بقلم - عزت النمر  :


أنفقت أمريكا في العقود القليلة الماضية مليارات الدولارات وآلاف من القتلى ومثلهم من الجرحى والمصابين ـــ هم يقدرون إنسانهم ويعتبرون دمائهم غالية ــــ في حروب في افغانستان والصومال والعراق وغيرها , وخرجت أمريكا من هذه الحروب بمنافع قليلة ومساءلات وإقالات تعاني منها قيادات أمريكية حتى الآن ولعنات شعبية وتاريخية لم ولن تنتهي قبل وقت طويل. 

غباء الجمهوريين واستعلائهم وغرورهم بالقوة العسكرية وهوسهم بالحرب والقتال ترك لهم ذلك الإرث من القتلى والمصابين ووأثقل ذاكرتهم وسود صحائفهم , ويبدو أن صانع القرار الأمريكي بعد أن تجرع مرارات ذلك النزيف قرر الهروب من هذا النفق المظلم وبحث عن وسائل أخرى تحقق نفس الأثر بكلفة أقل ومخاطر أدنى.

كلمة السر والحل السحري لما ينشده الامريكيون وجدوه هناك حيث أنهكتهم الحرب وأذلت وجوههم , انها أفغانستان حالة النجاح الرخيص بعد حالة الفشل المكلف والخسائر الدامية .. انه التدخل الناعم محل التدخل الخشن لا هي الدبلوماسية ولا هي الحرب .. انها المخابرات , وأدواتها لحى وقيادات مفتونة بالزعامة وأخرى ساذجة متحمسة تُستخدم جميعها عن قصد أو عن غباء .

لا أقصد أن هناك نجاح أمريكي باهر في الحالة الافغانية ولكن أعني أن التحول من الحرب والاحتلال الى إدارة مخابراتية للملف وجدوا فيه ضالتهم حيث نتائج أعمق وتكلفة أقل , ما اعتبره المراقبون من الامريكيين ومن غيرهم نقطة تحول من فشل الى نجاح حتى أن الأمريكيين اعتمدوه كنموذج واستخدموه بنجاح أكثر في ملفات أخرى أشد تعقيداً وأكثر خطرا. 

النموذج الأمريكي المخابراتي الذي يمكن أن نطلق عليه القيادة من الخلف بات مناسباً أكثر لأمريكا الحاضر وهي أضعف من أمريكا قبل سنوات وإدارتها الجديدة التي تعد الأضعف على الإطلاق في العقود الأخيرها والتي أغراها ضعفها باعتماد ذلك النموذج كخطوة أولى وحل مبدئي للتعامل مع المشرق في ربيعه العربي والذي قد يستوعب المشكلة أو يمهد بهدوء للخطوة التالية أو حتى يفتح الباب للحل النهائي الذي قد يكون توجيه ضربة أو حتى تدخل عسكري.

يمكن القول أن نتاج النشاط الأمريكي في العقود القليلة الماضية خلف لهم سؤالا ليس له إلا إجابة واحدة وهو: لمَ تستثمر في الحرب بما فيها من مخاطر وتكاليف بينما تستطيع الاستثمار في عملاء خونة أو متحمسين أغبياء بلا مخاطر حقيقية وبتمويل أقل ؟! .

الأمر هين مجموعة من مهووسي الزعامة ولا بأس من أن ترتدي عمائم وتتزين بلحى يتم توجيهها أو إدارتها أو زرعها عن عمالة حيناً وعن سذاجة وغباء أحياناً كثيرة ويحتاج الملف في غالب الأحوال دعما مالياً كبيراً و"بروباجندا" إعلامية لزوم صناعة التنظيم وتجميل وشحن العمامة وتضخيم ونفخ الزعامة.

عوداً الى الحالة الأفغانية نستطيع أن نقول أمريكا خرجت من افغانستان ليس فقط بالنموذج المعتمد والفكر الجديد , لكنها وضعت يدها على ثروة هائلة وكنز ثمين تمثلت في ذلك الكم الكبير من الزعامات من المجاهدين العرب ومنهم قيادات هوت الزعامة العسكرية وظلت تبحث لها عن بيئة تستفرغ فيها هذا الهوس فكانت تلك ثروة حقيقية استثمرتها المخابرات الامريكية ولا بأس من الاستفاده منها وتنسيق هدفها. 

دولة الاسلام في العراق والشام .. داعش 

لاشك هي مقدمة طويلة لكني أراها ضرورة ملحة ومدخل لازم للحديث عن ظاهرة تُعد داعش صورة من صورها وحلقة من حلقاتها . وأبدأ حديثي عن داعش بجملة تساؤلات تكشف أجوبتها اللثام عنها خاصة مع حالة الضبابية الداكنة والغموض المقصود التي تسود المشهد, ومن هذه الاسئلة:
 
• هل داعش تنظيم قديم متجذر أم حديث ليس له عمق ولا تاريخ .. لا يزيد عمره عن 8 سنوات أو عشرة في أحسن الأحوال.

• هل هو تنظيم كثير عدده بمعنى أن تعداده بالملايين .. تقدير الخبراء في أكثر الأحوال من 5 الى 7 آلاف مقاتل.

• هل يتناسب عدده وتاريخه مع الهدف المعلن .. لا اعتقد خاصة وهدفة المعلن إقامة دولة الاسلام في العراق والشام كخطوة لإعادة الخلافة الإسلامية المفقودة .

•هل يتعاون على الأرض مع المشتركين معه في الهدف أو مع الاسلاميين عامة .. لا بل يقاتل الجميع ويكفرهم أحياناً (يقاتل الجيش الحر في سوريا , ويكفر حماس فلسطين والاخوان المسلمين ..! ).
 
