بقلم - عزت النمر :
أغرت حالة السيولة والضعف التي عاشتها مصر في أعقاب ثورة يناير قوى إقليمية ودولية للتأثير والتدخل الشديد في المشهد المصري .
تأثير القوى الإقليمية كان جديداً على مصر لأن بعضها كان ــ قبل الثورة ــ تابعاً للقرار المصري وبعضها كان في أحسن أحواله يحاول منافسة الدور المصري الإقليمي ولم يكن يستطع ذلك إلا في ملف أو اثنين لطبيعة تلك الملفات وقرب دولها والتأثير الطاغي للريال في تحريك سياستها وصناعة قادتها .
لن نتوقف كثيراً مع الدور والتأثير الإقليمي لهذه الدول باعتباره دوراً مؤقتاً وغلطة من غلطات التاريخ سيتخطاها الزمن غداً أو بعد غد خاصة وأننا حين نتناول هذه السياسات نقدا وتحليلاً نجد أن إحداها دولة حديثة عهد أصلاً بالممارسة السياسية وأنها لم تتعدى بعد طور المراهقة السياسية ولا يُنتظر لها أبعد من ذلك , أما الأخرى فهي تمارس شيخوخة سياسية تبعا لعتاقة أفكارها وهِرم قادتها.
التوقف كثيراً يكون مع الدور الأمريكي في صياغة وصناعة القرار المصري والسياسي في ماضيه وحاضره ومستقبله . معروف أن التداخل الأمريكي في الواقع المصري بدأ مبكراً ويمكن تقسيمه الى خمسة محطات كان لها أثر مهم في تشكيل السياسة المصرية والدور المصري الاقليمي والدولي .
في بدايات الحقبة الناصرية كان الوجود والتأثير الأمريكي في القرار المصري وتوجهاته السياسية كبير لكنه مستتر وغير معلن , في خريف تلك الحقبة وللظروف والأحداث تذبذبت العلاقة وشابها الغموض ,واستمر الوضع كذلك في أوائل حكم السادات لكنه تغير تماماً عقيب حرب أكتوبر, وكان التوصيف الأمثل للدور الامريكي وتأثيره على القرار المصري هو مقولة السادات نفسه أن 99% من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الأمريكية .
حُكْم مبارك وهو الأطول والأسوأ في تاريخ مصر الحديث , تنازل مبارك بكارثية عن أي دور مصري وارتضى بغباء أن تكون مصر تحت حكمه مجرد أداة من أدوات السياسة الأمريكية بل أصبحت مصر مبارك مجرد رقم في معادلة المصالح الأمريكية وحليفتها الكبرى إسرائيل.
قامت ثورة يناير واستطاع المصريون خلع مبارك واستبشروا خيراً بعد زوال حكمه وتحرير بلدهم من غبائه المفرط وعمالته الواضحة وتبعيته الذليلة , ظن المصريون حينها أنهم استردوا بلدهم وأنه قد آن لهم أن يشعروا بعزتهم ويديروا شئونهم بحرية واستقلال , وبالفعل تحقق لهم شيئاً من ذلك خلال حكم الرئيس محمد مرسي الذي حاول أن يفتح ذراعيه لعلاقات أوسع مع القوى العالمية وعلاقة أكثر توازنا وأقرب الى الندية مع الغول الأمريكي .
طبيعي أن هذا التطور النوعي للمسلك المصري لم يلق ارتياحا لدى صانع القرار الأمريكي الذي لا يرى في مصر إلا دولة مازالت تتلقى المساعدات الأمريكية وهو ما يستوجب ــ من وجهة نظرهم ــ أن تظل مصر تابعة لأمريكا وألا تغادر حظيرتها حتى ولو كان ذلك في أعقاب ثورة أتت برئيس مدني منتخب كحدث فارق في تاريخ مصر الحديث.
ثم كان الانقلاب على إرادة المصريين وعادت مصر الى حاكمها الأصلي وفرعونها القديم نظام يوليو العسكري فعادت مصر الى الحظيرة الأمريكية بل وزادت من تبعيتها رغبةً في دعم الانقلاب العسكري وأملاً في تثبيت أركانه ورجاءاً في صناعة كاريزما ما لشخصية هزيلة وقزم ضعيف هو شخص عبد الفتاح السيسي طفل أمريكا المدلل وفتى اسرائيل الجديد .
