بقلم : صادق  أمين


خطب جمال الدين الافغاني يوما في الهند فقال:
( يا أهل الهند ـ و عزة الحق و سر العدل ـ لو كنتم و أنتم تعدون بمئات الملايين ذباباً؛ لكان طنينكم وحده كافٍ ليصم آذان بريطانيا و يجعل في أذن كبيرهم وقرا ... لو كنتم سلاحف فأحطتم بجزيرة بريطانيا لجررتموها إلى البحر و عدتم إلى هندكم أحرارا.
و لما أنشأ الحاضرون يذرفون الدموع قال:
( اعلموا أن البكاء لا يُجديكم نفعاً، و السلطان محمود الغزنوي ما أتي إلى الهند إلا شاكي السلاح، و لا حيلة لقوم لا يستقبلون الموت في سبيل الاستقلال بثغر باسم ).
و يا ليت قومي يعلمون؛ إذ إدراكهم لقيمة إرادتهم في النضال هو الذي يقرر مصيرهم في الحرية و الكرامة؛ حتى لا يدعوا مصيرهم بين يدي سفاح يدعي و ينسب لنفسه ما ليس فيه، و يستأثر بكل شيء لا لشيء إلا أن يُرضي دافعا من أنانيته و حاجة نهمة في نفسه، و ليرضي ميولا شاذة و نفسية معقدة لا يحلها إلا خروج الروح منه.
و يبقى السؤال:
ما مصيرنا ؟ و إلي متى نظل ألعوبة في يد كل خائن ؟
هل خلقنا الله لنكون مطية يركبها كل فاسد و انتهازي ؟
هل كتب علينا أن تبقى حياتنا سلسلة متصلة الحلقات من الإذلال و الضياع ؟
و بالإجابة عما سبق؛ تترابط الخيوط و يستقيم فهم ما نحن فيه ومدى بشاعة الجريمة اليومية التي يواصلها النظام الانقلابي، وهي جريمة يشارك فيها الطيبون بالسلبية و القعود عن الكفاح؛ خوفا من فوات رزق أو موت.
و الكثير لا يدرك أن الخوف يمكن أن يكون قوة ساحقة و يستطيع أن يُلحق هزائم بالناس، أكثر من أي قوة في العالم، و في نفس الوقت يقع كل ما نريده من حرية و عزة و كرامة و عدالة على الجانب الآخر من الخوف.
وهذا ما نطقت به غزوة الخندق؛ حين ظل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و المسلمون وهم قرابة 1500 مقاتل، طيلة 34 يوماً على قدم و ساق؛ للعمل على صد الأحزاب، البالغ عددهم 10000 مقاتل، و لم يتدخل الوحي لحظة واحدة لوضع خطة مناسبة من السماء مباشرة ولم يسأل الصحابة ذلك، و لم تنزل الملائكة لحفر الخندق، مسافة أكثر من أربعة كيلومترات و بعمق أكثر من خمسة أمتار وعرض ما يقرب من ثمانية أمتار ف غضون 10 أيام في الوقت الذي لا توجد خطة بديلة عنه.
قاموا بهذا العمل من ألفه إلى يائه، تحت ضغط و مرارة التعب و السهر و الجوع و البرد الشديد، ولكن الإيمان بقضيتهم و حرصهم على العقيدة والعزة؛ أذهب عنهم الحزن و التعب؛ لأن الليالي النضالية الرهيبة امتداد ضخم لعمر طويل، ملئ بالحركة و الحيوية و الفكر  .. حياة حافلة بكل ما تحمله كلمة " حياة " من معني.
بل كان الحذر كل الحذر، من الرغبة الآثمة في الهرب من الواجب، و كان المستحيل أن تُخذل تلك الإرادة الجبارة إرادة الحق الذي ينطلق في مواجهة الشر، برغم اتساع الفارق بينهما؛ من حيث القوة المادية؛ لأن القوة المادية وحدها لا تخيف المؤمنين بالله.
و لأن كلاً منهم كما يقول الأستاذ: سيد قطب: ( قطرة في نهر الحياة و لكنها قطرة تحس بأهداف النهر من المضي و لتدفق و الإرواء و الإحياء؛ و عندئذ تكون للحياة في نظره قيم أخرى ).
و من بعد هذا البذل و العطاء الضخم في غزوة الأحزاب؛ قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( الآن نغزوهم ولا يغزوننا ).
نعم؛ إذ بهذه الشخصية المؤمنة الواثقة بوعد الله و رسوله و المضحية بكل ما لديها، المستفرغة لكل طاقاتها و مواهبها؛ لا يجسر كائن من كان أن يقف في طريق نهضتها.
و لذا عندما قيل لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: مَنْ أعلم الناس ؟
قال : أعلم الناس أعرف الناس بالحق عند تخبط الناس، و لو كان قليل العمل يمشي على استه ).
أرأيتم كم هي منحة من الله ما نحن فيه و ماذا يريد بنا ولنا ؟
فقد أراد الله ـ عز شأنه ـ لنا منحة جديدة بكفاح جديد بإيمان جديد و مقاومة في استماته؛ لأن المعركة ليست ميؤوس منها؛ ( و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ).
و إذا بي ـ في الختام ـ أسمع صوت الشهيد سيد قطب و هو يقول:
( إن يوم الخلاص لقريب و إن الفجر ليبعث خيوطه، و إن النور سيتشقق به الأفق و لن ينام هذا الشعب بعد صحوته و لن يموت هذا الشعب بعد بعثه، و لو كان مقدرا له الموت لمات، و لن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحه؛ لأنها من روح الله؛ و الله حي لا يموت ).