• هل له انجازات على الأرض .. احياناً لكنها انجازات عسكرية غامضة تحتاج الى تفسير (طيران الأسد لا يقصف مواقع داعش).

• ما الصورة النهائية التي تكونت للتنظيم وبالتالي لهدفه المعلن .. النتيجة هي تشويه لكل ماهو اسلامي "هدف كان أو وسيلة".  

• وأخيراً السؤال الأهم في كل ما سبق هو من المستفيد على الأرض من وجود داعش بصورتها النهائية .. والإجابة ببساطة ومن الواقع هي الانظمة الاستبدادية ومن وراءها وكل الكارهين للإسلاميين وبخاصة الاسلام السياسي وتنظيماته وحركاته الأصيلة.

بنظرة أعمق يمكن القول أن تنظيم حديث العهد قليل العدد لا يتعاون مع التنظيمات الاسلامية التي يفترض أنها تجتمع معه في الهدف والغاية بل يقاتلها في سوريا , والواقع على الارض يقول أن الجيش السوري وطيران الاسد يضرب فقط المواقع التى لا تتمركز فيها قوات داعش كما أن ثوار سوريا الحقيقيين لا يشتركون في موقعة مع داعش ضد جيش الاسد الا يمنون بالهزيمة ويخرجون بأشد الخسائر ولا يستفيد منهم الا النظام السوري وداعميه من الخارج.

ثمة حقيقية يشهد بها الواقع أن الأثر المباشر لداعش في الداخل السوري هو محاربة الثوار واضعافهم ودل الجيش السوري على مقَاتِلهم , أما الأثر غير المباشر يتكفل به الإعلام الذي ضخم التنظيم وفخم انجازاته فيسلط الضوء على أخطاء داعش من قتل للنساء أو ذبح الأطفال وترويع المجتمع والقتل على أساس طائفي  وتقديم هذا السلوك الداعشي باعتباره هو النمط الطبيعي للحكم الاسلامي. 

والختام الطبيعي لهذا المشهد العبثي المصنوع بالكامل هو دعم نظام الأسد باعتبار أن سوريا تحت حكمه قد تكون سيئة لكنها أفضل حالاً وأقل خطراً منها تحت الحكم الإسلامي الغشوم الذي يهوى القتل ويجيد الانتقام والترويع ويحارب الإنسانية ويذل المجتمع , وهي مقدمة طبيعية لمزيد من غض الطرف عن سوءات وجرائم نظام الأسد وعذر لدعمه ومبرر رخيص لمسك اليد عن تسليح المعارضة.

هذا على المستوى المحلي ومداه القريب أما على المدى الإقليمي والاستراتيجي فالأمر يتعدى الحدود السورية الى الفضاء العربي كله بتدجين الوعي الجمعي فيه وتكوين صورة بائسة ومشينة لكل حل اسلامي وتشويه كارثي لنظام حكمه ومحاربة وهدم أي تصور مبدئي لما تعنيه الخلافة الإسلامية.

المهمة ذاتها والدور نفسه ما ستقوم به داعش في العراق لكن يسبق دور الإعلام الذي يبتلع الحراك الثورى الحقيقي و انتفاضة العشائر الذين هم العصب الرئيسي للشعب العراقي في ثورته التي بدأت , ويهضم ذلك كله ويصور المشهد ــ ظلماً وزوراً ــ على أنه هجوم من داعش على العراق وجيش العراق وشعب العراق ويكون ذلك مقدمه لتشويه ثورة العراقيين ضد المالكي الظلوم وحكومته الباغية تمهد لما هو أسوأ وتحافظ على صنيعة الاستعمار الأمريكي في العراق وربما كان ذلك دفعاً لحرب طائفية كارثية تأكل أخضر العراق ويابسه.

المآلات المتوقعة لتلك الصناعة الاعلامية المخابراتية في العراق شديدة التعقيد والخطورة لأنها ليست فقط غسيل لسمعة نظام المالكي لكنها قد تمهد لدور ايراني يعيد تشكيل خريطة المنطقة وتقسيمها بالتوافق مع الذئب الأمريكي في "سايكس بيكو" جديدة على حساب غفلة العرب وعمالة قياداتهم ولن يجدي نفعا حينها ندم أو استفاقة شيوخ الخليج.

على ذات السياق فان السيناريو المطروح يعجل بعملية تقسيم طائفي لدولة كانت يوماً تسمى العراق , وربما كان الأمر أبعد من ذلك بجر جيوش دول أخرى للمستنقع العراقي وانهاك الجميع ليبقى الكيان الصهيوني هو الكتلة الصلبة الوحيدة في المنطقة وما جيش السيسي ــ جيش مصر سابقاً ــ من ذلك ببعيد ولا تنس مقولته "مسافة السكة" وزيارة كيري الأخيرة ليست الا نذير شؤم بين يدي هذا المخطط اللعين.

ختاماً يمكن القول أن هذه هي المآلات والنتائج للأصابع المخابراتية في داخل أمتنا, وليست داعش إلا صورة من صورها وحلقة من حلقاتها ولو بحثنا لوجدنا دواعش كثيرة في واقعنا الأسيف تختلف أسماؤهم ومسيرتهم ومنبتهم وتاريخهم ومصادر تمويلهم لكنهم جميعاً يشتركون في دعم الاستبداد وإعادة الأنظمة القديمة ومحاربة الحراك الثوري والانتفاضات الشعبية وحركات التحرر , وطبعاً هم رأس الحربة في مواجهة الإسلام السياسي , بعضهم يعمل تحت لافتة الجهاد الإسلامي التي تناسب أحياناً كتنظيم بيت المقدس وغيره , أما لافتة العمل السياسي فلا يمكن بحال غض البصر عن عهر ودعارة ما يسمى بحزب النور.