كل ما سبق هو حديث وتوصيف واقعي للأخطاء والخطايا التي تنقل بينها الأداء السياسي المصري في علاقته التاريخية بأمريكا , أما حينما نتناول السياسة الأمريكية في المحيط المصري فإننا سنواجه سؤالا يتحتم علينا الإجابة عليه هو : هل السياسة الأمريكية في مصر ناجحة أم فاشلة ؟ وهل هي تلك السياسة الرصينة العتيدة كما يشاع ؟ وعن أنها حقاً تؤثر ولا تتأثر وتغير ولا تتغير وتصنع الأحداث في نجاح لا يحتمل الفشل وقدرة لا يعتريها ضعف أو وهن ؟! .
أعتقد أن التاريخ الحديث يثبت أن السياسة الأمريكية خاصة في عهدها الجديد ليست ذلك المارد الجبار , كما أن اعتمادها على قوتها العسكرية أوقعها في أخطاء كارثية جعلها تتصرف أحياناً " كفتوة الحي"بالمصطلح البلدي المصري وهو اثبات للقوة أكثر منه تعبير عن نجاح في السياسة.
ببساطة يمكن القول أن النجاح المحسوب للسياسة الأمريكية في مصر هو نجاح كاذب يمكن أن نعزوه إلى الضعف والخور المصري أكثر منه الى الذكاء والخبرة الأمريكية , بتوصيف أعمق وتعبير أدق فإن مصر هزمت نفسها أكثر من نجاح السياسة الأمريكية في إخضاعها وإدارتها .
لإعتبارات عديدة فإن منطقة الشرق الاوسط مليئة بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية لذا يمكننا أن نقيم السياسة الأمريكية نجاحاً أو فشلاً بحسب تعاطيها وقدرتها على اكتشاف وتوجيه الأحداث في تلك المنطقة الملتهبة , وهنا نتوقف مع نموذج الفشل البادي للسياسة الأمريكية حينما تفاجأت بالربيع العربي ــ الذي انطلقت شرارته الأولى ــ في تونس رغم كل ما فيها من خبراء ومراكز وقوى وأساطين في السياسة والدبلوماسية .
قد يقول قائل أن الخطأ الأمريكي في قراءة الشأن التونسي مقبول خاصة وأن تونس ما هي الى حليف ثانوي محدود الأثر للمصالح الأمريكية , كما أن فجاءة الحدث يمكن أن نعتبرها عذراً بين يدي هذا الفشل والإخفاق . في الشأن المصري ليست ثمة أعذار خاصة أن ربيعها العربي وثورتها أتت تالية لثورة تونس , ومع ذلك لازلنا نذكر تصريحات الإدارة الأمريكية في بدايات الثورة المصرية على لسان هيلاري كلينتون حين قالت أن مصر ليست تونس وأن النظام المصري مستقر ولم يتعدى الأمر أيام قلائل إلا وسقط مبارك في صورة من صور الفشل الكامل للدبلوماسية الأمريكية ليس فقط في توقع الحدث بل في قراءته ومسايرته في بلد من أشد البلاد تماساً وتأثيرا في المصالح الاستراتيجية الامريكية.
ثمة دلالة أخرى نتوقف عندها أن أمريكا التي كانت تتباهي بأنها تصنع الأحداث وتحركها ومن تملك زمام المبادرة فيها فإنها تراجعت الى مستوى رد الفعل البليد لما يصنعه غيرها.
لا يخفى على أحد الدور الحاسم للأمريكان وسفيرتهم في القاهرة حينئذ في الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس الشرعي محمد مرسي وخلَّص أمريكا من نظامه المزعج .. هناك من يحسبه نجاحاً باهراً وعودة للقدرة الفاعلة الصانعة للحدث . هذا ليس صحيحاً لأنه ليس نجاحاً بقدر ما هو إستفادة من مفردات الواقع المصري الأسيف ونخبته العميله , آية الفشل الأمريكي أنها لم تستطع إفشال الرجل وإخراجه ديمقراطياً أو شعبياً كما جاء لكنها قبلت مضطرة بسيناريو الانقلاب وهو المخالف لمبادئها ما سبب لها ومازال احراج داخلي ودولي .
صورة أخرى من الفشل تواجه أمريكا الآن وهي التنازع القائم الآن بين ادارتها المختلفة في قراءة ما يحدث في المشهد المصري الآني وهروب أمريكا مما تراها واقعاً الى ما تتمناه ــ وهذا سمت الفشل السياسي ــ وهي تؤكد أن نظام السيسي مستقر وأنها تراهن عليه , في عودة لسقطتها قريبة وغباءها في التعاطي مع ثورة يناير بزعم استقرار نظام مبارك حينها.
ثمة وقفات في المشهد المصري لم نر قراءة أمريكية لها أو تعاطي مناسب معها ما يدلل على أخطاء كارثية للسياسة الأمريكية وينذر بفشل عاجل ومريع لها في الواقع المصري , أول هذه الوقفات هو التصاعد المستمر للحراك الشعبي في مصر والأمر مرشح للتزايد في مرحلته المقبلة.
ثانياً : نظرة داخل هذا الحراك لا يمكن بحال من الأحوال غض الطرف عن كثافة مكون الشباب في هذا الحراك في دلالة لا تخطأها عين أن المستقبل القريب في مصر لهذا الحراك وليس للعواجيز ولا المسنين الذين ذهبوا وحدهم لإنتخابات رئاسية فقيرة لا تمنح شرعية .
ثالثاً : لا يغيب عن المشهد تلك الصورة الرثة والباهتة لشخصية العصر وعنترته وأسد العسكرية وحامل ألقابها وصاحب الرقم القياسي في الترقي في الرتب العسكرية العليا في أشهر معدودة , حتى إذا تربع على عرش مصر ظهر في صورة مخجلة لا هي تحمل سمات الأسد ولا حتى تحافظ على كبرياء لرجل كان مديرا للمخابرات الحربية يوماً , لا شخصية قوية ولا فكر عميق ولا ذكاء بادي , بل بدت صورة هذيلة لاتحفظ لموقع هيبة ولا لبلد كرامة ولا تحتمل حتى القابلية للتلميع .. وصرنا نستبقي فيها ونبحث بعناء عن بقايا رجولة مفقودة أو ذكورة خافتة بله أن نجد فيها شيئاً من القيادة أو الزعامة.
رابعاً : الفشل الإداري والسياسي والأمني والإقتصادي الذي لا يبشر فقط بثورة قادمة ولكنه ينذر بموجة عاتية من الفوضى قد تعصف بكيان الدولة المصرية ومؤسساتها العتيدة في مصلحة مجهول يصعب قراءته أو التنبؤ به ..!
خامساً : في مثل هذا المشهد من العبث أن نسأل عن نزاهة القضاء أو مهنية الاعلام أو حرية الكلمة والتعبير أو ما للإنسان من حقوق فضلاً عن المرأة المصرية التي أصبحت في عهد السيسي بين التحرش أو الاغتصاب.
القائمة تطول في الوضع المصري وليست في حاجة لمزيد قراءة أو تمحيص واذا كانت السياسة الأمريكية لم تندم كثيرا على فشلها غلطتها في قراءة الوضع إبان ثورة يناير لأن المجس العسكري وسذاجة الثوار تداركت لها الموقف ولكون ثورة يناير كانت بلا قيادة ظاهرة ولأن أمريكا وأعداء ثورة يناير استفادوا بعدها من اختلاف شركاء الثورة .
الأمر مختلف فأمريكا أمام وضع يصعب إغماض العين عنه ولا صم الأذن تجاه خطورته وكارثيته لأن الفشل والتردد في قراءة المشهد المصري في موجته الثورية الحالية ينذر بأشد العواقب التي تخشاها أمريكا خاصة وأن الحراك الحالي سيكون له قيادة وأيدلوجية وحاضنه شعبية لن تكتفي بالتغيير في مصر لكنها ستحرك المشهد العربي كله في اطاحة عنيفة وتغييب قسري للوجود الأمريكا في المنطقة .