبور فتلك مهمة الله وفي يوم القيامة ، وليس من الحكمة ضياع الجهد والعمر في غير ما طائل أو نتيجة مرجوة. " وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ".
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .